مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

تجديد النحو وتقريب العربية من الناشئة

يقول الشاعر المهجري نعمة قازان، في الرد على النحاة المتنطعين، الكارهين للعربية:
وقلتُ، وقلتُ، وللدهرِ قولٌ
    وليس على الدهرِ من حُجَّةِ!
حلفتُ، بأُمِّيَ، لا ناكثاً
    ويا لكَ، بالأُمِّ مِنْ حِلفةِ!
إذا فتحَ اللهُ يوماً عليَّ
    (رفعتُ) البناءَ على الكسرةِ!
أَقاسَ النحاةُ حدودَ الزمانِ
    ومرمى خيالي وعقليتي؟!
لقد حدَّدوها، لِأفكارهم
    فضاقتْ، وزمَّتْ على فِكرتي!
لا، بل زاد في تهكمه قائلاً، بلغته الرشيقة:
أإن عاقَ دربي إلى اللهِ لفظٌ
    هَمَزْتُ جوادي، يسيرُ الخَبَبْ!
وجوَّزتُ في الصَّرفِ، ما لا يجوزُ
    وأوجبتُ في النحو، ما لا يجِبْ!!
إلى متى، تظل صرخات الأجيال الفتية تتوالى من حولنا: نحن نكره النحو، ولا نفهمه؟! وإلى متى يظل المجمعيون والنحاة، يصرون على تدريس فلسفة النحو والتعليل المنطقي المعقد، وألغاز النحاة، بين صغارٍ، سيطرت عليهم العاميات واللغات الأجنبية ولغة السوشيال ميديا؟!
بداية، يعترف الباحث الأكاديمي عبدالله أحمد جادالكريم المتخصص في علوم العربية في كتابه الجديد (الدرس النحوي في القرن العشرين) الصادر مؤخراً عن مكتبة الآداب بالقاهرة؛ بمدى تغلغل التحديث والحداثة التي لفت جنباتها كافة مظاهر دراسة النحو العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى القرن الماضي وما تزال، فيقول: إن الحداثة تضرب بجذورها في الحياة العربية والإسلامية، فالإسلام بحد ذاته حداثة، ومحاولات التحديث وتطبيقاته في الحياة السياسية والفكرية قائمة ومستمرة طوال التاريخ.. إن التراث العربي القديم قد ارتبط بالتغيير والتنامي، منذ فجر انبثاقه، بدءاً من النص القرآني الذي أحدث إرباكاً في تفكير الجاهلي وسلوكه وقيمه ونمط معيشته.. مما يفسر أن الحداثة ليست تغييراً لأجل التغيير، وأنها أيضاً ليست أمراً طارئاً على الفكر العربي الحديث ولا هي نتاجاً حتمياً لما انتهى إليه الفكر الغربي على المستوى الحضاري الشامل.. وإن التراث العربي القديم لم يكن وليد بداوة ساذجة وتلقائية، إنما عبَّر عن قابلية هذه البداوة المتأصلة للمغايرة والمطابقة، مع الواقع الحضاري الجديد المتميز بالتكثيف والتركيز.
ثورة ابن مضاء النحوية
فمنذ صرخ العالم الأندلسي ابن مضاء القرطبي (ت592هـ)، وهي ثورة واقعية تجديدية في كتابه (الرد على النحاة) الذين وصفهم بالتقليديين، عندما رفض أن يستمر الدرس النحوي العربي لمدة ثلاثة قرون يرتكز على مجموعة من القواعد التي نالت درجة التقديس عند كثير منهم. وكانت ثورة ابن مضاء دعوة تجديدية باكرة لإعادة النظر في منهج النحو العربي، وهو في كتابه المختصر النافع لا يدعو إلى هدم النحو ونسف الماضي، بل يطالب بتجريد النحو من الشوائب وتخليصه من تصنُّع النحاة وحذلقاتهم، ولذلك يقول: (إني رأيت النحويين -رحمة الله عليهم- قد وضعوا صناعة النحو لحفظ الكلام من اللحن، وصيانته من التغيير فبلغوا الغاية التي أمّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا). وقد استوحى آراءه النحوية الجديدة من المذهب الظاهري في الفقه.
شوقي ضيف وتجديد النحو
وينتقد جادالكريم عدم اهتمام معاصري ابن مضاء وخالفيه بما قال وأبدع، حيث استمر الغلاة في الصناعة النحوية بعد ابن مضاء على طريق الجمود والتنطع، إلى أن قام الدكتور العلامة شوقي ضيف رحمه الله بتحقيق هذا الكتاب عام 1947م، وأصدر من بعده كتابه (تجديد النحو)، وغيرها من بحوثه الداعمة لهذا الاتجاه الجديد.
