مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

الحركات الاجتماعة في عصر الميتافيرس

ستظل العدالة والبحث عن المساواة هاجس الإنسان الأول. وقد عرفت المجتمعات الإنسانية، منذ القدم، ممارسات ذات أبعاد احتجاجية، بهدف التغيير لواقع أفضل، أو لإشباع احتياجات معينة، أو الاعتراض على تغيير ما، وتنامت هذه الممارسات بتطور المجتمعات وتقدمها، وبات لهذه الممارسات شكل أكثر تنظيماً وتشبيكاً، وذا أهداف ومعايير محددة، لتظهر أشكال مختلفة من الحركات الاجتماعية.
وقد اهتم رواد علم الاجتماع بدراسة هذه الحركات بداية من الثورة الإنجليزية 1689 وظهرت جذور لتصنيف الحركات في الفكر الماركسي، واستمر تطور الحركات الاجتماعية والفكر السوسيولوجي المواكب لها لتفسير أسبابها وفقاً للتغيرات التي تمر بها المجتمعات وأبرزها العولمة وما أفرزته من حركات مناهضة لها. تلك الحركات (الجديدة) التي أعطت أبعاداً مغايرة لصورة الحركة الاجتماعية والفعل الجماعي المرتبط بها. ولتعطي تحدياً أمام علماء السوسيولوجيا حول أهدافها ومطالبها التي باتت بعيدة عن الصراع الطبقي وعن الرغبة في السلطة، بل بات هناك هاجس أكبر لدى هذه الحركات هو التحكم في الفعل التاريخ وكتابته.
جدلية المفهوم
يمكن تتبع نشأة مصطلح (الحركات الاجتماعية) عبر العصور ولكن تشير موسوعة علم الاجتماع إلى أن أول من استخدم المفهوم هو سان سيمون في فرنسا أواخر القرن الثامن عشر لوصف حركات التمرد الاجتماعي التي ظهرت هناك والتي مثلت قوى سياسية معارضة للوضع القائم. لكن لم يبدأ فعلياً طرحه كمصطلح إلا في أوائل القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية وتحديداً في كتاب المؤرخ الألماني لورانز فون شتاين L.Von stein في كتابه عن تاريخ الحركات الاجتماعية في فرنسا والذي صدر عام 1850، وقد استخدم المصطلح ليشير إلى محاولات البروليتاريا الحصول على مكتسبات اقتصادية وسياسية متأثراً بالفكر الماركسي. و(للدلالة على أشكال وصيغ الاحتجاج الإنساني الرامية إلى التغيير وإعادة البناء).
يرى هانك جونستون، مؤلف كتاب (الدول والحركات الاجتماعية) أن الحركة الاجتماعية هي شكل حديث من أشكال الاحتجاج تطورت جنباً إلى جنب مع تطور الدولة. ففي بداية القرن التاسع عشر حدثت طفرة في التنظيمات السياسية ودخلت الجمعيات في أوروبا وأمريكا في دوامة من التنافس على المصالح والنقاط المتعددة للضغط والتأثير. وفي قلب هذه المعركة بدأت ذخيرة الحركات الاجتماعية التي نعرفها اليوم في البزوغ.
بينما عرفها عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر الشهير آلان تورين، باعتبارها المفهوم الإجرائي للصراع، ويعرف الحركات الاجتماعية في كتابه (الصوت والنظرة: كلاسيكيات العلوم الاجتماعية) La voix et le regard. Les classiques des sciences sociales، بأنها: (السلوك الجماعي المنظم لفاعل طبقي في صراعه ضد خصمه الطبقي من أجل التحكم الاجتماعي في التاريخانية).
فقد فسر تورين تطور الحركات الاجتماعية بما يواكب تطور المجتمعات، في كتابه (براديغما جديدة لفهم عالم اليوم) قائلاً: (النزاعات الكبرى تتمحور حول اتجاه التغيير التاريخي أي (التحديث).. فقد تم إبدال الحركات الاجتماعية الناشئة في نمط معين من المجتمعات بحركات تاريخية تتناسب مع نمط إدارة آخر للتغيير التاريخي).
يرى تورين أن العولمة هي شكل متطرف من أشكال الرأسمالية، والتي فرضت بدورها طوراً جديداً من أطوار الصراع، يقول تورين: (لقد تلاشى صراع الطبقات، لأن الصراعات انتقلت من مشاكل الإنتاج الداخلية إلى الإستراتيجيات العالمية المعتمدة في المشروعات عبر الدولية والشبكات المالية).
