مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

التطريز البصري في القصيدة

نتقصد في هذا المقال البحث في تقنية التطريز البصري في القصيدة المغربية المعاصرة، وقد اخترنا قصيدة (مكاشفات من دفتر الغربة) للشاعر العربي عبدالله راجع مثالاً.
يقصد بالتطريز البصري: (أن يجعل الشاعر حروف أوائل الأبيات تشكل اسماً معيناً) يوزعه عبر تضاعيف قصيدته، باعتباره يشكل بؤرة النص، وقطب الرحى.
ومن النصوص التي وضف فيها عبدالله راجع تقنية التطريز البصري قوله:
ألف تعرف أسرار الطمي وأوجاع الغجر الحبلى بالعرق
الألف الممتدة كالنخلة في وجهك يا أمواج المتوسط
كم كانت تقطر بالشهوة إذ فتحت
أبواب العصيان الشيق في وجه الأفراس الريفية
***
نون تتمدد كالخندق في أحراش الريف الغاضب، تنقر
ذاكرة (الخنراليسمو) إذ تسكنها أحلام المرضى بالزهري
النون المسكونة بالعرق الريفي وأوجاع الحرس المهزوم
على أعتاب الناضورْ
هل كانت إلا لغة الميلاد الأنقى
تفرزها حنجرة المعمورْ؟ حين امتدت كف الخطابي تكشف أوراق العصر الحجريّ
ونتوءات السرطان المتعفن في مدريدْ
***
واو لغة أخرى تركض في حنجرة الوطن العابس أحرفها
تتقمص لون الرئتين ولا تعبر أعضاء النطق
لغة أخرى تتجاوز كل الأوسمة الملقاة على صدر الجنرال المتقاعد
***
ألف حين انتصبت كعمود الشارات الضوئية
كانت رائحة الحزن البائت....
***
لام تتراقص بالغضب الساحر في شرفات الوطن-الحمى
انفتح البحر فكانت قافلة من سهر ملغوم
توقظ أسرار الوجع المكثوم
تجميع أوصال الحروف المفرقة يحيل على الكلمة (أنوال)، التي تشكل تطريزاً بصرياً، إذ جعل الشاعر حروفها موزعة على بداية الأسطر الشعرية. ويبدو أن الشاعر من خلال توظيفه لهذه التقنية قد خالف الكثير من الشعراء المعاصرين الذين اشتهروا باستدعاء هذه التقنية أمثال: يوسف المقالح، وعلي الشرقاوي.. وغيرهما، إذ كان الواحد من هؤلاء قد فرق حروف الكلمة (على أوائل أسطر الصفحة الشعرية ثم أخذ ينساب من الهيئة البصرية لكل حرف برسم انعكاساته على ذاته، في جمل تبدأ بالحرف نفسه تأكيداً منه على تغلغله في ذات الشاعر والنص، ليجسد للمتلقي دلالة الاسم تجسيداً بصرياً)؛ في حين أن راجع لم يجعل حروف الكلمة موضوع التطريز البصري هي نفسها التي تفتتح بها رؤوس الأسطر الشعرية، وإنما كان يحيل عليها دلالياً، ثم بعد ذلك يبدأ بها في أحد الأسطر التي تلي السطر الأول بعد أن تتوضح الدلالة في ذهن المتلقي، فضلاً عن أن الشاعر في نهاية القصيدة كان يجمع الحروف المتفرقة التي تشكل جسد التطريز البصري مصحوبة بأبعادها الدلالية. وبهذا انماز عبدالله راجع عن غيره من الشعراء ممن افتتنوا بتوظيف هذه التقنية:
ولأنوال سوالف من حمحمة الخيل ورائحة الخيال
تغمسها في البحر وتبكي.. فتموج برائحة المع المالح
أبواب الناضور، وشطآن البحر
لقد وظف الشاعر التطريز البصري لتكثيف صوره الشعرية المستوحاة من معركة أنوال الشهيرة التي حقق فيها أسد الريف عبدالكريم الخطابي انتصارات كبرى على الإمبريالية الاستعمارية الإسبانية بشمال المغرب سنة 1921. والشاعر إذ يستحضر الزمن الماضي وبطولته في شخص الخطابي ومعركة أنوال الشهيرة؛ فإنه في الوقت نفسه يندد بالحاضر أمام عجز جبال الريف عن صد الغزو الأجنبي لشواطئ سبتة ومليلية المستعمرتين، وبين الزمن الماضي وبطولاته والزمن الحاضر بهزائمه تولد أنوال شامخة بألفها (أ) الممتدة كالنخلة في وجه علوج الإسبان، وبنونها (ن) الممتلئة بالعرق المتصبب بسبب الأوجاع والهزائم المتوالية في الزمن والمكان، لقد غدت كالخندق الممتد في أحراش الريف، وكالسرطان المتعفن المنتشر في أزقات مدريد. وبواوها (و) الدالة على الآهات والتوجع والشكوى جراء وطن اختار السهاد مرقداً، ولغة عاجزة تتقمص لون الرئتين ولا تتجاوز حدود الحنجرة. والألف (ا) تنتصب كعمود الشارات الضوئية. ويختم الشاعر تطريزه للكلمة بحرف اللام (ل) ذي الإيقاع الموسيقي الحزين والمرقص.
