مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

النص الأدبي بين موت المؤلف وموت الناقد

النص الأدبي كائن حي يجوب الأوساط الأدبية، تمخضه المؤلف فصار مبدعاً، وتلقفه القارئ كعمل إبداعي فصار دارساً ومؤولاً، يقوم بإعادة تشكيله معرفياً من خلال مخزونه المعرفي، أو يتناص معه ويطوره فيستنسخ منه نصاً جديداً، ثم يُعرض النص على الناقد، وهو شخص يمكنه التمييز بين النص الجيد والرديء بخبرة معرفية مبنية على نظريات وتحليلات سابقة، وربما حالية من خلال رؤية تحليلية عميقة للنص.
موت المؤلف
عبارة أطلقها الناقد الفرنسي (رولان بارت) في مقالته الشهيرة التي أضحت نظرية لها مؤيدوها ورافضوها. فهو يرى أن المؤلف بعد أن سلَّم نصه للقارئ انتهت علاقته به، وينفي أي ارتباط بينهما، كما أنه لا يعتبر المؤلف أحد عناصر النص الأدبي، ولا داعي لدراسة حياة المؤلف أو سيرته الذاتية أو السبب وراء كتابة هذا العمل - كما دعا بذلك أنصار النقد التقليدي.
بعد خروج النص وتسليمه للمتلقي يبدأ دور القارئ في تأويل هذا المنتج الأدبي، وخلق معانٍ جديدة مبتكرة بتفسير يتلاءم مع ذائقته الأدبية التي يحبها. كان (بارت) مؤمناً بأن القراءة الصحيحة للنص الأدبي تعتمد بالدرجة الأولى على انطباعات القارئ لا على شغف الكاتب وميوله، لقد أراد إعطاء القارئ جميع الصلاحيات في عملية القراءة والتأويل الدلالي للنص كما يحلو له، وكأن النص قد نُزعت ملكيته وصار منفعة عامة. فبموت المؤلف تحيا أشياء أخرى عند القارئ هي: الإبداع والخيال والإلهام والتناص.
في ظل هذه النظرية، القارئ هو العنصر الأهم، فبمجرد موت المؤلف يولد القارئ الذي يعد مكوناً أساسياً من مكونات النص الأدبي؛ لأنه يكشف المعنى ويرصد الدلالات. فالمؤلف مجرد صانع أو منتج فقط للنص، أما استخراج الدلالة منه وإعادة تدويره فهو من حق القارئ.
موت الناقد
تاريخياً يعد (رونان ماكدونالد) أول من أطلق عبارة (موت الناقد) في كتابه (موت الناقد) الذي ترجمه للعربية د.فخري صالح (الصادر عن المركز القومي للترجمة بالتعاون مع دار العين)؛ وهي إشارة رمزية لفقد الناقد الأكاديمي، وحدوث فجوة بينه وبين جمهور القراء. من هنا أعلن عن حياة جديدة أعقبت موت الناقد، وهي حياة القارئ الذي لم يعد بحاجة إلى الناقد، بل يحلَّ مكانه، ويرجع سبب ذلك إلى انتشار المدونات والمواقع التي بضغطة زر واحدة على مؤشر البحث تتيح لأي شخص أن يقرأ مؤلفات أو مسرحيات، ومن ثم يكتب عنها رؤيته كالناقد التقليدي.
تماماً، أي أن تلك المدونات حلت محل الناقد الأكاديمي الذي كان مرشداً وموجهاً لكل قارئ يريد معرفة الكتاب الصادر حديثاً أو الفيلم الجدير بالمشاهدة، فهو يرى أن تلك المدونات والمواقع التي ظهرت مع الثورة الكاشفة في مجال الاتصالات والإنترنت؛ أصبحت بديلاً عن الكتب النقدية المتخصصة التي كتبها نقاد أكاديميون متخصصون.
(الناقد) طبقاً لرؤية (ماكدونالد) في كتابه (موت الناقد): (هو الشخص الذي يبحث عن العيوب، أو يكثر من التذمر أو ينتقص من أفعال الآخرين)، بمعنى آخر فهو يرى أنه يتصيد الأخطاء في النص الأدبي، في حين أنه كان حرياً بمهمته كأكاديمي التقويم الحكيم الحصيف غير المتحيز على حد قوله.
هل حلَّ المدونون محل النقاد الأكاديميين؟