مقاربة تاريخانية تورين وثقافوية جرامشي
يقول تورين إن عالم اليوم مليء بالمواجهات الثقافية والاجتماعية والسياسية، تلك المقولة التي تتفق مع ما طرحه المفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو جرامشي (1891 - 1937) من أن المجتمعات كلها تمزقها صراعات وخلافات، وذلك في سياق فكرة (الهيمنة) التي حللها سوسيولوجياً بأن الطبقة الحاكمة تحاول بسط سيطرتها على الطبقات الأخرى. وتحدث أحياناً مفاوضات تتم فيها تسويات بين مصالح أصحاب النفوذ ومصالح الضعفاء. ويقر جرامشي بأن كثيراً ما تكون سلطة الطبقة الحاكمة كافية للسيطرة على أشكال المقاومة هذه وتوجيهها ما يضمن لها الحفاظ على نفوذها.
تركيز جرامشي على (الصراع والمقاومة) ينسجم بشكل جيد مع فكرة (الثقافوية)، التي تفيد أن الأفراد العاديين يستجيبون بشكل إبداعي للظروف التي يجدون أنفسهم في مواجهتها. وهذا التحليل يتفق أيضاً مع أفكار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو التي تعتبر الثقافة وإدارتها شكلاً من أشكال سيطرة الطبقة. وكما نبه بورديو لخطورة تفاوت رأس المال الثقافي وسياسات الإقصاء من جانب طبقة المثقفين ودورها في تعميق اللامساواة. فقد أشار إلى الفجوة بين التطلعات التي يتيحها نظام التعليم وبين الفرص المتاحة فعلياً في تحليله لثورة الطلاب الفرنسيين في مايو عام 1968، فخيبة الأمل الجماعية دفعت هؤلاء الطلاب إلى الشعور بالإساءة والامتهان وبالتالي العداء للمؤسسات.
كذلك ينبه عالم الاجتماع الأمريكي مايكل بوراواي ورئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع إلى أن تدميرية السوق العالمية وخطورة الرأسمالية الجديدة على توسيع هوة اللامساواة والإقصاء والاستبعاد، وهي العوامل التي تشكل الحركات الاجتماعية والانتفاضات والثورات، فقد تمت سلعنة كل شيء المعرفة مثلاً عبر تعميق العنصرية التعليمية، وخصخصة المعرفة. فضلاً عن سيطرة التكنولوجيا وخفض القوى العاملة ما يؤدي لانتشار البطالة وبالتالي تعميق اللامساواة وتهميش المزيد من البشر.
الحركات الاجتماعية عابرة للحدود والثقافات
إن الحركات الاجتماعية تطورت بتطور المجتمعات والتغيرات التي طرأت عليها، والطبيعة المترابطة للأنماط الجديدة من المشكلات: التلوث، التغير المناخي، والأعداد المتزايدة من اللاجئين وظهور الأوبئة العالمية مثل: الأيدز، وكورونا أو تهديد الإرهاب. ومع تحول المجتمعات من النموذج الصناعي إلى النموذج المعلوماتي كما أشار عالم الاجتماع الاسباني مانويل كاستلز (2000) فإن الدول تضعف أمام مجتمع الشبكة وهو مجتمع يتبلع كل أشكال التنظيم، لذا يفترض كاستلز أن طبيعة السلطة والصراع تتغير. وتمتلك الشبكات قانوناً من الإدراج/الاستبعاد: فيما يتوافق مع الشبكة. كذلك يفترض كاستلز أن الصراع الاجتماعي هو ما يحدد أهداف الشبكات(المنعكسة في قوانين اتصالها).
في كتابه (هذا العالم الجديد)، أشار أورليش بيك إلى أن العولمة الثقافية نزعت المكان عن المنظمات الاجتماعية والسياسية، كما أنها حطمت الجماعات المحلية، فقد فتحت أمام الحركات السياسية إمكانات جديدة تماماً.
