مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

العجوز والمقهى

كانت الساعة الثالثة ظهراً، لم أكن متعباً، فالأجواء الجميلة تحيطني من كل زاوية، الشمس لم تكن حارة، والزمان في أوائل الربيع، والسماء منذ يومين اغتسلت بالمطر، والغيوم ما تزال تداعبها الرياح الخفيفة فتأتي وتذهب، كنت منتشياً، ولذا أردت قراءة كتاب حملته معي مع كوب قهوة مُحلّى، بعد أن تجولت في الأسواق القريبة الخالية من أي متسوق، وجدت مقهى، حملت كتابي ودخلت.
كان المكان غير نظيف بدرجة كافية، آثار الخطى واضحة، وبقية من قصاصات أوراق صغيرة خفية في زواياه. لم تكن اللحظة الأولى بشرى خير، رائحة الدخان تنبعث من قسم المدخنين، ذهبت إلى القسم الآخر الخالي، أخذت مكاني في وسط المقهى بحثاً عن هدوء، بعيداً عن النوافذ وبعيداً عن محاسب المقهى، فتحت كتابي وبدأت أقرأ.
في الطرف الآخر حيث المدخنون، كلما رفعت ناظري وقع على رجل عجوز ناحل الوجه ضعيف البنية يقلب عينيه فيما حوله، تعبر السنين في ملامحه، نظارته مقعرة لتصويب الهدف، ثيابه ليست أنيقة، وشعره الأبيض غير مرتب، يجلس مقابل الباب، كأنه يترصد أو يترقب، كان يدخن بعفوية خبير، أمامه كوب قهوة يبدو فارغاً، فهو لم يتحرك من مكانه على طرف الطاولة. كان منظره مؤلماً، فلم تكن القهوة والسيجارة كفيلتين بأن تعيدا وهج حياته المتناثر مع الأيام.
بعد دقائق دخل شاب طويل القامة نحيف الجسم في وجهه قلق خفي، وجلس بالقرب مني، ألقى التحية وجلس، فقابلته بتحية، وعدت لكتابي أقرأ فيه.
التفت إليّ ذلك الشاب وفي شفتيه كلام يتردد عن حال ذلك العجوز، بعد لحظات قال: ذلك الرجل يدخن بشراهة، ويأتي كل يوم هنا من الساعة الواحدة ظهراً إلى غروب الشمس، أبدى الشاب امتعاضه، لم يكن خفياً عليّ أنّ هذا الشاب يدخن، فشفتاه تنبئان بذلك، ولكنه انصرف عن الجلوس في مكان المدخنين خشية أن يأتي إليه ذلك العجوز ويطلب منه سيجارة، هل كان ذلك بخلاً، أم أنه لا يستطيع الحصول على قيمة الدخان ويريد أن يحافظ على ما يملكه منه بقية يومه؟ حاول أن يتحدث معي وأنا غير مطمئن، التفت إليه واستمعت لكلماته المتسارعة خشية أن أنصرف عنه، فاستبشر بنظراتي إليه مع رغبة في قلبي لقطع كلامه، قصصه وحكاياته لم تكن مهمة، قلتُ في نفسي: ما هذه الورطة، الله يعين عليه. لكنه أصر قائلاً: هذا الرجل العجوز يحضر كل يوم ثم يترقب من يدخل إلى قاعة المدخنين، وبعد دقائق يذهب إلى فريسته التي راقبها، فما إن تقوم بإخراج دخانها من جيبها حتى يطلب منها سيجارة مجانية، وهكذا يستمر كل اليوم بطريقة لا يمكن ردها، يقوم من كرسيه يمشي بهدوء يلتفت يمنة ويسرة، يقترب من طاولة فريسته يهمس بخجل طالباً مبتغاه. بعد دقائق قليلة لم تكن بالحسبان دخل رجل آخر كبير في السنّ لم يكن في هيئته إلا كهيئة مراهق يلبس بنطالاً قصيراً وفانيلة ملونة، ومباشرة ومن دون أن يجلس كالعجوز الأول توجه إلى شاب يدخن في زاوية المقهى وطلب منه سيجارة وخرج.
كانت اللحظات ثقيلة عليّ، فلم أكن مستعداً لحديث الغرباء، ولم يكن الشاب الذي بجواري في كلامه مسعفاً لي كي أتقبله فهو يأتي بكلمات لا أعرفها ولكنها تكشف عن سر في تصرفاته وعلاقاته، ثمة حاجز نفسي ربط على لساني في تلك اللحظات، ورغبة بالسكوت تلح عليّ. لكنه استمر بحديثه قائلاً: هذان الرجلان يأتيان كل يوم إلى هنا، يدخنان على حساب غيرهما وينعمان بقهوة مجانية مدفوعة الثمن ممن يجلس في هذه القاعة المعزولة.
حين تشبعت من حديثه وجدت طريق الخروج مثقلاً بذاكرة المكان المكتظ ألماً. بقية اليوم كان عقلي حائراً، وقلبي تائهاً. مشاعري تناثرت بعلامات حزن كأنها بقية قهوة سوداء.

ذو صلة