مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

فيلم (نابليون) وجدلية التلقي

تعدّدت وجهات النظر في تقييم فيلم (نابليون) من إخراج رايدلي سكوت لعام 2023، فهناك من وجد الفيلم عملاً متكاملاً ويستحق رفع القبعات، وهناك من أشار إلى بعض الملاحظات، فانخفض تقييمه للفيلم بشكل عام. أستطيع تفهّم هذا الانقسام، لكن لا أظن أنّ هناك خلافاً حول أداء جواكين فينيكس الذي جسّد شخصيّة نابليون بونابرت، وفانيسا كيربي التي لعبت دور جوزفين. فيلم بانورامي يعرض المحطات المهمة في حياة إمبراطور أوروبا، من طولون إلى سانت هيلينا على طريقة تتبع السيرة الذاتية، ولعل هذه البانوراميّة السريعة في الانتقال من حدث تاريخي مهم لآخر أكثر أهميّة؛ كانت من أسباب هذا الاختلاف حول الفيلم. فشخصيّة مثل بونابرت، حرّكت الأحداث على مستوى القارة، بل صنعتها في مناسبات كثيرة؛ تحتاج لمساحة أكبر من الحوار والمعالجة لاستيعاب الحدث التاريخي، وموقف نابليون وانعكاسه على فرنسا وعلى الصراع في أوروبا، وبدل ذلك ركّز الفيلم على خيانة جوزفين لزوجها الذي يغيب لأشهر في حملاته العسكريّة.
في طولون كانت الشرارة
ثقة الضابط الكورسيكي بنفسه دفعته للتنطح للموقف الصعب في طولون لفك الحصار الذي فرضه الأسطول الإنجليزي على ميناء المدينة الفرنسية. مرحلة قلقة تتيح فرصة لمن لديهم الطموح ويبحثون عن النجاح وإثبات جدارتهم وموهبتهم، وهذا ما حصل عليه الضابط الشاب بونابرت في هذا النصر السريع والحاسم الذي جاء بتخطيطه وتنظيم القوات وتدريبها وتجهيزها بالمدافع. مغامرة من الحركة والبسالة أثبتت علو كعب نابليون في القتال بالصفوف الأماميّة وتوّجها في مشهد الحصان الذي تلقّى قذيفة المدفع عندما رفع قائمتيه لينجو الفارس من الموت المحقّق. ترقّى بونابرت من رتبة كابتن لجنرال، وأصبح معروفاً بين الجنود البسطاء والسياسيين وصنّاع القرار على السواء. وهنا تجدر الإشارة إلى أن فك حصار طولون بما فيه من دراما وتفاصيل يصلح ليكون فيلماً مستقلاً، وهذا ينطبق على جميع الأحداث اللاحقة.
منقذ الجمهورية
الثورة الفرنسية ما زالت تبحث عن صيغتها النهائية في أسلوب الحكم والإدارة، وفي خضم هذا السعي تأتي نهاية روبسبير السياسي الفرنسي الذي طبع المرحلة بالعنف والخوف والسجن لكل المعارضين لسياسته والموالين للملكية. تخف قبضة الجمهوريين عن الحريات العامة، فيجد الملكيّون متنفساً للثورة على مجلس الحكم الذي يلجأ بدوره لنابليون للخروج من هذا المأزق الخطير. ويؤكد مخرج العمل مرّة أخرى على الجانب التقني في الفيلم الذي سطع فوق نجومية الممثلين من خلال مشهد المدافع التي أطلقها بونابرت على الثوّار فتناثرت أشلاؤهم في الساحة التي اصطبغت باللون الأحمر. اكتملت الدائرة بالنسبة للشاب الطموح وأصبح يعرف باسم منقذ الجمهورية.
