مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

من جغرفة التاريخ غربياً إلى جغرفة الثقافة آسيوياً

يقتضي السياق العالمي الجديد، الذي بدأت تتوضح معالمه أكثر فأكثر في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، ضرورة مراجعة مدلول الحضارة وما يقترن به من مفاهيم للثقافة رسخها الفكر الغربي طيلة القرنين الماضيين تقريباً. وهو ما يمثل رهاناً منهجياً يستدعي تعديل المنوال المعهود في التفكير بالعلاقة بين الدول أو البلدان. فلم يعد بالإمكان أن نستمر في النظر إلى الأفق الآسيوي، الذي يبدو أنه يستجلب إليه أكثر فأكثر مستقبل البشرية، بنفس المقاربات التي أشاعها منوال الفكر الغربي. ونعني بذلك أن المطلوب اليوم هو أن نرى إلى هذا الأفق ضمن إطار عملية (جغرفة g,ographisation) للثقافة والقيم.

القطب الآسيوي أو الجوار الجغرافي الاقتصادي أفقاً لجوار إنساني
لئن كان الامتداد والتوسع الجغرافيان موكولين عادة، في التاريخ، إلى الحروب وما يترتب عنها من هيمنة اقتصادية وثقافية بحيث يكون المنطق المتحكم أساساً هو منطق استنبات ذاكرة تاريخية مزيفة في مخيال الشعوب المغلوبة على أمرها بحيث تُلحق جغرافيا المغلوب بتاريخ الغالب، فإن جغرفة الثقافة آسيوياً يمكن أن تكشف عن منزع في التثاقف أكثر إنسانوية من منظومة القيم التي بشر بها الفكر الغربي، ويا للمفارقة فقد بشر بها في عين اللحظة التاريخية التي تسارع فيها المد الاستعماري لكثير من بلدان آسيا وأفريقيا. ونعني بالجغرفة أساساً العلاقة الأفقية بين الشعوب وبين ثقافاتها في تجاوز للعلاقة العمودية التي يكرسها الاستعلاء التاريخي لدى بعض الأمم.
طبعاً لا تعني عملية الجغرفة إنكاراً للتاريخ، وإنما تعني أساساً الانتقال من ثنائية (السابق واللاحق) المحكومة بمنطق التاريخ إلى علاقة الجوار. ويبدو أن هذا ما تتسنى معاينته بشكل واضح نسبياً ونحن نتابع هذه الجغرفة على مستويين: انتشار منجزات التراث اللامادي، على اختلاف مظاهره ومضامينه بين البلدان الآسيوية التي ما فتئت قواها الاقتصادية تتصاعد، وانتشار أساليب الإبداع الأدبي (شعراً وسرداً) والفني (تشكيلاً وبصريات سينمائية) في هذه البلدان. فإذا كان النموذج الغربي منمطاً ويكاد يكون متجانساً، فإن النموذج الآسيوي متنوع كثيراً بمحلياته المتعددة. ولئن كنا نتحدث في هذه الورقة عن الفضاء الآسيوي بصفة التعميم، فلا بد أن القارئ الكريم يدرك لا محالة أننا لا نبخس بذلك التفاوت والتنوع بين مكونات هذا الفضاء، وإنما الاقتضاء المنهجي ما يملي ذلك.
القيم الآسيوية في مواجهة (التذرع) الغربي بحقوق الإنسان
يمكن بسط هذه المعادلة على هذا النحو فلسفياً: لقد أعلن الإنسان الغربي نفسه، منذ الكوجيتو الديكارتي، سيداً على الطبيعة. في حين ما زال الإنسان الآسيوي يستأنف وجوده بوصفه امتداداً للطبيعة. لدى الأول، الطبيعة خصم، ولدى الثاني، الطبيعة صديق. وربما لذلك حول نيتشه (زرادشت) صديق الطبيعة والأرض إلى شخصية مفهومية فلسفياً، واستوفدت بلدان غربية كثيرة رياضة (اليوغا) بغض النظر عن اختلاف العقائد والثقافات. بل إن ما يلاحظ أيضاً هو انتشار (الغاسترونوميا: فنون الطبخ) الآسيوية في كثير من بلدان العالم ومن بينها البلدان الغربية، ولا يخفى ما تحمله الغاسترونوميا من قيم ثقافية ومجتمعية معها عندما تترحل من بلد إلى آخر على ما تنوه بذلك الباحثة في الأنثروبولوجيا ماري-بيير نوغاز (Marie-Pierre Noguez)، وهي تكشف عن تجذر الثقافة الآسيوية في كثير من البلدان الأوروبية.
لا أحد يماري في أن تنمية الاقتصاد ترمي أساساً إلى تحقيق الكسب والغُنم، لكن أن تكون هذه التنمية مصحوبة بالحرص على الخصوصيات الثقافية للشعوب التي تجري المبادلات التجارية بينها والخبرات العلمية، فإن مما يلوح واضحاً اليوم في كثير من الاقتصاديات الآسيوية. فحتى صناعة الإشهار آسيوياً تختلف وظيفياً في أدائها عن صناعة الإشهار في الغرب التي تركز أساساً على التسويق الاستهلاكي المباشر، في حين تغلب على كثير من منجزات الومضات الإشهارية الوافدة من بلدان آسيا مضامين تشي بقيم المجتمعات التي تروج تلك الومضات لمنتوجاتها. وهذا ما بينته الكاتبة بجريدة (لوموند) الفرنسية فيرونيكا ريشبوا (Véronique Richebois) في دراستها للصعود الهائل لصناعة الإشهار في آسيا من خلال توظيف التكنولوجيات الجديدة توظيفاً حافظ على الميزات الثقافية للمجتمعات الآسيوية
العرب وذاكرتهم الآسيوية المسترجعة
من مثالب الانحصار في المنظور التاريخي هو أن آسيا ظلت لأحقاب طويلة بعيدة في مخيال معظم شعوب بلاد العرب، وإن كانت في الحقيقة قريبة ومجاورة في الجغرافيا وحتى في الروح. لكن لا مراء اليوم في أن الذاكرة العربية بدأت تطوي نسيانها للجوار الآسيوي في تعديلٍ واعٍ لخط سير العولمة الذي فرضه المنوال الغربي، وهذا ما بادرت به كثير من اقتصاديات بلدان الخليج العربي وهي تنتبه إلى أن هناك سردية أخرى لقصة النمو الاقتصادي هي السردية الآسيوية، على نحو ما ينوه بذلك المؤرخ والجغرافي الفرنسي كريستيان غراتالو (Christian Grataloup). وربما جاز لنا أن نخلص من ذلك إلى أن هذا الدرس (الآسيوي) هو ما شرعت منظمات بحثية كثيرة توصي به كثيراً من الدول، وبخاصة الأفريقية منها.

ذو صلة