مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

اقتصاد آسيا

تشير عدد من المعطيات والمؤشرات إلى إمكان قيادة آسيا للعالم بأسره في المستقبل القريب أو المتوسط، لكن رغم ذلك علينا أن لا نخشى من طرح بعض الأسئلة: هل من الممكن عملياً أن تقود آسيا العالم في المستقبل؟ وكيف السبيل إلى صعود ممكن لهذه القارة إلى المرتبة الأولى في مستقبل خريطة العالم الاقتصادية؟

وفي الحقيقة وجب أن نشير هنا، انطلاقاً من تلك الأسئلة، إلى أن التفكير اليوم وحالياً في واقع آسيا الاقتصادي لا يستطيع أن ينفصل عن العودة بالنظر إلى الماضي وعن إلقاء نفس النظر على المستقبل القريب والمتوسط، إذ يذهب اعتقادنا إلى أن ما سيصدر عن تلك القارة من توجهات ومخططات اقتصادية وسياسية وثقافية ستكون حتماً توجهات العالم بأسره ومخططاته المستقبلية.
يمكن أن تكون العودة إلى ماضي القارة الاقتصادي لآسيا بالرجوع مثلاً إلى (مؤتمر باندونغ) الذي انعقد بجزيرة (جاوة) الإندونيسية من 18 إلى 24 أبريل 1955 وجمع 29 دولة منها 23 دولة آسيوية و6 دول أفريقية، وشارك فيه أيضاً حزب الدستور التونسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية. كان غرض هذا المؤتمر الذي دعا إليه الآسيويون وكانت أغلبيته آسيوية، كان غرضه اتفاق تلك الدول على حيادها وتشكيل ما سمي ساعتها (دول عدم الانحياز) النائية بنفسها عن (الحرب الباردة) التي وضعت أوزارها بين المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه) والمعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها). أما أهم الدول الآسيوية التي شاركت في (مؤتمر باندونغ) فكانت المملكة العربية السعودية، الصين، إندونيسيا، الهند، الفلبين.. إلخ. لكن ثمة غرض آخر لذلك المؤتمر لا يقل أهمية عن الغرض الأول وهو أن تلك الدول الخارجة لتوها من الاحتلال كانت قد اجتمعت سنة 1955 لإثبات استقلالها النهائي عن الاستعمار الغربي الذي وقعت تحته أغلب الدول الآسيوية منذ القرن التاسع عشر. عندما غادر الاحتلال مستعمراته القديمة، ترك تلك الدول في شلل اقتصادي رهيب كان بمثابة القنبلة الموقوتة التي تهدد بانفجار مستقبل القارة بأكملها وبخاصة مستقبل استقرارها السياسي.
لكن جرت الرياح بما لا تشتهيه سفن الاحتلال ومراكبه، إذ ما إن تحقق استقلال أغلب الدول الآسيوية في وسط السنوات 1950 حتى قررت هذه الأخيرة الخروج من التخلف ومغادرة ما كان يسمى أثناء فترة انعقاد (مؤتمر باندونغ) بالعالم الثالث، وهي تسمية تعود في جذورها الأولى إلى العبارة (الدولة الثالثة) التي ابتكرها الفرنسي (الأب سياز) في كتابه الذي عنوانه نفس تلك العبارة والذي نشره سنة 1789، وكان قد قصد بها الفقراء والبؤساء في الدولة الفرنسية الناشئة آنذاك. ما يعنينا هنا تحديداً هو أن الدول الآسيوية، الكبرى على الأقل، قد قررت منذ خمسينات القرن العشرين الخروج من الفقر والتخلف وتحقيق سيادتها السياسية التي تمر حتماً عبر تحقيق السيادة الاقتصادية، وهو أمر نراه اليوم، أي سنة 2023، نراه جلياً وواضحاً تماماً في أرقام النمو الاقتصادي وسائر المؤشرات الاقتصادية الأخرى في دول أضحت عملاقة حقاً مثل الصين والهند ودول الخليج العربي. في اعتقادنا، فهمت تلك الدول منذ سنة 1955 أن مفهوم الاستقلال ليس ذاته مفهوم السيادة. السيادة حسب الفيلسوف الفرنسي (جان بودان) (1529م - 1596م) هي (الحق المطلق في اتخاذ القرار ونقضه). كثيرة هي الدول التي حصلت على استقلالها السياسي لكنها ظلت رغم ذلك تابعة لدول خارجية تتدخل في شؤونها لأنها لم تتمكن إلى اليوم من تحقيق سيادتها الاقتصادية أساساً. على خلاف ذلك، يبدو لنا أن الدول الآسيوية الكبرى كالهند مثلاً قد استقلت في أواسط القرن العشرين وحققت على إثر ذلك أشواطاً عملاقة في تحقيق سيادتها الاقتصادية التي هي الضمان الوحيد لاستقلالها السياسي. الجمع بين الاستقلالية والسيادة ليس متاحاً لجميع الدول، يكفي أن نرى الانهيارات الاقتصادية في معظم الدول النامية في العالم لنفهم استمرار تدخل الدول الأجنبية فيها لأن مثل تلك الانهيارات تفقد الدول (حقها المطلق في اتخاذ القرار ونقضه)، أي إنها تفقدها سيادتها.