الحملة على مصر والانقلاب على حكومة المديرين
لم يظهر من الحملة الفرنسية على مصر سوى مشهد بعيد للأهرامات، ومشهد المومياء الذي وجدت فيه إشارة واضحة إلى نهب آثار مصر ونقلها إلى متاحف فرنسا؛ لكن ما أثار اهتمامي بالفعل هو السبب الذي دفع نابليون لمغادرة الحملة، كنت أظن أن اضطرابات في الداخل الفرنسي ورغبته بالحصول على مشاركة سياسية أكبر ما شجّعه على ذلك، لكن كما تبيّن في السياق أن الرجل الغيور استشاط غضباً عندما علم بخيانة جوزفين. والسؤال الآخر الذي رأى فيه المتابعون مغالطة تاريخيّة: هل فعلاً ضرب الأهرامات بالمدافع؟ لم نسمع عن هذا الأمر من قبل. هل كان هذا نتيجة لحفريات عميقة في التاريخ أم هو أمر فني بحت لنقل رسالة في زمن قصير ومشهد عابر؟
يعود إلى فرنسا ليوبّخ زوجته التي يبدو أنّ علاقته بها أكثر تعقيداً مما يظهر. يطيح بحكومة المديرين بالقوة العسكرية بالتنسيق مع بعض السياسيين الطامحين، ويستولي على السلطة ويصبح القنصل الأول لفرنسا.
التتويج ومعركة أوسترليتز
في مشهد التتويج كإمبراطور لفرنسا انكشفت درجة الغرور التي وصل إليها نابليون عندما أخذ التاج من يد أعلى هيئة دينية في البلاد ووضعه على رأسه مخالفاً بذلك التقاليد الفرنسية المعمول بها، وقال عبارة مهمة جدّاً ولعلها صحيحة إلى درجة كبيرة: لقد وجدت تاج فرنسا في الحضيض، التقطته بطرف سيفي، ونظفته ووضعته على رأسي.
وبعد التتويج جاءت معركة أوستيرليتز التي تعتبر درّة العبقرية النابوليونيّة، حيث انتصر على الجيشين الروسي والنمساوي، ولعل هذا ما دفع رايدلي سكوت للتركيز على هذه الجزئية لتصبح درة العمل، من حيث جودة مشاهد القتال ورماية المدفعية والكمين والتخطيط للمعركة وتنفيذها بحرفية عالية، وبخاصة عند هروب الجنود الروس نحو البحيرة التي تجمّد الماء على سطحها، وتحت قذائف المدفعية انكسر الجليد وسقطوا في ماء بارد للغاية.
معضلة الوريث وطلاق جوزفين
أصبحت مشكلة عدم وجود الوريث مؤرقة للإمبراطور بعد كل هذا المجد الذي حقّقه، يقرّر تطليق جوزفين بتشجيع من أمه بعد أن ثبت لديه أنّها عاقر. يتزوج بأخرى وينجب الوريث، لكن رسائله لجوزفين لم تنقطع حتى بعد الطلاق. لست متأكداً إن كان يكاتبها بالفعل على هذا التواتر، ولكن بدا الأمر لي كفعل متعمّد من قبل المخرج لعرض الأحداث التي لا تغطيها الكاميرا بسطرين في رسالة من رسائله الكثيرة إليها.
غزو روسيا وبداية النهاية
لست بصدد عقد مقارنة بين فيلم نابليون وفيلم الحرب والسلام، ولكن هو مجرد حديث سريع حول الحدث التاريخي المشبع كما في العمل المبني على رائعة تولستوي، وهو من إنتاج عام 1956 ومن إخراج كينج فيدور وبطولة هنري فوندا وأودري هيبورن الذي يركز على التفاصيل الدقيقة لتظهر أمامنا الشخصيّة الروسية بقوتها وعنادها وصبرها؛ لكن في عمل رايدلي سكوت الذي جاء بعد قرابة سبعة عقود بتقنيات صوتية وحركية فائقة؛ كانت هناك بضعة مشاهد لينتهي الغزو برسالة من نابليون إلى طليقته جوزفين يوضح فيها الأسباب والمصير الذي آلت إليه الحملة على روسيا. ولكن على الرغم من ذلك كان مشهد حرق موسكو أفضل بكثير من مشهد الحريق في الحرب والسلام إلى الدرجة التي شعرنا فيها بالحرارة والتوهج، وهذا يعود بطبيعة الحال للقدرات الرقمية الفائقة المستخدمة حالياً.
