كثيرون في الحياة الثقافية العربية اليوم لا يعرفون سهيل إدريس ولا يعنيهم اسمه، إن لم يكونوا جاهلين به تماماً. ذلك الفتى النضر الوجه والقصير القامة الذي خرج من قلب بيروت ليضيء في الظلمة العربية أطول الشموع وأكثرها التصاقاً بالدمع. ووسط مجتمع بيروت المحافظ، خلع ذلك الفتى الشاب الخجول عمامته وجبته ووصايا والده ليلتحق بالسوربون، وليتصل بأفكار الحداثة وفلسفات التنوير، ويعود إلى مدينته محملاً بالوعود.
شخصية ثقافية مؤثرة
تميزت شخصية سهيل إدريس (1925 - 2008م) منذ بدايتها في العام 1940 بنزوع ثوري -إذا صح التعبير- متمردٍ على الطاعة العمياء، حين قرر الطالب المتخرج حديثاً من كلية المقاصد الإسلامية في بيروت وكلية فاروق الشرعية بعدها أن ينزع عنه الزي الديني المشايخي الذي صاحبه طوال خمس سنوات، وأن ينخرط في العمل الصحفي بثيابه المدنية، كمن يقرر أن يدخل العصر من أوسع أبوابه. وهذا ما هيأه لطموح عصري أكبر عبر عنه سريعاً في نهاية الأربعينات بالسفر إلى عاصمة النور باريس كي يلتحق بجامعتها الشهيرة (السوربون) ويحوز فيها الدكتوراه في الأدب العربي عام 1953م. وما كاد يعود حتى ترجم طموحه المتجدد باستمرار بإصداره مجلة الآداب الشهرية عام 1953م. مع سعيد فريحة كتب مقالاته الأولى في الصياد، قبل أن يراسل بيروت المساء من باريس، كما عمل في الجديد لصاحبها توفيق يوسف عواد. نزار قباني كان شريكه في تأسيس دار الآداب، بهيج عثمان ومنير البعلبكي أطلقا معه مجلة الآداب، اشتغل على عدد من القواميس بالتعاون مع جبور عبدالنور الذي شاركه في المنهل، الذي يعد معجماً شاملاً يضم آلاف الكلمات حيث ناف هذا القاموس على 1300 صفحة. كما عكف منذ أكثر من ربع قرن على تأليف (المنهل) العربي-الفرنسي و(المنهل) العربي-العربي بالاشتراك مع الدكتور صبحي الصالح والدكتور سماح إدريس. وفي عام 1968 أسس مع قسطنطين زريق وأدونيس وجوزيف مغيزل ومنير البعلبكي وغيرهم (اتحاد الكتاب اللبنانيين) الذي بقي أمينه العام لدورات متتالية (الأخبار 20 / 2 / 2008م).
ابن الخندق الغميق.. الشيخ الصغير
سهيل إدريس هو ابن بيئة بيروتية مسلمة محافظة، تلقى دراسته الابتدائية في كلية المقاصد الإسلامية ببيروت بين عامي 1930 و1935، والتحق بـ(كلية فاروق الشرعية) وارتدى الزي الديني طوال خمسة أعوام، ليتخلى عنه بعد تخرجه عام 1940. كان والده إمام مسجد، وهو ارتدى الجبة والعمة، وزوجته هي عائدة مطرجي وهي ابنة مفتي زحلة والبقاع. ومع ذلك صار تقدمياً وعلمانياً معاً. إنها رحلة متلاطمة في خضم هذا العياء العربي. شرع فيها سهيل إدريس غير هياب، فكان كوكباً حقيقياً في هذا السواد العربي الكبير، كما يقول الكاتب اللبناني، صقر أبو فخر (القدس العربي 27/2/2008)، كما أن نشأة الدكتور سهيل إدريس في أزهر لبنان لم تحل دون متابعة دراسته في باريس -حسب هشام نشابة- بل لعل هذه الدراسة الشرعية هي التي دفعته إلى طلب العلم في فرنسا والتعرف على كبار أدبائها من أمثال سارتر ودوفوار وجيد. كما أن هذه الدراسة هي التي جعلته يعود إلى وطنه ليكتب، بلغة عربية بليغة وأنيقة، روائع الأدب العربي، وليحث كل عربي على الغوص في تراثه ليستنبط منه مكامن التجديد والإبداع.