يقول العلامة شوقي ضيف -رئيس مجمع الخالدين القاهري ورئيس اتحاد المجامع اللغوية العربية الأسبق- في مستهل كتابه الرائد (تجديد النحو) الصادر مؤخراً في طبعة شعبية عن مكتبة الأسرة بالقاهرة: (كان نشري لكتاب الرد على النحاة لابن مضاء القرطبي في سنة 1947م، باعثاً لي -منذ تحقيقه- على التفكير في تجديد النحو العربي، بعرضه عرضاً حديثاً على أسس قويمة، تُصَفِّيه، وتُرَوِّقه، وتجعله داني القطوف للناشئة. وقد رأيت ابن مضاء يهاجم نظرية العامل في النحو، وكل ما اتصل بها من كثرة التقدير للعوامل المحذوفة، وكثرة العلل والأقيسة، مما أحاله إلى ما يشبه شِباكاً معقَّدة، وكلما تخلَّص دارسه من إحدى شباكه، تعثَّر في أخرى، فضلاً عن شباك التمارين الرياضية الوعرة.. وكانت الصيحات ترتفع منذ أربعين عاماً مطالبةً بتيسير النحو، وتخليصه مما فيه من تعقيدٍ وعسرٍ شديد، وتألفت لذلك لجنة بوزارة المعارف المصرية، وكتبتْ تقريراً مسهباً ضمَّنته مقترحاتها للتيسير، ودرس مجمع اللغة العربية في مؤتمره سنة 1945م هذه المقترحات، وأدخل عليها بعض التعديلات. وأُلِّفت بعد ثورة 1952م كتب النحو التعليمي على ضوء صورة التيسير التي أقرَّها المجمع، غير أنه لم يُكْتَب لها النجاح).
ويقول شوقي ضيف رحمه الله: (وكنت وضعت بين يدي تحقيقي لكتاب الرد على النحاة مدخلاً طويلاً، اقترحت فيه تصنيفاً للنحو يذلل صعوباته، أقمته على ثلاثة أسس، أخذت بها جميعاً في تأليفي لهذا الكتاب، أولها: إعادة تنسيق أبواب النحو، بحيث يُستغنى عن طائفة منها، بِرَدِّ أمثلتها إلى الأبواب الباقية. والأساس الثاني: استضأت فيه بجوانب من آراء ابن مضاء في كتابه، وبمقترحات لجنة وزارة المعارف سالفة الذكر، وقرارات مؤتمر المجمع اللغوي، وهو إلغاء الإعراب التقديري في المفردات (مقصورةً ومنقوصةً ومضافةً إلى ياء المتكلم ومبنيةً).. كما رأيت إلغاء الإعراب المحلي في الجمل. والأساس الثالث: أنْ لا تُعرب كلمة لا يفيد إعرابها أي فائدة في صحة نطقها.. وفي سنة 1947م قدمتُ إلى مجمع اللغة العربية (الخالدين) مشروعاً لتيسير النحو، أقمته على الأسس الثلاثة السابقة، وأضفت إليها أساساً رابعاً، هو وضع تعريفات وضوابط دقيقة لأبواب المفعول المطلق، والمفعول معه، والحال، وأحال المجمع المشروع إلى لجنة الأصول، فتدارسته دراسة علمية قيمة، وأقرَّت اللجنة شطراً كبيراً من مقترحات المشروع، مُعدِّلة في جوانب منها، واعتمد مؤتمر المجمع قراراتها في سنة 1979م).
فهل لاحظنا، أن المجمع اللغوي (الخالدين) الموقر، ظل ثلاثين عاماً يدرس هذا المشروع، من خلال اللجان والميزانيات والروتين الحكومي والكسل اللغوي، حتى رحلت أعضاء، وجاءت أعضاء، والمجمع مازال يدرس ويدرس، حتى وافق على مشروع الدكتور شوقي ضيف، ولكن بعد تدهور حال العربية، وسوء صنيع أربابها، من جهابذة المجمع والنحويين، الذين لا يتحركون إلا بعد سقوط القدس وبغداد ودمشق وصنعاء وطرابلس الغرب!
ويضيف شوقي ضيف: (واهتديت إلى أساسين جديدين: خامس وسادس، ضممتهما في تأليف الكتاب إلى الأسس الأربعة السابقة، وكنت قد بسطت القول فيها، بمحاضرة لي في مؤتمر المجمع لسنة 1981م. أما الأساس الخامس، ، فحذف زوائد كثيرة في أبواب النحو، تُعْرَض فيه دون حاجة.. وكل هذه المتسلِّقات والأعشاب التي ملأت كتب النحو، نحَّيتها عن الكتاب. والأساس الأخير، وهو خاص، بزيادة إضافات لأبواب ضرورية، بجانب إضافات فرعية تتخلل الكتاب).
