مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

غداء عمل

بدا منهمكاً في عمله، يمسك الفوطة، يمسح دموعه المعلقة يضعها على جانب ثم يواصل تقطيع البصل، بينما تصاعدت أبخرة ناعمة من القدر الموضوع على الموقد، ثم ما لبث، واختلطت مع رائحة البصل والبهارات، وغام جو الشقة برائحة الطبخ برغم مروحة الشفط بأعلى الجدار.
‏‎بدا فكره مشغولاً.. وثمة نظرة ضبابية غائمة تظهر من خلال عينيه الدامعتين، تجعل ملامح وجهه محايدة تماماً، فلا تستطيع أن تحدد ما إذا كانت تلك الدموع هي دموع فرح أم حزن أم بفعل البصل؟
كل المعطيات هنا تجعلنا نظن أنه يشعر بنوع من الراحة، وأن حملاً ثقيلاً قد انزاح عن صدره، إلا أن حالة الشرود الذهني، وتلك النظرة الضبابية، والملامح المحايدة، واستمرار انبعاث الدموع رغم أنه ظل يمسحها بالفوطة، حتى بعدما وضع شرائح البصل في الزيت، وسكب عليها قطع الخضار المشكل، ومعجون الطماطم.. كل ذلك يجعلنا نشكك أن ثمة ألم يعتصر روحه.
‏‎في قرارة نفسه يعلم أن ما هو مقدم عليه جرم، جرم عظيم لا يغتفر. لقد نجح حتى الآن في وضع خطة محكمة، خطة شيطانية كما أسماها.. إبليس نفسه ساعده في كل خطوة، وقد وعده أن يظل إلى جانبه، حتى انتهاء المهمة، وتنفيذ الخطة بنجاح. منذ ذلك اليوم الذي وجد الشيطان فجوة في رأسه دخل منها إلى دماغه، ظل يتلاعب به.. يهمس له.. اترك أمر مراقبتها لي.. هل سألت نفسك؟
من أين لها كل هذه الأموال التي تصرفها عليك؟
كلانا يعلم أنك عاطل عن العمل.. أنت معدم يا رجل، حتى الدخان هي من تجلبه لك.. برأيك من دفع لك مستحقات المصح الذي استشفيت فيه.. ذلك اليوم الذي جاءت لزيارتك رفقة مديرها في العمل.
أعرف أنك كنت تريد أن تمد يدك وتخنقه، لولا أنك كنت مكبلاً على السرير.. لا تقل لي: إنك صدقت تلك الدمعة التي طفرت من عينها.
أؤكد لك: أنهما حالما خرجا من عندك، ذهبا إلى أقرب مطعم فتناولا وجبة عشاء دسمة، وأستطيع أن أتخيل كيف سارت الأمور حتى نهاية السهرة.
‏‎اختفاء إنسان ليس بالأمر السهل، لكن بمجرد أن أعلنت موافقتها بالارتباط به، متحدية عائلتها، فقد حكمت على نفسها بالوحدة.
أصبحت مقطوعة من شجرة: كما قال لها أبوها، من اليوم أنت لست ابنتي، ولا أعرفك، أنا متبرئ منك في الدنيا والآخرة.
‏‎تحدت عالمها لتعيش معه في عالمه الكبير. هكذا صور لها خيالها العاشق.
‏‎لم يبق على موعد حضورها من العمل الكثير.. هو على وشك الانتهاء من تحضير الطبق الذي تحبه. رائحة الطعام زكية.. تذوقه.. تلمظ شفتيه بطرف لسانه، وهز رأسه. أطفأ شعلة النار.
‏‎شرع في تحضير طبق السلطة خيار، طماطم، خس، رمان، قبلا من ملح، عصير ليمون، ورشة ملح وزيت زيتون.
أخرج الطقم الذي أهدته لها صديقتها.. طقم عشاء من الخزف الصيني الفاخر.. صحون بلون أبيض، وعليها رسومات باللون الأخضر.
هي تحب هذا الطقم: يقول لنفسه، صعد إلى غرفة النوم. اغتسل وبدل ثيابه، لبس طقماً أنيقاً، كانت بدلة رمادية، وقميصاً أبيض، وربطة عنق بلون قرمزي، أهدتها له زوجته في عيد زواجهما الأول، شغل موسيقى ساكس ناعمة، صب عصير البرتقال في كأس رقيق.
أخرج قارورة صغيرة من جيبه.. ثلاث نقاط أظن أنها كافية.. قال في نفسه.. حسبها بدقة.. أغلق القارورة، ووضعها في جيب البدلة.. أطفأ الإنارة، وترك إضاءة خافتة.. جلس إلى المائدة ينتظرها، وتلك النظرة المحايدة تنبثق من عينيه.

ذو صلة