مع أواسط الخمسينات من القرن الماضي، أي بعد بضع سنوات من الخروج من صدمات الحقبة الاستعمارية واضطرابات الحرب العالمية الثانية، كانت آسيا تعد منطقة العالم الثالث التي مثلت تنميتها الاقتصادية مشكلة لا حل لها سواء على المدى القريب أو على المدى البعيد، وكانت متجهة بشكل لا يمكن إصلاحه إلى فقر متزايد ومزمن. كان الوضع في آسيا في تلك الحقبة موضوعاً محبذاً لوسائل الإعلام الغربية التي جعلته في نظر الرأي العام الغربي مرادفاً للبؤس والشقاء، فبدت الهند وجيرانها في شبه القارة الهندية على الصفحات الأولى من الصحف الأوروبية، بدت صوراً لوجوه آدمية جائعة، بائسة وتعيسة. بدت الصين في نفس تلك الفترة كما لو أنها عاجزة وغير قادرة على تهدئة الاضطرابات الكارثية لثورتها التي لم تمض عليها سوى بضع سنوات وغارقة تحت وطأة نمو ديموغرافي طوفاني. في نفس تلك الخمسينات أيضاً، كان الوضع في جنوب شرق آسيا إلى ذاك الحين متموجاً وغير ثابت، جسمته مثلاً فيتنام المنهارة بسبب حرب مدمرة. إندونيسيا لم تكن بدورها مستقرة في تلك الخمسينات من القرن الفارط، ولقد اعتبرها عديدون ساعتها رمزاً للدول النامية الفاشلة. حتى الشرق الأقصى لم يكن يبدو واعداً في ذلك الوقت حيث سيطرت عليه حالة كوريا التي تمزقت إلى قسمين وأُجبرت على إرسال عمالها إلى اليابان والبعث بأطفالها إلى أوروبا أو الولايات المتحدة.
باختصار شديد، بدت آسيا للكثيرين في تلك الفترة المفصلية من تاريخها الما- بعد كولونيالي، بدت كما لو أنها في الطريق إلى الجحيم الاقتصادي والخراب السياسي.
لكن، منذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي لاحظ العالم بأسره بداية حدوث تغيير في المشهد الاقتصادي الآسيوي، وما عاد ممكناً لأحد أن يتحدث عن فقرها المثير للشفقة لأنها ما عادت في الحقيقة محتاجة إلى تعبئة التعاطف المزعوم، إذ بدأت معدلات النمو الاقتصادي في الإعلان عن طفرات اقتصادية تصاعدية وسريعة الوتيرة. تقدم وسائل الإعلام الغربية منذ الثمانينات تقريباً إلى اليوم، تقدم آسيا دائماً كنموذج للديناميكية الاقتصادية التي يجب على الدول الصناعية الغربية اتباعه والسير على منواله، لقد انتهى عهد دول العالم الثالث الآسيوية واستُبدلت صورته للضحية البائسة بصورة منافس هائل ومخيف. لنا أن نستحضر في هذا المجال صورة (التنانين الأربعة) من الشرق الأقصى، أي كوريا وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة، أو صورة الدول العملاقة المرعبة للاقتصاد الغربي مثل الصين، أو أيضاً دول جنوب شرق آسيا مثل تايلند وماليزيا التي تقدمت فيها عملية التصنيع بشكل جيد، أو إندونيسيا التي تعد الآن نموذجاً لبقية العالم الثالث لنجاح سياستها للتنمية الفلاحية. بالإضافة إلى ذلك، حققت غالبية الدول في شبه القارة الهندية أيضاً تقدماً هائلاً في جميع المجالات، حتى أن الهند بدأت في الظهور كواحدة من المنتجين الصناعيين الرئيسيين في الجنوب. أخيراً وليس آخراً، بدأت الصين بالفعل شريكاً تجارياً ضرورياً لبقية دول العالم في شتى القارات.
