مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

إشكاليات الثقافة العربية الفنون والآداب.. الرهان العالمي الغائب

الاكتشاف الإبداعي للأديب والفنان يخلق اللحظة التي تستهدف كل زمن، بحضورها نستشعر روعتها التي لا تنتهي، إننا نشعر أنها تحتوي الماضي السحيق، كما تستشرف المستقبل الآتي، حتى وهي بعيدةُ عنهما.
الأصدقاء وساينفلد.. المحلية بوابة العالمية
إن مسلسلاً مثل المسلسل الأمريكي (FRINDS) بسلسلته الطويلة التي ناهزت الـ 10مواسم مثّل انتقالةً تحوّلية في إنتاج الأعمال التلفزيونية، جامعاً فترات التسعينات من القرن العشرين بما تمثّله من بداية انفتاحٍ عالمي على التطور التكنولوجي الذي تضاعف مع بدايات القرن الواحد والعشرين بأحداثه السياسية الكبرى التي كان أضخمها أحداث 11سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، مع عدم إغفال التطورات السريعة في التقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالرغم من أن المسلسل يُمثّل شريحة من المجتمع الأمريكي من خلال الأصدقاء الستة الذين تدور حولهم أحداث المسلسل، فإن الأثر الثقافي لذلك العمل امتد ليشمل العالم بأسره، وما حققه المسلسل من أرباح هائلة، لا تزال مستمرة إلى اليوم، تعد دليلاً على قدرة الأعمال الفنية الإبداعية على تخطي حدود المكان الذي حدثت فيه لتصل إلى كل مكان لم تحدث فيه، والمدهش هنا ليس قابلية المسلسل للانطباق على حياة من يتابعه في دول قد تتعارض تقاليدها تماماً عن التقاليد الأمريكية، بل الشيء الذي نستخلصه من نجاح (FRINDS) أننا لسنا بحاجة لتقليد الآخرين -معاصرين أو قدامى- كي نحقق النجاح، إنما أن نقدّم بصدق ما لدينا تقديماً مسنوداً بالإخلاص والعلم والمعرفة، وبغض النظر عن التقييم الذي سنعطيه لهذا العمل، فإن تأثيره في جماهير المشاهدين العاديين والمنتجين المتخصصين لا يمكن إغفاله، ولقد حاول منتجون كثر تقديم أعمال على شاكلته، لكن الفشل كان نصيبهم، لأنهم وضعوا أفكارهم في خدمة التقليد فغاب الابتكار الإبداعي الذي يمتاز بالبساطة الآسرة.
وما ينطبق على (FRINDS) ينطبق كذلك على مسلسل (Seinfeld) بمواسمه التسعة، حيث البعد الكوميدي يتجلى بين الأصدقاء الأربعة في مرحلة طموحاتهم وخيبات آمالهم في الحياة.. في مرحلة تكشف الانتقال بين تغيرات فرضتها التطورات المتلاحقة للحياة مع ما يُحدِثه ذلك من صدمة وتشتّت في محاولة اللحاق بهذا التغيير في معالم الحياة ودروبها الشائكة.
النجاح الهائل الذي تحقق في هذين المسلسلين كمثال على الرأي الذي نادينا بضرورة استيعابه وهو أن المجتمع وأحلام الإنسان هما المبدآن اللذان يُفترض الاهتمام بهما لخلق فن جدير بالمتابعة والاحترام. وبإمكاننا الاستفادة منه لترويج أعمالنا الدرامية العربية الرصينة.
الدراما التلفزيونية.. معضلات الانتشار
لو ألقينا نظرةً فاحصة على مسلسلات عربية امتازت بطول أجزائها كالمسلسلات الغربية، مع فارق انفصال مواضيع حلقاتها التي تناقش قضيةً مختلفة في كل حلقة، فإننا نجد إنتاجاً عربياً يستحق الثناء، إذ أُنتج (طاش ما طاش) في السعودية بمواسمه الـ 19، ومرايا في سوريا بمواسمه الـ 17، وفايز التوش في قطر بمواسمه الـ 5.
لكن هذه الإنتاجات لا تحظى اليوم بالانتشار، وحضورها يقتصر على بعض الشاشات العربية، وبالرغم من تميزها بالقيمة الثقافية الرفيعة عبر نقلها الجاد لأحوال ومشاكل المواطن العربي بأساليب متنوعة، كوميدياً وتراجيدياً، فإن اطّلاع الأمم الأخرى عليها يكاد يكون معدوماً. فلا وجود لأي آلية جادة لبعث هذه الأعمال من جديد، وهنا تظهر أهمية تبادل الثقافات وفقاً لمتطلبات عصرنا الراهن.
