مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

سلعنة الواقع.. في الإعلام الرقمي

يقول المثل الإنجليزي: (If you are not paying for it، you›re not the customer; you›re the product being sold) بمعنى (إذا كان المنتج مجاناً، فأنت المنتج). قد يبدو للمطلع العام أن مواقع عدة على الإنترنت ومنها منصات التواصل الاجتماعي هي مجانية بالكامل، حيث لا مقابل على استخدامها أو نشر محتواها أو النشر من خلالها، لكن في حقيقة الأمر قد لا يكون المقابل هو عملية دفع (الأموال) بشكل مباشر للموقع بل قد تكون العملية أن تقايض على أمور أخرى نظير التصفح والولوج للموقع.
فالاعتقاد والتسليم الكامل أن تلك المنصات وجدت للترابط والتواصل بين المجتمعات المتعددة وفقط، دون محاولة من قبل مؤسسيها للكسب الضخم من قبل الكم الهائل من البيانات الشخصية التي يضعها المستخدمون -بحسن نية- واعتقادهم أن تلك البيانات لا تشكل سرية كبيرة أو حتى قد تعرضهم لإشكاليات مستقبلية، فبيانات كتحديد الموقع الحالي والهوايات والتفضيلات الشخصية ورسائل الواتساب بين الأصدقاء قد لا تبدو في حقيقتها أمراً حساساً أو مهماً، ولكن لماذا تبلغ هذه الصناعة 200 مليار دولار سنوياً إن لم تكن كذلك؟ فهي تتبع وتحلل سلوك العملاء باستخدام هذه البيانات، مما يمنحها قوة هائلة في سوق الإعلانات، لتزويد الشركات بالمجموعات المستهدفة الأكثر ملاءمة لمنتجاتها وخدماتها.
فالعبارة في مستهل المقالة تشير إلى أنه عندما نستخدم خدمات مجانية عبر الإنترنت مثل منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، فإننا لسنا عملاء بالمعنى التقليدي. بدلاً من ذلك، نحن المنتج الذي تبيعه هذه الشركات للمعلنين. فيتم جمع بياناتنا الشخصية وعادات التصفح والسلوكيات عبر الإنترنت وتحليلها لإنشاء قواعد معلومات تفصيلية حولنا. يتم بعد ذلك بيع هذه الملفات الشخصية للمعلنين لتقديم إعلانات شديدة الاستهداف من المرجح أن تؤدي إلى الشراء أو تغيير نمط التفكير أو أياً يكن هدفها الفعلي الموجه.
فالإعلانات تستمد قيمتها ليس فقط من وصولها إلى انتباه المستخدمين، ولكن من وصولها إلى معلوماتهم الشخصية. ف  سعندما يبيع Facebook إعلاناً يستهدف شخصاً ما لديه سجل التصفح الخاص بك، يبدو الأمر وكأنك شخصياً يتم بيعك بطريقة لا أخلاقية من خلال الوصول لبياناتك، قد يعتقد البعض أن ذلك قد يدخل في نظرية المؤامرة Conspiracy Theory وأن ذلك لا أساس له من الصحة، يجعلنا ذلك نعود لعدة أيام سابقة من اليوم، حين اعترف مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بأنه اشترى بيانات المواطنين الأمريكيين من الشركات الخاصة الرقمية، أيضاً منصة مثل فيسبوك اُتهمت في مطلع العام السابق كونها تجهز خطة لدفع المعلنين إلى إنفاق المزيد من المال. في مقابل (زيادة الوصول إلى معلومات دقيقة للمستخدمين).
وليس ذلك وفقط، بل قد تصل رؤيتنا كمنتج إلى أن يكون كل ما نقوم به من تصدير وإنتاج للمحتوى الرقمي بمثابة تسويق لذات المنصة، كما تقوم بذلك منصات مثل يوتيوب، فحين معرفة أن قناتك تحظى بالمزيد من المشاهدات سيتعرض متابعوها إلى المزيد من الإعلانات، فقد كنت أشاهد بالأمس حلقة لبرنامج الليوان على منصة YouTube مدتها تصل إلى الساعة ونصف تخللها قرابة 20 إعلاناً تجارياً، معظمها من منتجات بحثت عنها سابقاً أو ذكرت شفهياً بأني أرغب باقتنائها، وبالتالي تعتقد القناة أنها تسعى للانتشار من خلال منصة يوتيوب لكنها في حقيقة الأمر تساعد يوتيوب في المزيد من التعرض للإعلانات للمشاهدين الذين هم بطبيعة الأمر (منتجات) وليسوا فقط متعرضين للمحتوى بشكل عرضي.