باختصار شديد، تعطي آسيا منذ تسعينات القرن الماضي إلى الآن انطباعاً بأنها تسير بثبات على المسار الصحيح.
كيف يمكننا أن نفسر مثل هذا التقدم المذهل لآسيا من نهاية الخمسينات إلى اليوم؟ تلك المدة قصيرة دون شك، غير أن النجاح الخارق لبعض البلدان الآسيوية مثل الهند أو سنغافورة أو تايوان أو كوريا هو نتيجة فقط لجهود التنمية التي تم الاضطلاع بإنجازها في نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الاستقلال الوطني، جهود تمت متابعتها بعزيمة وإصرار. ثمة أيضاً الروح الحيوية المتأصلة في دول الشرق والتي قوامها الأساسي التوفيق بين الموروث الحضاري والانفتاح على العالم الخارجي، هو إن شئنا الروح الذي صنع ثراء التقاليد الآسيوية القديمة وعظمتها. لذلك لا يوجد عندنا موجب للاعتقاد بأن فيتنام مثلاً لن تتمكن عاجلاً أم آجلاً من الانضمام إلى ركب تطور مجموعة جيرانها.
يوجد أيضاً سبب آخر للنمو الآسيوي الجبار، وهو التغيير الذي حدث منذ نهاية الحرب الكونية الثانية في مستوى الهياكل السوسيو- اجتماعية والسوسيو- سياسية لغالبية تلك الدول، هو تغيير يثير حقاً الكثير من الإعجاب. في البداية، انطلق ذلك التغيير بتطوير فلاحة الكفاف عبر تحديث وسائل الإنتاج وطرقه بغرض تكثيف محاصيل الأرز والقمح. رأينا ذلك في الصين وإندونيسيا وكوريا والهند وباكستان وتايوان. في تايلند بدأ التغيير في تلك الهياكل بتنويع الإنتاج. كان التغيير في بدايته قاعدياً، وكان التطوير الأولي والبدئي زراعياً مصحوباً بتنويع ما يسمى بالاقتصاد الريفي القائم على إنجاز أنشطة (خارج الضيعة) كتعبئة وتخزين المنتجات، وإصلاح المعدات، بل حتى تصنيع قطع غيار تلك المعدات، ونقل المواد الغذائية للسوق لبيعها ولشراء السلع الكبرى المصنعة. في اعتقادنا، ساهم هذا التنويع في الاقتصاد الريفي في التصنيع التدريجي الآسيوي الذي انتقل بسلاسة من استبدال التوريد بالتصدير، وهو أمر غالباً ما لعبت فيه في البداية الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم دوراً رئيساً، ثم تكفلت به الدولة لاحقاً.
عموماً، نجد في كل الدول الآسيوية سبباً آخر لتطورها الاقتصادي وهو النجاح في خلق التوازن الاقتصادي الدقيق بين دور الدولة والمبادرة الخاصة، وهو في اعتقادنا سبب حاسم في نجاح آسيا في التنمية بمفهومها الواسع، أي التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية. لكن الحديث في ذلك يتجاوز حجم مقالنا نظراً لتشعب تفاصيله.
وفي خاتمة القول، يبدو لنا أن آسيا لا تزال غير معروفة بشكل كاف في باقي قارات العالم، وبخاصة في أوروبا التي لم تفهم جيداً أسباب التغيير السريع في آسيا واليقظة الاقتصادية بها. من الواضح أنه سيكون من الضروري التعرف عليها بشكل أفضل من أجل محاولة فهم قيمها وذهنياتها والشروع فوراً في تعلم لغاتها والتحدث بها، واحترام تقاليدها وأعرافها، وهو ما سيساهم بطبيعة الحال في الخفض من وتيرة سوء التفاهم الخطير الموجود بالفعل حول آسيا لدى الرأي العام الأوروبي. كثيراً ما يتم تقديم الاقتصاد الآسيوي والنظر إليه على أنه منافس يهدد ازدهار الأوروبيين من خلال إغراق أسواقهم بمنتجات جيدة وزهيدة الثمن، مما يعني ضمنياً تقديم آسيا على أنها مسؤولة إلى حد كبير عن الركود في بعض القطاعات الصناعية الأوروبية التقليدية التي تعاني من تداعيات قدرتها التنافسية المتفوقة كالصلب، وصناعات السفن والسيارات والنسيج، وبالتالي مسؤولة عن فقدان لفرص العمل في القارة العجوز وتنام للبطالة.

ذو صلة