لقد أصبحت للحركات الاجتماعية القدرة والإمكانيات أن تحشد أعضاء غير متجانسين ومختلفين فكرياً وثقافياً ودينياً ومن جنسيات مختلفة حول قضايا معينة. إن التحكم في الوعي الجمعي أصبح أمراً في متناول الحركات الاجتماعية الجديدة، وهو أمر شديد الخطورة فيما يخص القيم والعادات التي تستهدفها الحركات الجديدة لاسيما (المثلية الجنسية). لقد أدركت الحركات الاجتماعية الجديدة أن الصراع المباشر (المنهج الراديكالي العنيف) مع الدولة لا جدوى منه، واتبعت منهج التدرج في مواجهة الهيمنة المسيطرة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
يقول أورليش بيك: إن قوة الشبكات عبر الحدود والحركات السياسية تكمن في أن أناساً عاديين تماماً يعملون على الساحة العالمية بصفة اختيارية من أجل قضية بناء على مبادرة خاصة مصدرها الفائض من وقتهم وطاقتهم وهذه الحركات لا تتوافر عادة لا على مال كثير ولا على موارد أخرى وفيرة، ولكنها تمتلك ما ليس لدى الممثلين المؤسسين الرسميين في السياسة والإدارة والاقتصاد، ويتمثل في المصداقية الثقافية. إنها تستغل الالتزام بقيم معينة وتستفيد من المعارف والمهارات التي لا تروج لها الدولة ولا الشركات أو القادة الدينيون، وليس من الضروري كذلك أن يقتصر استعمالها على الاستهلاك الخاص. لذلك فإن الحركات العابرة للحدود متوقفة على شروط معينة تتصل بالإنتاجية والاستهلاك والعمل في رأسمالية اليوم، التي تستوجب نشر تطبيقات ثقافية جديدة، وتشجع على أشكال من الهويات الجديدة.
واليوم في عصر أصبح للمؤسسات والأشخاص تواجد فعال عبر الميتافيرس وما بعد الافتراضي، فتحت آفاقاً جديدة لتكون الشبكات ومن ثم إمكانية تولد حركات اجتماعية (ميتافيرسية).
ويفند أورليش بيك مصادر النزاع التي تولد الحركات الاجتماعية: الأزمات البيئية، والكوارث والانهيارات (عن طريق الحوادث الكيمائية أو النووية، والنتائج المباشرة أو غير المباشرة للكوارث المناخية، والصراع من أجل الموارد القليلة الضرورية للحياة) فضلاً عن الصراع من أجل الأصوليات الجديدة أو القديمة.
ويمثل كتاب تيد روبرت جير Gurr المعنون: (لماذا يتمرد البشر؟) إسهاماً مهماً في شرح الفرضيات المتعلقة بالعنف السياسي، ويحلل الحرمان بوصفه حالة توتر، تنتج من التناقض بين أوضاع الإنسان أو مجموعة من البشر، وتطلعاتهم إلى الحصول على الرفاهية أو الأمن أو التحقق الذاتي، وليس أوضعاهم الاقتصادية. ومن ثم فإن عمق ومدى الشعور بالإحباط الناتج من إدراك الحرمان هو الحافز الرئيس للعصيان الجماهيري. فكلما زادت رقعة الحرمان في المجتمع، وتقلصت شرعية النظام، ونمت الأفكار الثورية، كانت قدرة الناس على الثورة والتمرد كبيرة.
يعد الشعور بالظلم أكبر مسببات الحرمان (أياً كان نوعه مادي أو عاطفي أو صحي أو غيره)، وقد ألمح إريك هوفر في تحليله للشروط النفسية للاحتجاج، أن الناس لا يحتجون على حكامهم بدافع الفقر أو الجوع، بل بدافع التطلع إلى مستقبل أفضل. ويرى هوفر أن أتباع الحركات الاجتماعية ليسوا فقراء ولا الغاضبون، بل الطامحون والحالمون. ويمر الاحتجاج بثلاث مراحل، هي: توليد السخط، وتسييس السخط، وإخراج السخط إلى حيز الوجود.
سيناريوهات تشكل حركات اجتماعية عام 2023
تشير المؤشرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في العالم اليوم وتحديداً في ظل نشوب الحرب الروسية الأوكرانية وصراع الصين والولايات المتحدة على زعامة العالم وتفاقم أزمة الأمن الغذائي العالمي، فإن هناك عدة سيناريوهات تشي بتشكل حركات اجتماعية عالمية في ظل عالم يعتريه تزايد في عدم تكافؤ الفرص واللامساواة الناجمة عن التقدم التكنولوجي.