إذاً، فكتاب شوقي ضيق التجديدي، عبارة عن مدخل وستة أقسام، هي: قسمان للصرف، وأربعة للنحو، فأضاف في القسم الأول الصرفي قواعد لنطق الحروف وصفاتها وحركاتها وما يداخلها من التشديد والتنوين والمد والإدغام والإبدال، وأفاد فيه بالقطع من علوم التجويد والقراءات، كما أضاف فيه لأقسام الفعل جداول تصريفه مع ضمائر الرفع المتصلة، ومع نون التوكيد، حتى يتمثل دارس النحو هذين النوعين من التصريف تمثلاً حسناً. والقسم الصرفي الثاني، خاص بتقسيمات الاسم، وتصاريفه، أضاف إليه الاستعمالات المتنوعة لتاء التأنيث اللفظي، والفرق بين نون المثنى وجمع المذكر السالم، ونون الأفعال الخمسة، كما أضاف اسم الجمع، واسم الجنس الجمعي، والمصدر الصناعي.. ووضع كذلك باب المضاف والمضاف إليه، وباب المتبوع والتابع: نعتاً، وعطفاً، وتوكيداً، وبدلاً، ليستقر في ذهن دارس النحو أن هذين البابين من أبواب الأسماء المفردة، لا من أبواب الجمل.
والقسم الثالث، خاص بالمرفوعات، فأضاف إلى باب المبتدأ والخبر، صيغة مستعملة قلما اهتم بها النحاة، وهي الجملة الخبرية بالفاء أو بالواو. وفي باب الفاعل أوضح جواز التذكير والتأنيث للفعل، إذا كان الفاعل جمع تكسير للذكور أو للإناث، كما أوضح وجوب تأنيث الفعل، وإفراده مع جمع ما لا يعقل. وأضاف جواز حذف الفاعل أحياناً، وكيف أنه يأتي مجروراً لفظاً ومحله الرفع. وأيضاً أن الفاعل قد يكون جملة، ومثله نائب الفاعل، وذكر طائفة من الأفعال المستعملة بصيغة المبني للمجهول.
والقسم الرابع، خاص بالمنصوبات، فأضاف إلى باب المفعول به: كاد وأخواتها، وظن وأخواتها، وأعلم وأخواتها، وأضاف مفعولات تأتي منصوبة وحقها الجر، وأخرى مجرورة لفظاً وحقها النصب. وفي باب المستثنى أوضح الفرق بين (إلا) أداة للاستثناء، و(إلا) أداة للحصر. وأخرج من هذا الباب (غير وسوى) ليطرد أعرابهما في صيغهما المستعملة. وأضاف كان وأخواتها إلى باب الحال، ونسَّق باب التمييز مدمجاً فيه صيغ الصفة المشبهة واسم التفضيل وفعل التعجب وأفعال المدح والذم وكنايات العدد وصيغة الاختصاص، كما أدمج شوقي ضيف في باب النداء صيغ الترخيم والاستغاثة والندبة.
والقسم الخامس، خاص بالتكملات في باب الممنوع من الصرف، فأضاف صيغة (أُخَر) جمعاً لأخرى، وصيغ (أُحاد ومَوحَد) إلى عُشار ومَعشر. وفتح باباً لعمل المصدر والمشتقات، وباباً ثانياً لحروف الزيادة جارَّةً، وغير جارَّة.
والقسم الأخير، كله إضافات لأبواب مهمة بدأها ببابين للذكر والحذف في عناصر الصيغة العربية، والتقديم والتأخير في تلك العناصر، وأضاف باباً للجملة الأساسية، وباباً لأنواع الجمل، وقسَّمها تقسيماً جديداً: جملاً مستقلة بنفسها، وجملاً خاضعة غير مستقلة ترتبط بكلمة أو جملة قبلها في الكلام، ولا تستقل عنهما أي استقلال.
إذاً، فقد حقق شوقي ضيف، من خلال هذا الكتاب التعليمي للشباب، أملاً طال انتظاره قروناً وقروناً، بتجديد النحو على منهاج وطيد، يُـذلِّـلـه ويُبَسِّطه، ويُعين على تمثُّل قواعده، واستكمال نواقصه. وقد حذف شوقي ضيف من أبواب النحو الثقيلة على الصغار، ثمانية عشر باباً فرعياً، اكتفاءً باستيفاء أمثلتها في الأبواب الأخرى، وحُذِفَ من الكتاب، كل ما لا يفيد إعرابه صحةً في النطق والأداء. أملاً في تدريس هذا الكتاب التعليمي التيسيري في المدارس والجامعات، حتى يُقْبِل الطلاب على العربية، حباً وعشقاً، بعد أن أحالها لهم النحاة الجامدون زقُّوماً وسعيراً.

ذو صلة