الناسك المعرفي.. السيرة البيروتية
اجتمعت في سهيل إدريس خصال وصفات متباينة ندر أن أسلمت نفسها لأحد. فإلى الجهد المضني والمثابرة البتولية، لديه رغبة لا تقاوم في اختراع الحياة والتهامها. كان حكاية تضم مئات الحكايات، ورؤية لخصت رؤى زمنه، وموقفاً ملتزماً لم ينس أن الحرية هي قضية الثقافة العربية الأولى. يقول الكاتب اللبناني إلياس خوري: (حمل سهيل إدريس على منكبيه أعباء أجيال النهضة العربية الثانية، في مواجهة الشاعر اللبناني يوسف الخال، مؤسس مجلة شعر، واعتبر يومها الدكتور إدريس، أن مؤامرة إمبريالية غربية تقف وراء شعراء النثر). وكانت تضم الآداب إليها كوكبة من الشعراء والكتاب (نازك الملائكة، إبراهيم العريض، سميح قاسم، صلاح عبدالصبور وغيرهم) الذين أبدوا حرصاً أكبر على بعض قواعد النظم (شعر التفعيلة، والشعر الحر) من زملائهم في مجلة (شعر). يقول الشاعر شوقي بزيع: فإن من الظلم أن لا نرى من سهيل إدريس سوى دوره المحرض والمحرك والمنشط الثقافي. ذلك أن دوره الريادي في تأسيس الرواية العربية ونهوضها لا يقل عن أدواره الأخرى (الآداب 3/1/2008 ص6). فروايته الحي اللاتيني، بتقنياتها الجديدة وطروحاتها الإنسانية والحضارية وأسلوبها الواقعي الرشيق، هي إحدى العلامات السردية الفارقة، ليس في زمنها وحسب، بل في الأزمنة اللاحقة لصدورها أيضاً. وما يصح على الحي اللاتيني يصح على الخندق الغميق وأصابعنا التي تحترق، حيث نرى الصورة الأكثر تجسيداً لروح بيروت الممزقة بين الخيارات والمتناهية بين قيود الماضي ونداءات المستقبل. وأن روايته الأشهر الحي اللاتيني أسهمت مع روايات أديب لطه حسين، وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وقنديل أم هاشم ليحيى حقي، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح. وغيرها، في سرد العلاقة الشائكة والملتبسة بين الشرق والغرب والفجوة الحضارية بينهما، وهو الموضوع الذي احتل حيزاً مهماً في المشهد الروائي والنقدي العربي.
صانع المشاريع.. عراب زمن وجيل
كان سهيل إدريس من أوائل من مزج الفكر العربي بالثقافة الغربية، من خلال اهتمامه بالأدب الوجودي والفلسفة الوجودية، وبالترجمات التي فتح دار الآداب لها، وكان إدريس قد احتضن عدداً كبيراً من الأدباء العرب من جيل الخمسينات والستينات، أمثال: صلاح عبدالصبور، ورجاء النقاش، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وأمل دنقل، وجابر عصفور، وجمال الغيطاني، وغيرهم. كما وجد سهيل إدريس في سارتر وألبير كامو ما يعينه على مواجهة الكتاب والمثقفين الماركسيين العرب. كتب سهيل إدريس القصة والمقالة والدراسة النقدية والسيرة الذاتية. ترجم أعمالاً عدة عن الفرنسية، التنوع والموسوعية وتعدد المواهب والاهتمامات كانت سمة من سمات جيل سهيل إدريس الذي لم يتأخر في ابتكار سمات مشابهة ظلت ملازمة وملتصقة باسمه. كان إدريس صانع أقمار في الأدب والشعر والثقافة طوال نحو خمسين سنة متواصلة. له ثلاث روايات: (الحي اللاتيني 1953)، و(الخندق الغميق 1958)، و(وأصابعنا التي تحترق 1962)، وست مجموعات قصصية: (أشواق 1947)، و(نيران وثلوج 1948)، و(كلهن نساء 1949)، و(الدمع المر 1956)، و(رحماك يا دمشق 1965)، و(العراء 1973)، ومسرحيتان: (الشهداء 1965)، و(زهرة من دم 1969).
برحيل سهيل إدريس بتاريخ 18 / 2 / 2008م، فقد الوسط الثقافي العربي مؤسساً صلباً، ومبدعاً كبيراً، ورائداً من رواد النهضة العربية والحداثة والجدة بأبهى صورها المعاصرة.