السيناريو الأول: سوف تنشأ حركات اجتماعية ذات توجه أيديولوجي جديد لتحقيق غايات يوتوبية في محاولة لاستعادة توازن النفس البشرية في ظل ضغوط العصر الرقمي. وسوف تنهض حركات بيئية تطالب بالعدالة والحد من التلوث في ظل التغير المناخي. كما سوف تنشأ حركات تطمح في تعديل سياسة التسلح العسكري ووقف الحروب والنزاعات في أعقاب التوتر الروسي الأوكراني والصيني التايواني، كحركات ضد السلاح النووي. بينما في دول العالم الثالث سوف تنشأ حركات تتصارع مع قيم مجتمعاتها وعاداتها وتقاليدها لتعديلها وتوجيهها نحو عادات وقيم جديدة، مثل حركات نسوية جديدة، وحركات مثلية جنسية. في مقابلها سوف تظهر حركات مضادة راديكالية دينية تحث على التمسك بالقيم الدينية.
السيناريو الثاني: مبني على تراجع دور المجتمع المدني في العديد من البلدان، مما يؤدي لظهور حركات اجتماعية ذات أهداف سياسية ترفض سياسات الدول وتسعى لتغييرها في ظل أزمة التضخم العالمية التي تضرب بلا هوادة. في ظل ديموقراطية شكلية، ومع ارتفاع نسب البطالة العالمية سوف تظهر أعمال تمرد، يصاحبه تشكيك في السياسيين واتساع ظاهرة اللامنتمين ومن ثم ظهور (الحركات الاجتماعية) والتي لن تكون مؤهلة للإمساك بزمام السلطة ولكنها تسعى لمكتسبات مادية وحقوقية في الأساس.
في ظل توحش الرأسمالية الجديدة ومع تراخي النخب عن أداء دورها في التحرك لتحقيق المساواة ومراعاة حقوق الإنسان سوف يؤدي هذا لنشوء حركات على نطاق إقليمي بغرض الرغبة في تغيير الأوضاع بسبب فقدان الثقة في مؤسسات الدول والنظم الاقتصادية والسياسية يصاحبه تزايد في الشعور بالاغتراب والانعزال عن المجتمع، وبالتالي البحث عن مخلص ينتزع هؤلاء الأفراد من حالة الشعور باليأس. ومع تصاعد المحتوى العنيف في الأفلام والمسلسلات عبر المنصات الإلكترونية مثل نتفليكس وغيرها يشكل هذا عنصر خطورة في تحريك للفعل الاحتجاجي على نحو عنيف غير مسبوق.
إن الخطورة التي تجابهها مجتمعاتنا الإنسانية اليوم هو نقص الموارد للحاجات الأساسية للبشر مع ارتفاع سقف الطموحات والتطلعات نظراً لمستوى الرفاهية التي وصلت إليها البشرية والتي سوف تصطدم بنقص الموارد والإمكانات وهو الأمر الذي بدأ في أوروبا بشكل مخيف في ظل سباق التسليح والصراعات الباردة والصراعات العسكرية والجيوسياسية، سوف تكون عواقبه انتفاضات اجتماعية فوضوية أحياناً تحركها دوافع السخط والحرمان والإحباط من انخفاض التوقعات وفي كثير من الأحيان التمرد على الأمر الواقع الذي تفرضه الدول الكبرى.
السيناريو الثالث: من المحتمل أن تتوسع الحركات الاجتماعية أفقياً عبر شبكات التواصل الاجتماعي وعبر الميتافيرس ما يوسع أطر الفعل الاحتجاجي الافتراضي أيضاً بالتوازي مع التواجد الكثيف في المجال العام الواقعي. اليوم، وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية التي شهدت قبل 60 عاماً أهم حركة حقوق مدنية أثارها مارتن لوثر كينج، لا تزال هناك دعوات للحصول على الحقوق المدنية. كما تتزايد الدعوات لتوظيف الأغاني لتحقيق التغيير الاجتماعي عبر توظيف الموسيقى كأداة لضم المزيد من الأعضاء للحركات الاجتماعية وهي وسيلة لطالما نجحت في منتصف القرن العشرين، والآن يمكنها أن تحقق انتشاراً مذهلاً لتصبح عابرة للقارات، نظراً لوجود شبكات التواصل الاجتماعي.
لقد كانت إشكالية التواصل والحشد تعيق أحياناً الحركات في القرون السابقة، أما الآن ففي ظل إمكانيات المواطنة الرقمية فإن الحركات الاجتماعية دخلت في طور جديد لكتابة التاريخ.

ذو صلة