لقد حاول الشاعر خلق نوع من المجاورة على مستوى التطريز البصري بين الكلمة كمتتالية صوتية (أنوال) وشكلها التعبيري والدلالي من خلال إيحاءاتها البصرية والسيميائية، من خلال علامتين سيميائيتين: الأولى: اتخذت شكل إناء يمتلئ بقطرات العرق المتصبب من الجبين، فتكون النون الدائرية هي الإناء والنقطة التي تتوسطها هي قطرات العرق الذي يملؤها؛ الثانية: اتخذت شكل الخندق الممتد، أو السرطان الذي تتخلله تعفنات.
الواو (و): واو التأوه على وطن بات عنواناً للسقوط والهزيمة، والتوجع والحسرة على لغة محتشمة منطوية على نفسها انطواء حرف الواو.
وترتفع لغة التوتر عندما يعضد الواو بحرف الألف (أ) المنتصبة في وجه مغتصبها كأعمدة الشارات الضوئية ذات الألوان الثلاثية (الأحمر، والخضر، والأصفر)، وكلها علامات بصرية سيميائية تحيل المتلقي على دلالتها المضمرة.
أما اللام (ل): فهي تجسد الألم بكل أنواعه، والأوجاع والأحزان، والأمراض المستعصية، وقد شكل هذا الحرف أيضاً رمزاً للأنغام الحزينة ولمعاني الاختزال والالتباس.
يبدو أن راجع كان واعياً بهذه الأبعاد، وهو ما جعل المقطع التطريزي النوني يتوشح مجموع هذه الدلالات المومأ إليها قديماً، ويبدو ذلك واضحاً عندما استحضر شخصية عبدالكريم الخطابي شاهراً سيفه في وجه الظلم والفساد المعبر عنه بشخصية فرنكو رمز الحاكم المستبد، هذا الحضور سيغير وجه التاريخ وسيفجر المحيط الأطلسي المالح الممتد من طنجة إلى مدريد ليحيل الريف أرضاً ذات زروع وأشجار، وفي زمن الانفجار يحمل الشاعر ريشته/الدواة ليكتب صفحات مشرقة من تاريخ المغرب الحديث، مجسدة في ملحمة معركة أنوال التاريخية التي انتصر فيها الحق على الباطل. حينها تولد القصيدة لتعلن عن ميلاد عصر جديد خالٍ من الظلم والفساد ومن نتوءات السرطان المتعفن القادم من مدريد.
إن التطريز البصري في القصيدة الراجعية ليس ترفاً فنياً أو استعمالاً اعتباطياً، إنما هو جملة دلالات تؤطر الشكل الخارجي لجسد الحروف في علاقته بمدلولاته، فالألف المنتصبة عند راجع تشكل صورة للشموخ المغربي في مرحلة مقاومة العدو الاستعماري، لذلك كرره مرتين على سبيل التأكيد والتقرير لحقيقة تاريخية معروفة تحفظها الذاكرة الجماعية، والنون المحتضنة للنقطة في بعدها السيميائي البصري صورة لحاضر الواقع المغربي الذي أعيته الهزائم والانكسارات مما جعله مرتعاً خصباً لاحتضان العرق المتصبب من جبين المرضى، ومن جبين الجندي المهزوم. وبين الزمن الماضي وشموخه (أنوال) والزمن الحاضر وهزائمه تتشظى سلطة المكان الموازية للتشظي النفسي، ولعل حرف الواو في بعده الخطي صورة انكماشية انطوائية لذات عاجزة عن فعل التغيير، وقد عضد حرف اللام بإيقاعه الموسيقي الحزين وتكثيفه الإيحائي وشحنه العاطفي؛ الصورة القاتمة لهذا الواقع المهترئ. وعليه فإن التطريز البصري لكلمة (أنوال)، في صورتها بين الأمس واليوم جعل الذات تتوزع بين زمنين مختلفين، يصحبه توزع الحروف المكونة لها مكانياً، وبين تعدد الأزمنة وانقسام الذات وانشطارها تخترق سلطة المكان من خلال تقنية التطريز البصري التي توفر للنص البصري انسجاماً مع أبعاده الدلالية والنفسية والإيقاعية.
تقنية النبر البصري
نسجل أن كلمة (أنوال) موضع التطريز البصري، قد تميزت بنبر حروفها، وانفصالها جزئياً عن النص تمييزاً لها، وتنبيهاً لما سيأتي في محدداتها الدلالية الكاشفة لمصوغاتها البصرية، وقد استثمر الشاعر هذه الإمكانية الصوتية باعتبارها (منبهاً أسلوبياً أو نبراً خطياً بصرياً يتم عبره التأكيد على مقطع أو سطر، أو وحدة معجمية، أو خطية)، حتى يحقق تناغماً بين مكونات النص: البصرية والدلالية والإيحائية والصوتية والنفسية. ولعل الحروف ذات النبر في تعاضد مكوناتها تكشف حالة التوتر النفسي التي تعيشه الذات المتشظية.

ذو صلة