مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

أقداح الغياب

تفيض عيونُ السّماء وجعاً يبعثر الصّمتَ في الأرجاء كئيباً. ويسكن الكونُ إلّا من نعيقِ غربان ساغبة ترى عرسَها على بعد أميالٍ جليّاً.
الدمّ يراقُ
يد هنا تبترُ.. وهناك ساقٌ
أشلاءٌ تفحّم واحتراقٌ..
ترنّح أحمد وهو يحمل بين راحتيه عمراً ذبيحاً، ارتمى على كومة من اللّحم المفروم علّه يجد له مكاناً يستر فيه عورته.
التفّتْ حوله اللُّحى فأعتم في ظلالها، و طوّقته الجلابيبُ تنفض عن الخندق غبارهُ وتلعق أتربته ودماءه، بينما يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن أصيب بشظيّة عبوّة ناسفة. أخرج الفتى صورة من جيب قميصه كان قد لفّها في قطعة قماش بالية، تأمّلها بحرقة، لثمها بشدّة قبل أن يتقدّم منه قائدُ الكتيبة بهدوء ويهمس إليه:
هنيئاً لك بالنّصر المبين! تلك حوريّة بل حور عين ينتظرْن قدومكَ لتزفّ عروساً في جنّة الخلد مظفّراً! ستقطف من الثّمار النّاضجة أينعهَا.. ستعبّ من أنهار الشّهدِ حتّى الثّمالة والخدر.
(ابتسامةٌ باهتة تتهيّأ لترتسمَ على فمٍ معفّر بالموتِ..)
الفصولُ السّبعةُ تتهيّأُ لتجتاح سواحلكَ وتنام عند عتبات بابكَ تتفيّأُ ظلال نعيمكَ.. شوك أيّامكَ يا صاحبي يتكسّر على صخب الحرير ويتطاير في الفضاء هباءً منثوراً. أردف أبو جهاد.
تزحف غيومٌ سوداءُ داكنةٌ على صدر أحمد وهو يتأمّل تلك الصّورةَ القديمةَ التّي كشفت عن ملامح شابّة أنيقة تحتضن امرأةً طاعنة في السنّ تفنّن الزّمانُ في رسم تجاعيدَ كثيفة ٍعلى جبينها وأخاديدَ متعرّجة ٍعلى صفحة وجههَا. تنهمر دموع الشّاب وتسّاقط حارّةً على جسده الرّاجفِ.
أهي دموعُ الوداع أم النّدم أم الحنين إلى أمّ كانت ترنو إلى ملأى السّنابل بزهوٍ وخيلاء، تُمنّي النّفسَ بحصاد وفيرٍ بعد سنوات عجافٍ احتبس فيها المطرُ وشحّ السّحاب وأطلقت الرّياح العنان للعواءِ، فملأت اليوم الكفّين خيراً عميماً وانهملتْ شلاّلات حزن تتراقصُ على شعاعها أقداح الغياب؟! أم هو الشّوق ألهبه إلى حبيبة حلمت بربيع قادم فانقضت مواسم متتاليات ولم يأتِ الرّبيع، فهالها أن رأت فراشاتها المتألّقة تتلاشى ألوانُها الزّاهية، يتناثر رحيقها على الإسفلت وحلاً نزقاً؟!
يشهق أحمد، ينزف بغزارة، والأمطار تتدفّق من عينيه بسخاء.
كان شابّاً نبيهاً، يقبل على الحياة بشوق، وينهل من ينابيع المعرفة الثّرة بنهم، ولا يفوته أن يؤدّي واجباته الدينيّة بانتظام واعتدال؛ بيد أنّ طباعَه تغيّرت شيئاً فشياً بعد ثورة الكرامة. فانقطع عن الدّراسة بشكل مفاجئ، ولم يكن يفصله عن التّخرج من كليّة الحقوق إلّا سنة واحدة، وتفرّغ إثرها إلى المواعظ والخطب الدينيّة التي لم تعد حكراً على أيّام الجمعة، بل صارت تلقى على امتداد أيّام الأسبوع، وتجاوزت فضاء المسجد الضيّق لتجد لها صدى واسعاً حتّى في الفضاءات العامّة.
وأضحى الشّاب فظّا مع شقيقاته، فمنعهنّ من متابعة المسلسلات، وحذّرهن من الاستماع إلى الأغاني، أو ترديدها، بل أجبرهنّ على ارتداء النّقاب. ولا غرابة؛ فقد استبدل سراويل الجينز الملوّنة والمراويل الشبابيّة الصّاخبة بجلباب أبيض وطاقيّة مافتئ يضعها فوق رأسه. حتّى كتب الشّعر و الأدب التي كان يقبل عليها بشغف أتلفها جميعها حتّى لا تسكن الشّياطينُ المنزلَ!