هذا بالضرورة يتطلب دراسة معمّقة لنوعية الثقافات التي سنتواصل معها لنقل منجزنا الفني الدرامي، عبر دراسة الأساليب التي يفضلونها، ومنصات البث الرائجة، ونوعيّة القضايا الرائجة، وكيفية نقل هذه الأعمال عبر الاطّلاع على ما يناسب تلك المجتمعات سواءً عبر الدبلجة أو الترجمة، مع الاستعانة بالمدبلجين المناسبة أصواتهم لروح الشخصية المراد تمثيلها، ومعرفة أي ترجمة تناسبهم، هل الترجمة للغة الرسمية أم للهجات الشعبية بحسب كل منطقة بما يراعي ذوقهم الفني لاستقبال الأعمال الدرامية الآتية من ثقافةٍ بعيدة عن ثقافتهم المألوفة لديهم، كي تصل إليهم روحية العمل.
فعلى امتداد المساحة الشاسعة للعالم العربي أُنتِجَت الكثير من الأعمال الرائعة التي برهنت على المواهب المذهلة للفنان العربي، لكنها ظلّت أعمالاً محصورةً في أقاليمها الضيقة، لدرجة أن المواطن العربي نفسه لا يعرف شيئاً عن تلك الإبداعات إلا النزر القليل مما تعرضه بعض الفضائيات المختصّة بالدراما، أو المنصّات الرقمية.
نجاحات إقليمية.. كيف نصل للمُشاهد الأجنبي؟
وكما أن أعمالاً ما من الممكن أن تنتشر عالمياً بسبب القدرات الإعلامية الضخمة التي ساهمت في وصول هذه الإبداعات إلى تحقيق الانتشار الكثيف، فإن هناك أعمالاً لم تنل نصيبها من الانتشار العالمي بسبب البدائية في التسويق والضعف الواضح في إبراز الإبداعات المحلية كتراث وطني يستحق الذيوع.
ففي منطقة ضعيفة في اهتمامها بالدراما وفنون الأداء كالمنطقة العربية، فإن ذلك لم يمنع من ظهور أعمال اتصفت بالعظمة الإبداعية في إنتاجها بالرغم من قلّة عدد حلقاتها، بل لعل قصر حلقاتها، باقتصارها على الأحداث المهمة -دون تمطيط لا طائل من ورائه- ساهم في نجاحها، فمثلاً في الكويت ظهرت أعمال مسرحية وتلفزيونية على درجة مذهلة من الإدهاش والتجديد العبقري، ويكفي أن نشير لمسلسلين اثنين، الأول هو (درب الزلق) والثاني (خالتي قماشة)، كلا هذين المسلسلين صارا من التراث الخالد للفن الحقيقي في العالم العربي، فالأول امتاز بقدرة غير مسبوقة على تنويع الأحداث اليومية لشقيقين هما سعد وحسين في سبيل سعيهما لتحقيق الثراء والسعادة في حياتهما، لكن كل ما يفعلانه من جهود يذهب سدى دون نتائج إيجابية، وفي كل مسعى يقومان به يحظيان بنجاحٍ لافت في بدايته، لينقلب نجاحهم لفشلٍ ذريع في النهاية، منتقلين منه لطموحٍ آخر في مشاريع جديدة.
تبدو الفكرة تقليدية، تمر بكل فرد في المجتمع العادي، لكن العبقرية في العمل ظهرت في كيفية استهداف الشقيقين لما يريدانه، بأدائهم الخالي من الكوابح الإخراجية الصارمة، مما فجّر الطاقات بصورةٍ عفوية، فاندغم النص مع الخارج عن النص، مشكلاً محتوى بارعاً، تجلى في الأداء المرن الذي يجعل المشاهد لا يمل من الضحك والتندّر على ما يصيب أفراد المسلسل من نكبات وخيبات أمل.
والشيء نفسه يحصل في مسلسل (خالتي قماشة)، الأم المتسلطة التي تريد من أبنائها البقاء حولها في المنزل وعدم مغادرته حتى بعد زواجهم، فتدور الأحداث في سلسلة صراعات فكاهية عائلية تكشف التنافر في النفوس التي ضاقت ذرعاً من بقائهم معاً في ذات المنزل، الذي يحبونه حباً عميقاً، حباً أتى من محبتهم لأمهم، وطيلة الحلقات تتكشف خبايا نفوس العائلة المأزومة، فكل زوج يعاني صراعاً بين زوجته وأمه وحياته الخاصة.
المسلسل ذو فكرة بسيطة، والإضافات الإبداعية للممثلين، مع النص المُحكَم البناء، والتوزيع السليم للأدوار بما يناسب كل ممثل، أعطى للعمل خلوداً يستحقه، وبالرغم من عدم انتشار العمل عالمياً واقتصاره على المنطقة العربية، فإنه يبقى من الروائع التي جادت بها الشاشة الخليجية.