بعد أن أعلن (ماكدونالد) موت الناقد بسبب سطوة المدونين والمواقع في الشبكة العنكبوتية؛ عاد من جديد ليقر بما نفاه سابقاً. لقد نفى في ذات الكتاب أن يحل المدونون محل النقاد الأكاديميين، واستشعر الخوف من تنحية المؤسسة أو المنصة النقدية لصالح المدونات التي يكتب فيها قراء كتابات سريعة تعتمد على ذائقتهم الأدبية أو عاطفتهم ولا تعتمد على الدلالة المعرفية وقيمة النص الأدبي. ولعلَّ ماكدونالد كان يرى أن من مات هو الناقد التقليدي وليس الناقد الأكاديمي الذي لا يزال حياً، وهناك مهمة جديدة يقترحها على الناقد بدلاً من موته نهائياً، مهمة تقلص من سلطته المطلقة.
هل تأثر النص الأدبي بهاتين النظريتين؟
بالتأكيد تأثر النص الأدبي بهاتين النظريتين، سواء نظرية موت المؤلف أو نظرية موت الناقد، فعلى الرغم أن بارت وماكدونالد بعد أن أقرَّا بموت المؤلف والناقد؛ فإنهما قدما لنا البديل وهو (القارئ) في الحالتين.
وأنا أزعم أنه لو نحينا المؤلف عن النص الأدبي في الحالة الأولى، وهي: (نظرية موت المؤلف)؛ فإن النص الأدبي يذبل ويموت، لأنه فقد روح صاحبه وهو جزء لا يتجزأ عنه، ولا جدوى من إماتة المؤلف وفصله عن نتاجه الأدبي. فالقارئ وإن تأمل المعاني الموجود بداخل النص وتفاعل معها وأحسن تأويلها وأضاف عليها معاني جديدة من عنده أو استخدم تقنية التناص مع النص الذي بين يديه؛ فهذا بالكاد آخر ما يستطيع فعله وإلا يكون معتدياً على ملكية فكرية لمالك النص الحقيقي (المؤلف). ومن عيوب العمل بهذه النظرية:
- الاعتداء على ملكية العمل الفكرية ونزع هوية المؤلف وإسقاطها.
- يجرد النص الأدبي من أصله وجذوره التي قد تكون تربتها سيرة المؤلف الذاتية.
- العمل بهذه النظرية يجبرنا على الفصل بين الذات وهي اللغة كمفردات لغوية والموضوع وهو النص، وكلاهما عنصران أساسيان في بنيته.
- تنازع الأيديولوجيات بين صاحب النص الأدبي (المؤلف) والمتلقي (القارئ) فلكل واحد فيهما أيديولوجيته المستقلة التي يتبناها، والتي إن تركنا الحرية للقارئ في تعديل النص بتأويل معانيه حسب أيديولوجيته وفكره الذي يتبناه نكون قد سلخنا النص الأدبي من جلده.
ولو نحينا الناقد عن النص الأدبي في الحالة الثانية، وهي: (نظرية موت الناقد)؛ يصبح النص الأدبي نصاً جامداً، ذائقته يتذوقها جمهور عاطفي أو جاهل بأصول اللغة ومواطن الجمال في النص التي يعرفها جيداً الناقد المميز الذي يمتلك القدرة على تمييز العمل الجيد من الرديء.
القارئ أو المدون أو الموقع في الشبكة العنكبوتية لم ولن يكون بديلاً عن الناقد الحقيقي؛ لأن الناقدَ ببساطة هو خبير في مجاله يطبق النظريات والرؤى النقدية التي درسها على النص الأدبي الذي بين يديه من خلال قراءة (ملاحظة) وتحليل (تفكيك عناصره الأولية) وتفسيره ثم تقييمه، لكني أيضاً مؤمن بأن القارئ ناقد لكن رؤيته النقدية على قدر ثقافته، فيشترط لكي يتحول القارئ لناقدٍ متمكن أن يكون فصيحاً في اللغة متمكناً منها لا يحتكم للعاطفة والمؤثرات الخارجية ويفصل بين الذاتي والموضوعي، بمعنى أنه لا ينتقد النص الأدبي إيجاباً أو سلباً لأجل صاحبها، بل لا بد أن يكون منصفاً.
كذلك النقد حرفة وصنعة، فالناقد المتمكن يبدأ نقده في الحديث بإظهار الجماليات والثناء على مجهود المؤلف، يتبعها الحديث عن الأخطاء، ولا يسميها (سلبيات النص)، ويختم حديثه بكيفية علاج تلك الأخطاء بنقدٍ بناء وليس هداماً.
أخيراً، لا بد أن يخلعَ الناقدُ رداءَ القاضي وهو يرصد نصاً أدبياً، فليس عمله هو الحكم عليه من منظور قضائي، بل عمله هو توضيح الحقائق أمام القراء، وإبراز مواطن الإبداع الأدبي فيه، ليساعدهم على تشكيل أحكامهم الخاصة بهم، وكل هدفه في النهاية أن يرتقي بالذوق العام ويطوره.

ذو صلة