مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

ظاهرة المؤلفات المجهول أصحابها في التاريخ الإسلامي

يزخر التاريخ الإسلامي على امتداد مساره الطويل بماض حافل وأحداث مهمة، أسهم في تدوينها أشخاص من أقوام مختلفة وبدرجات متفاوتة، وإذا تحدثنا عن ذيوع الكتابة التاريخية في الأقطار الإسلامية، فإن الفقهاء والعلماء والمحدثين وكتاب التراجم هم من أرسوا دعائم هذا العلم وجعلوا له قواعد وأسساً، حيث جمعوا الأخبار والمعلومات وأعدوها فاكتست بالتدرج طابعاً واعياً وهادفاً.
وتعد المصادر التاريخية بشتى أصنافها كنزاً ثميناً للمؤرخين والباحثين المتخصصين في هذا الشأن، وهي بالنسبة للدراسات الإنسانية عامة والتاريخية خاصة المورد والمعين، بل عماد البحث وقوامه، ومن هنا تظهر أهمية الخبر التاريخي المتضمن في هذه المدونات، بل وتتحدد معها مسؤولية المؤرخ الناقد في معرفة المصادر وكنهها وهوية صاحبها، وكذا ترتيب هذه المصادر وتصنيفها وحسن تبويبها والاستفادة منها.
وثمة شيء ملفت للانتباه بالنسبة للدارس المتصفح للتراث التاريخي الإسلامي، وهو وجود ظاهرة مميزة، نعني بها تلك الكتب مجهولة المؤلِّف، وهي ظاهرة تستحق الوقوف عندها بالتحليل والتفسير والمناقشة، للكشف عن مضمون نصوصها ومعرفة قيمتها التأريخية والتوثيقة والفنية، نظراً لأهميتها وتفردها بين كتب التاريخ.
ومن المعلوم أن كل كتاب كامل يكون معلوم العنوان والمؤلف والمحتوى، لكن لسبب من الأسباب قد يصيبه التلف فتذهب غاشية واجهته أو ظهره، وهي التي غالباً ما يُدون عليها العنوان واسم المؤلف فيغدو الكتاب المعلوم مجهولاً، والجهالة في الكتاب تشمل جهالة موضوعه وعنوانه واسم مؤلفه، فمن الكتب ما يُعرف موضوعه لكن يجهل عنوانه واسم مؤلفه، ومنها ما يعرف موضوعه وعنوانه ويجهل اسم مؤلفه، ومنها ما يعرف مؤلفه ويجهل عنوانه وموضوعه، ولذلك نصادف في المكتبات مثل هذه التعابير: (كتاب مجهول المؤلف)، (كتاب كذا لمؤلف مجهول)، (كتاب لفلان). غير أننا في هذه المداخلة سنركز على الكتب المجهول أصحابها، لكونها الأكثر انتشاراً في حقل التاريخ الإسلامي.
وتكمن أهمية المؤلفات المجهول أصحابها في كون الكثير منها يمكن إخراجه من حيز الجهالة فيصير مؤلفه معلوماً بعد الدراسة والفحص الداخلي والخارجي، فهناك طرق علمية إذا سلكها الباحث المحقق قد يستطيع الكشف عن اسم صاحب الكتاب، وقد أظهر البحث أهمية الكثير من هذه المؤلفات في كتابة التاريخ الإسلامي مشرقاً ومغرباً، على اعتبار أنها تعد مصادر مهمة لا محيد عنها لأي باحث، فهي تحوي معلومات قد لا يجدها في المصادر المعلوم أصحابها.
كما أن ظاهرة المؤلفات المجهول أصحابها لا تقتصر على بلد معين دون غيره، وإنما هي معممة على جميع الأقطار الإسلامية، كما أن هذه الظاهرة لا تخص حقبة زمنية دون غيرها، وإنما نجدها في جميع العصور التاريخية، وبذلك لا يخلو أن تصير هذه الكتب بعد رفع الجهالة عنها اكتشافاً جديداً، وهو ما يدعو إلى المزيد من الاهتمام بهذا الصنف من الكتب.
أما عن أسباب غياب أسماء المؤلفين في كتب التاريخ الإسلامي فيصعب على الباحثين إيجاد أسباب غائبة أصلاً في عدم ذكر أصحاب هذه الكتب التاريخية لأسمائهم وألقابهم وكناهم، فلا توجد إشارات دالة على ذلك في أسانيد هذه الأخبار ولا في متونها، وكل ما في الأمر أن محققي هذه الكتب قد توصلوا بصيغة تقريبية إلى تحديد العصر الذي عاش فيه هؤلاء المجهولين، أو تحديد الفترات السياسية التي عاصروها، انطلاقاً من آخر حدث أو واقعة ذكروها وأرخوا لها أو أشاروا لها.
وحتى بعض الباحثين المحققين الذين توصلوا بعد اجتهادات علمية وتحقيقات وافية إلى الكشف عن أسماء بعض المؤلفات التاريخية المجهولة المصدر، هي غالباً - في رأينا - محاولات افتراضية لا تستند على دليل ثابت ولا تعود إلى سند صحيح، وعموماً يمكن تفسير غياب أسماء المؤَلِّفين في كتب التاريخ الإسلامي بعدة عوامل، تكمن في المقام الأول في ضياع الصفحات الأولى من الكتاب أو المخطوط الأم، أو قد يكون بعض هؤلاء المؤلفين المجهولين تعمدوا عدم ذكر أسمائهم، رغبة منهم في التعبير بكل حرية وموضوعية في كتابة الأحداث التاريخية التي عايشوها، ومن العوامل الأخرى كذلك هو أن ما بعض المؤرخين المسلمين كانوا يعتبرون أن دورهم الحقيقي هو إظهار الحقيقة التاريخية، وليس البحث عن الشهرة، لذلك كانوا يتعمدون إخفاء هويتهم.
ومن أشهر الكتب المجهول أصحابها في التاريخ الإسلامي نذكر: (الاسْتِبْصار في عجائب الأمْصار: وصف مكة ومصر وبلاد المغرب)، (الحُلَلْ المُوشِية في ذِكْر الأخبار المُراكشية)، (الدولة الرسولية في اليمن)، (رحلة المغربي إلى تريم المُسَمّاة: بَذْل النَّحْلَة لمن يُحِبُّ النَّاصِحِين الكِرَامَ الأجِلَّة بذكرِ ما أوْدعَه المغربي من شمائل تَريم وأهْلِها في الرِّحلة)، (تاريخ الدولة السَّعْدِية التَّكَمْدَّارتية)، (تاريخ بني العباس)، (الأندلس وما فيه من البلاد)، (أوراق من تاريخ نجد)، (أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة: الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين)، (ذكر بلاد الأندلس)، (أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها رحمهم الله والحروب الواقعة بها بينهم)، (تاريخ الأندلس).
وختاماً يمكن القول إن ظاهرة المؤلفات المجهول أصحابها في التراث التاريخي الإسلامي، مازالت تعد إشكالية حقيقية ولغزاً يواجه الباحثين والمؤرخين، وهو ما يستوجب معه في الظرفية الراهنة التي تطورت فيها التقنيات الحديثة، إلى تكثيف الجهود كل من موقعه، وذلك بالبحث والتنقيب في دفائن التراث وذخائره النفيسة، وبالتالي ممكن أن تتحقق الغاية المنشودة وهكذا يصبح المجهول معلوماً.

ذو صلة