حبيبته تخلّى عنها كذلك، رفيقة درب الدّراسة الثّانوية والجامعيّة. أتراه نسي أيّام اللّهو والصّخب والمرح؟ ألم يعد يذكر تردّدهما على قاعات المسرح والسّينما وأروقة الفنون في العاصمة؟ ألأنّها لم تقتنع بما زرعوه في ذهنه من أفكار خلّفها وراءه ورحل؟ أتراها أذنبتْ حين أصغتْ إلى شدو أسراب الشّحارير والسّنونوات تقدّ من سلال الرّياحين خيوط نور متألّقة متوهّجة؟ أم تراها أخطأتْ حين تابعت بشغف العصافيرَ تحلّق فوق الرّبى جذلى تنتقل من سوسنة إلى سوسنةٍ ومن سنبلةٍ إلى أخرى تريد الظّمأ أن ترويه والبهجةَ أن تشيعها.
قبّل أحمد صورة الأحبّة، واستغرق في نشيج عميق إلى أن عاوده صوت القائد ليقطع عليه مناجاته:
لقد وفيت بالنّذر، أعداء الله، حاربتَ المشركين منهم، والمرتدّينَ قاتلتَ. إنّكَ بالمكافأة لجديرٌ.
أصوات كثيرة تمورُ وتصطخبُ داخله، نبضاته تتسارعُ، أنفاسه تتلاشى، والأصوات أبداً لا تهدأُ.
صاح أحد الجنود فجأة ليلجم عنان الصّخب داخله:
وكأنّي برائحة المسك تضوّع في الأرجاء.
قال آخر:
إنّها تدغدغ أنوفنا و تخدّرنا خدراً لذيذاً ممتعاً.
قال ثالث :
إنها لتنبعث، ويا للعجب من حذاء رفيقنا!
صاح الجميع أتراه المهديُّ المنتظرُ؟
- تكبير..
- الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..
تقدّم أبو جهاد المجموعةَ مذهولاً، أمسك حذاء أحمد، وكان أسودَ مهترئاً تكسوه طبقةٌ من الوحل، أدناه إلى أنفه، سكب فيه كامل ملامحه منبهراً، ارتشف عطرهُ على مهل، ودعا الجميع إلى تقبيله تبرّكاً به، ثمّ أمرهم أن يمزّقوه قطعاً صغيرة، وليحتفظ كلّ منكم بقطعة لنفسه حتّى يتذكّر حسن الختام وجزيل العطاءِ.
غامت عينا أمين وهو يصارع سكراتِ الموت، لم يشأ أن يرحلَ دون أن يتلفّظ بكلمات الوداع الأخيرة التّي تناثرت حروفها على شفتيه منهكة عليلة:
إليكِ.. إليهَا.. إلى الخضراء..
تحيّة وسلاما..
وبعد :
كفكفي يا أمّ حزنك واغفري زلّتي، أما خبّروك أنّ دمع الشّمس تهترئ له الجفون؟
تماسكي يا مهجة الرّوح ونور العين خولة، واصفحي خذلاني.
لا تنكّسي يا خضراء رأسك، بل اقطعي أيادي الظّلام واثأري لشقائق النّعمان، باغتوها وأنتِ وهم نيام، كانت بين رباك غافية تهدهدها قطرات النّور والطّل، فتسلّلوا إليها ذات ليلة، اقتلعوا جذورها من الأعماق، ولمّا تنمُ بعد، وتتسامق، زرعوها في تربة مالحة عارية إلّا من غيوم الوحل وسيول الخديعة. و هل تنبت زهرة في الأرض ال...ي...ب...ا.....ب؟
لكنّ الموت أدركه قبل أن يتمّ رسالة الوداع..
- إليّ بالهاتف الجوّال: قال أبو جهاد، سنتّصل بوالدته لنزفّ إليها الخبر السّعيد.
- ألو.. من المتّصل؟
- أبشري يا أمّه.. اليوم فقط قطع ابنك تذكرة السّفر إلى الجنّة!
- أحمد..أحمد
- الحوريّة.. أبو جهاد.. الجنّة!
- يا ولدي فيق.. بقلة ليك وللحوريّة متاعك.. هذاك آش مازال!
- معذرة يا أمّي.. يبدو أنّني شردت قليلاً وأنا أتابع نشرة الأخبار.
- الله يحسن العاقبة يا وليدي ويهلك من كان سبب!!

ذو صلة