مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

سيدة ورجل

في إجازة نهاية الأسبوع أجاب محيميد مع أصهاره وأسلافه دعوة والد زوجته، وقد سارت الأمسية بشكل اعتيادي، وبحلول الساعة الحادية عشرة ضجر الأطفال وأخذوا هواتف آبائهم عنوة، وشرب الرجال الكؤوس الأخيرة من الشاي وهم مخدرين، رغم أن نشاطاً دب فيهم أثناء تفرسهم في امرأة بالتلفاز، سمراء ممشوقة القوام فاتنة الملامح، عارية الكتفين والذراعين، تشرح بلغة جسدها الآسرة المواقع الطبيعية في الجزيرة العربية، وانسحبوا واحداً تلو الآخر فور اختتام فقرتها التلفازية.
وبدوره أراد محيميد العودة إلى بيته حالاً، إلا أن زوجته لا تجيب على اتصالاته، وارتبك وتحير بين الجلوس والنهوض حتى قضم أظافره بأسنانه، ثم لاحت له طريقة لينبئها، وهي أن يوفد طفلاً ينقل لها الخبر، وصمم على مناداة أحدهم وقبل أن ينطق حرفاً تراجع خجلاً. وليلئذ يغشاه النعاس ويعتري بدنه الفتور، وفي تلك الحالة خُيّل إليه أن امرأته لن تمانع مداعباته إذا استلقى على السرير.
وأخيراً حزم أمره وخرج مستأذناً، ومكث في سيارته أمام البيت، تحت عمود إنارة متعطل يومض بتقطع ويصدر أزيزاً مزعجاً، وقد دخن أكثر من سيجارة، وتأمل شعر لحيته المتفرق في المرآة الجانبية، ولاحقاً انتبه إلى تحذيرات شاشة العداد من قرب نفاد الوقود، وفجأة.. وقع سلفه وصهره في مرمى بصره وهم خارجين، وانحنى علهم لا يدركون وجوده، راجياً محرك السيارة الصاخب أن يسكن.
وحين استقام بظهره تملكه الغضب وأسرع في الاتصال بهاتفها، وما أن تناهى إلى مسامعه صوتها حتى شارف على أن يطير فرحاً، غير أنه قال بنبرة صارمة:
- ما الذي منعك من الرد؟ راسلتك كثيراً لأخبرك بأنني في الشارع.
صمتت في بادئ الأمر تاركة له فرصة الإصغاء إلى هذرة النساء حولها وهن يكررن (دعيه يرحل) (ماذا يريد).. وبررت موقفها قائلة:
- مشغولة
- في ماذا؟
- أجلس بجانب والدتي وأخواتي ونساء أخواني، أليس كافياً؟
- قبل يومين التقيتِ بهم حين فرغتِ من العمل!
- صحيح.. أما الآن أحتاج نصف ساعة وسأوافيك.
تقلبت ملامحه ممتعضاً.
- رجاءً لا تبطئي.
أنهت المكالمة.. ورثى حال نفسه بعد أن نظر إليها نظرة رحمة وشفقة.. ثم أحجم عن رؤية أوجاعه، وانصرف إلى البحث عما يصنعه.. وخطر في باله أن يؤوب إلى بيت والد زوجته، ولكن كبرياءه شرخ بمجرد تصور الأمر، فتربع وألصق كوعه على الباب محمّلاً يده عبء رأسه، وسرعان ما انثال عليه مجدداً ذاك العطف على ذاته، متمنياً لو أن بوسعه مواساتها وتطبيبها وحراستها، عوضاً عن التفرج بهذا الشعور الذي يزعزع كيانه ويزدريه ويُوهِن صبره، ويكرهه على إبصار وقته الضائع ومباغيه المأسورة، وها هو خياله يستجلب له صفة خارقة تغيثه وتخلصه من آلامه، وتحرره من واقعه، وأسرف في تفكيره إلى أن شكل له روحاً جديدة، ورسم حياة مستقرة.. بيد أن مضجعه قض لأن عقله، دون سابق إنذار، اجتر ما ألمّ به قبل ثلاثة أيام، حينما تولى بالسوق التجاري دفع العربة في ممراته الواسعة لساعتين ونصف الساعة، متعقباً زوجته التي تسبقه بأمتار، حيث كانت تتبضع حاجات نسائية، وعطور جسم تغاضى عن قيمتها الباهظة، وابتاعت مواد غذائية أوصتها بها الخادمة، وأيضاً اقتنت متاعاً يزين مجلس النساء لربما دعت عائلتها إلى وليمة.
وما أسخف همومه مقارنة مع ما جرى عصر البارحة، إبان ما كاد يغص بالأندومي في الصالة، وامرأته تفتح الباب مقبلة من العمل وهاتفها تضعه على كتفها وتثبته بأذنها، وبدا أنها تشكو إلى فيصل سوء أخلاق مهند، وفي النهاية وعدته بالنظر إلى النصف المملوء في الكأس. بينما فغر فاه محيميد وهو يرمق عباءتها الزرقاء وطرحتها السماوية وكمامتها السوداء، وراقبها في غضون نزعها لكعبيها المزدانين بقدميها الورديتين.
على كل حال.. ركد بعد هذه العاصفة، ورفع برودة التكييف ريثما تثلجت أطرافه وغفا متناسياً أين هو، واستراح من اللكز المضني في صدره، وتحرر من قلق يعتلجه ويكدر معيشته.. وما لبث أن أفاق دائخاً يمسح اللعاب عن طرف فمه، إذ أيقظه هدير محرك سيارة مجاورة له، وقد لاحظ أن خمسة عشر دقيقة مضت من المكالمة، وأوشك أن يقفز من مكانه، بسبب فجيعته يوم عاين أزوف البطارية من الانتهاء، وأن الوقود انقضى نصفه، وأن الباكيت ليس به غير سيجارة.
اتصل مجدداً على زوجته، وأجابت في الرنة الأخيرة:
- آه.. ما زلت في الخارج؟
- وأين سأكون؟
- نسيت بأنك هناك.
- ما رأيك أن تكتفين بالربع الساعة؟
- فكرة مذهلة.. لولا أنني سأبات الليلة في بيت أبي.
- ولماذا لم تخبريني؟
- قلت لك أنني نسيت، أهناك مشكلة؟
ضج المكان عندها بأصوات جليساتها.. وطفِئ هاتفه وهي تصرخ: (ها؟ لا أسمع.. صوتك بعيد.. عد إلى البيت وفيما بعد حادثني).

ذو صلة