لا تكمن الفكرة في أن نتوقف كلياً عن استخدام تلك المنصات، بل وكخطوة مبدئية أن نكون على دراية بالمقايضات والتنازلات التي نقوم بها عندما نستخدم المنصات المجانية عبر الإنترنت. يجب أن نكون يقظين بشأن خصوصيتنا عبر الإنترنت، واتخاذ خطوات للحد من كمية المعلومات الشخصية التي نشاركها. كالبيانات الشخصية ومعلومات التواجد، وأيضاً تتبع الـ cookies الذي يحتفظ بكل انتقالة نجريها حين تصفحنا لتلك المواقع. أيضاً خطوة مهمة هي دعم جهود التشريع التي تعمل على حماية حقوق الخصوصية الخاصة بنا. على سبيل المثال، توفر اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) للاتحاد الأوروبي إطاراً لحماية البيانات والخصوصية لمستخدمي الإنترنت يمكن أن يكون الضغط من أجل قوانين مماثلة في المملكة العربية السعودية وسيلة فعالة لتشجيع الشركات على أن تكون أكثر شفافية بشأن ممارسات جمع البيانات الخاصة بها.
حقيقة، ذلك ينوهنا على نمط جديد من الرأسمالية وهو (رأسمالية المراقبة Surveillance capitalism) قد يبدو المصطلح حديثاً وغير متداول، وهو كذلك بالفعل، حيث يشير المصطلح لوصف (عملية شاملة من المراقبة والتحكم في السلوك البشري بهدف الربح من سلعنة الواقع، وذلك: من خلال التحليل التنبؤي للكثير من البيانات التي تصف حياة وسلوك مئات الملايين من الناس، ما يسمح بتحديد الروابط والأنماط السلوكية، والاستدلال على المعلومات المتعلقة بالأفراد، والتنبؤ بسلوكهم المستقبلي) وهو مفهوم اقتصادي سياسي، يشير إلى جمع البيانات الشخصية وتسليعها على نطاق واسع من قبل الشركات التكنولوجية. ويختلف بذلك عن المراقبة الحكومية، على الرغم من أن الاثنين يمكن أن يعزز كل منهما الآخر. إن المفهوم، كما وصفته شوشانا زوبوف Shoshana Zuboff، مدفوع بحافز جني الأرباح، ونشأ عندما رأت شركات الإعلان، احتمالات استخدام البيانات الشخصية لاستهداف المستهلكين. أصبح نموذج الأعمال هذا، المعروف باسم رأسمالية المراقبة، أساس الاقتصاد الرقمي الحديث. جمعت شركات مثل Google وFacebook ثروة هائلة من خلال استغلال المعلومات الشخصية. في مقابل الوصول المجاني إلى تلك المنصات.
قد تكون الآثار المترتبة على هذا النموذج بعيدة المدى، فالمخاوف الفعلية بشأن الخصوصية طالما يتم جمع معلوماتنا الشخصية وتخزينها من قبل الشركات الكبرى، دون ضمان أنها ستتم حمايتها من التهديدات الإلكترونية أو إساءة الاستخدام، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون الإعلانات شديدة الاستهداف الناتجة عن عملية جمع البيانات هذه متلاعبة، وتشكل معتقداتنا وآرائنا بطرق قد لا نكون على علم بها، فمن خلال تحليل كافة ما يتم من مدخلات من قبلنا في تلك المواقع المتعددة تتكون قاعدة محددة لأنماط سلوكنا ورغباتنا وحتى أذواقنا في الطعام والملبس، وبالتالي لن يكون من الصعب على الذكاء الاصطناعي والخوارزميات أن تبدأ بتكرار وتكثيف إعلانات محددة وليس لمنتجات ملموسة وفقط، بل لأفكار أيضاً، أو مواقع تخل بالآداب العامة، وهذا وكما أسلفت سيغير من أفراد المجتمعات وفقاً لهوى الشركات الكبرى ورغباتهم وإستراتيجياتهم التي على رأسها أن نصبح دولاً استهلاكية بالدرجة الأولى، بفكر غربي متزعزع بالدرجة الأولى.. أيضاً.

ذو صلة