النفي ومعركة واترلو
يتمكّن نابليون من الفرار من منفاه في جزيرة إلبا، وينجح في تكوين جيش بعد أن غامر بالوقوف أمام جنود الفيلق الفرنسي الخامس وهم يسدّدون حرابهم نحو صدره، وبعبارات بسيطة تمكن من استمالتهم وراحوا يصيحون: يحيا الإمبراطور! وهذا دليل على أنّ الجنود ظلوا على إيمانهم به على الرغم من إخفاقه الكبير في غزو روسيا. وفي واترلو خسر المعركة وخسر كل شيء لأنه واجه الجيش الإنجليزي بقيادة ويلنغتون والجيش البروسي بقيادة بلوخر في ظروف معقدة جدّاً. وفي مشهد خلال المعركة يمنع القائد الإنجليزي أحد ضباطه من إطلاق النار على نابليون بعد أن أصبح في مدى بندقية الأخير. قال له: (لدى قادة الجيش أشياء أفضل لفعلها بدلاً من إطلاق النار على بعضهم بعضاً). لماذا يفعل ويلنغتون شيئاً كهذا؟ هل هي تقاليد الفرسان؟ أم هي شهامة القادة العظام؟ لا أظن ذلك. ما أراده ويلنغتون بتقديري نصراً كبيراً وحاسماً على نابليون الحي وليس الميت، أراد نصراً كاملاً على القائد الأسطوري الذي سيذكره التاريخ بكثير من عبارات التبجيل والتقدير. كانت احتمالات انتصار ويلنغتون أكبر، لديه خطة دفاعية جيدة استغل فيها طبيعة الأرض، كما أنّ المطر أخّر هجوم الجيش الفرنسي ليعطي فسحة من الوقت لوصول الجيش البروسي.
وجهة نظر الأطراف الأخرى في الصراع
ما غاب عن أحداث الفيلم وأثّر على اكتمال الدائرة بالنسبة لي هو وجهة نظر خصومه المحليين والأوروبيين، كنت أود لو كان هناك تركيز أكثر على هذا الأمر، فما يقوله الآخرون وما يفكرون به جزء من السياق التاريخي ويجب عرضه حتى تتكامل جميع العناصر وتتضح الصورة، كان يجب أن نلمس خوفهم وقلقهم وهواجسهم، ماذا كانوا يقولون عنه؟ ما هي الصفات التي كانوا يصفونه بها: مغرور، متهور، متعطش للسلطة؟ عبقري؟ قائد عسكري ومخطط إستراتيجي بارع؟ سياسي متواضع برؤية قاصرة؟
كلمة أخيرة في الفيلم
القرار الإستراتيجي لصناع الفيلم منذ البداية كان بتبني التركيز على حياة نابليون وجوزفين كعاشقين وزوجين وطليقين، ولو كان التوجه لصناعة ثلاثية تعرض بتأن المراحل التي مرت بها أوروبا خلال الفترة النابليونية لكان أفضل من حيث إشباع الحدث بدل هذا التلاهث خلف المفاصل المهمة، ولكن يبقى الجانب التقني من الفيلم رائعاً ومبهراً من حيث تخطيط المعارك والتكتيكات العسكرية المستخدمة خلال تلك الفترة إلى الدرجة التي يصلح فيها العمل ليكون فيلماً وثائقيّاً للباحثين في التاريخ العسكري لتلك الفترة، خصوصاً ما حدث في طولون وأوسترليتز وواترلو. في النهاية تبقى جدليّة التلقي سمة الأعمال الكبيرة التي نختلف حولها لكن هذا لا يقلل من قيمتها الفنية والمعرفية.

ذو صلة