إن هذين المثالين اللذين لايكادان يُعرفان خارج حدود الخليج أو المنطقة العربية، يُمثّلان صورة من صور التهميش التي تعانيها الأعمال الدرامية الرائعة في الدول المتخلفة في نشر الأعمال الفنية والأدبية، ففي الوقت الذي تستطيع الدول المتقدمة ترويج أضعف إنتاجاتها الفنية في أي مكانٍ في العالم، فإن الدول المتخلّفة عاجزةُ عن إيصال أفضل أعمالها لخارج منطقتها الإقليمية، وهذا مما يُؤسف له، إذ يُحرَم الجمهور المتذوق من معرفة أعمال تستحق أن تحظى بالمشاهدة والجوائز والدراسة والتحليل.
القلق الحياتي.. هموم المبدع العربي
وبينما يعيش أحد المطربين الغربيين بحبوحة العيش طيلة حياته مستفيداً من عائدات أغنية واحدة نجحت نجاحاً باهراً وصارت متداولة على نطاقٍ واسع متجولة بين قارات العالم، فيستمتع المطرب بنجاحه طوال العمر من هذه اليتيمة الفريدة، وفي الوقت الذي يستريح بعض الكُتّاب في مكاتبهم الفخمة ليقرؤوا ويكتبوا بارتياحٍ تام في نفس الوقت الذي تتزايد أرصدتهم يومياً من مبيعات كتبهم الصادرة، غير خائفين من مستقبلٍ مجهول، فإن المبدع العربي يعيش مأساة تتعاظم يوماً بعد يوم، ففي مجال التأليف لا يدري بماذا سيبدأ وكيف سينهيه!! هل بالكتاب الذي ينوي الشروع في تأليفه؟! أم في دار النشر التي ستقبل بطباعة ونشر كتابه؟! أم بمنافذ البيع التي ستوافق على عرض وبيع كتابه؟! أم بالوسائل التسويقية التي يحتاجها للترويج لكتابه الجديد؟!!
إنه يفكّر بالمبالغ التي يجب توفيرها ليدفعها لدار النشر كي ترضى أن تطبع مخطوطته المنجزة، كما أنه سيطارد على كل الجبهات بمفرده ليستطيع إنجاز ما يمكن إنجازه من خطوات إصدار وتسويق الكتاب.
ومع كل هذه الانشغالات المحورية يقف الهمّ المعيشي مُشكّلاً مجموعة عوائق إضافيّة، عليه مواجهتها، وتدبّر شؤونها، قبل الانتقال إلى مرحلة التأليف والإصدار.
إن التخلّف عن مواكبة الأمم الأخرى، في تبنّي ورعاية هؤلاء النخبة، يعيق تقدّم العرب الحضاري ويرسّخ المقولة الخاطئة بأفضلية العالم الغربي.
لعل من بين أعظم المآسي التي تواجهنا اليوم هي مأساة النزيف المستمر للعقول المتفوقة، فتذهب صفوة نتاجاتها وعطاءاتها لمصلحة دول تستفيد من تلك العقول لتصدير نظريات وسلع نقتنيها ونستخدمها، بينما بإمكاننا أن نكون نحن من يصدر تلك النظريات والسلع والمنتجات لبقية العالم.
ثمّة نور في نهاية النفق.. جهود نهضوية ملموسة
في هذا السياق لا يمكن غض البصر عن مجموعة من المبادرات الأوليّة الناجحة واللافتة للانتباه التي تقودها السعودية في كافة مجالات الفنون والأدب والشعر وكذلك بقية دول مجلس التعاون الخليجي بوتيرة متفاوتة ومتنوعة للاعتناء بالمثقف والفنان العربي والاحتفاء بالمبدعين والعلماء ودعم المواهب الصاعدة مما أسهم في بث الأمل في إمكانية تحقيق انطلاقة جادة تثمر نتاجاً إنسانياً ناجحاً، كذلك هناك جهود ملحوظة في بعض الدول العربية مثل مصر والعراق وسوريا والأردن وتونس. إلا أن هذه الجهود على مصداقيتها وجديتها بحاجة إلى روافد كثيرة لضمان استقلاليتها وتطورها الدائم الذي سينقلها من المرحلية إلى الاستمرارية.
فنان يرسم ولوحاتُ تتكدّس
لقد رسم بيكاسو لوحته الشهيرة (غرنيكا) للتعبير عن فظاعات الحرب الأهلية الإسبانية. وفي وطننا العربي، الممزق بالحروب المأساوية، لربما هناك فنان مختبئ في مرسمه الصغير يرسم غرنيكا أخرى أو حتى أفضل منها بمراحل في تجسيدها لكوارث الحروب العربية، لكن من سيكتشف ذلك الفنان؟! من سيعتني بموهبته؟! ومن سيروّج للوحاته التي يعلوها الغبار في مرسمه الضيّق المكتظ بالفرش والألوان وأدوات الرسم؟! وأيضاً، من سيشتري لوحته؟!

ذو صلة