مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

تلمسات (نظرية التلقي) في الموروث الأدبي العربي

إذا اعتبرنا سلفاً أن نظرية التلقي نظرية حديثة من حيث أبعادها التنظيرية ومنطلقاتها الفكرية والمفاهيم التي جاءت بها؛ فإن ذلك لا يمنع من أن تكون لهذه النظرية جذور في الآداب القديمة، وبالذات في التراث الأدبي العربي، لكون التلقي بداهة مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالإبداع، وجوداً وعدماً، وهو بالنهاية فعل إنساني مطنب في قدمه الذي يمتد إلى بدايات الإبداع الإنساني، وبداهة لا تتكامل أبعاد أي عمل أدبي دون التفاعل الحي بينه وبين المتلقي الذي يقوم بشرعنة وجود العمل وجدواه ومنحه بطاقة القبول أو الرفض.
ومنذ التماعات الأدب العربي الأولى كان موقف المتلقي قوياً، لأنه لم يكتفِ بامتلاك ناصية النظر أو البت بأهلية النص أو نقده، بل تعداها إلى الحكم على المبدع من خلال مبدأ التصنيف الفكري والفني، أو تصنيف شرائح وطبقات الكتاب والشعراء لتحديد مستوياتهم، وقد تم تأليف كتب ومجلدات بهذا الصدد، منها كتابا (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي، و(طبقات الشعراء) لابن المعتز العباسي، والتصنيف هو الخطوة الأولية التي تفضي إلى صورة الحكم النهائي، وهو الطريق الأقصر لاستكناه الحقائق والتعامل معها، وبعد التصنيف والفرز الأولي يأتي دور التأويل والتحليل وتفكيك النصوص وإعادة إنتاجها من قبل المتلقي حسب متبنياته الفكرية والفنية وذائقته الجمالية.
البلاغيون وعلماء اللغة العربية منذ بدايات عصر التدوين اعتنوا عناية فائقة بالمتلقي، وشخصوا دوره الفاعل في إنتاج النص الأدبي، كما عززوا بآرائهم العلاقة بين المبدع والنص من جهة، وبينهما معاً وبين المتلقي من جهة أخرى، وقد وردت الكثير من أقوال العلماء العرب بهذا الصدد في كتب ومؤلفات النقد والبلاغة المتوارثة، مثل: (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) لحازم القرطاجني، و(البيان والتبيين) للجاحظ، و(دلائل الإعجاز في علم المعاني) لعبدالقاهر الجرجاني، و(عيار الشعر) لابن طباطبا.. وغيرها، وقد فطن هؤلاء العلماء إلى الكثير من المسائل التي تخص التلقي، وهي ذاتها التي تناولتها نظرية التلقي الحديثة، ومن بين ذلك على سبيل المثال لا الحصر مسألة الأثر الذي يتركه النص على نفسية المتلقي، وخصوصاً في الشعر، أو مسألة شراكة المبدع والمتلقي في إنتاج العمل الإبداعي، كما أكدوا على مسألة (المقام) وما يتطلبه من أسلوب لغوي وتراكيب وصور فنية، واشترطوا وجود المتلقي الضليع بالبلاغة، لأن أي نص أو خطاب بليغ لا يؤثر بالمخاطب الجاهل، وبذلك حققوا قصب السبق في هذا المضمار.
وبالإضافة إلى المؤلفات الكثيرة، حفل الموروث الأدبي العربي عبر مراحله التاريخية المتعددة بالكثير من الأقوال المبثوثة في بطون الكتب الأدبية؛ تؤكد اعتناء علماء اللغة والبلاغة بالأبعاد الثلاث للعملية الإبداعية، وهي: مؤلف النص والمتلقي والنص نفسه، كما ركز العلماء العرب في كتاباتهم على البعد الوظيفي لكل بعد من هذه الأبعاد، وقد توسعوا في تبيان أثر كل من المؤلف (المخاطِب) بكسر الطاء والمتلقي (المخاطَب) بفتح الطاء في تشكيل النص (الخطاب)، وفي الوقت نفسه نال المتلقي سواء كان قارئاً أم مستمعاً حظوة كبيرة تخطت حظوة المؤلف، باعتبار أن الخطاب يكتبه المؤلف أو يمليه من أجل المخاطَب (المتلقي) بالأساس، لأن الهدف النهائي من هذه العملية هو حصول (الفهم والإفهام) كما حدد ذلك الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، مؤكداً أن: (مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام).
إن الحقائق العلمية التاريخية القائمة تشير بما لا يقبل الدحض إلى ازدهار اللغة العربية بالفصاحة ورقي مستوى الخطاب الأدبي فيها شعراً ونثراً منذ عصر ما قبل الإسلام، مروراً بمرحلة صدر الإسلام ومرحلة الدولة الأموية، ومن ثم مرحلة الدولة العباسية بعصورها الثلاث، وصولاً إلى فترة الانتكاسة الحضارية، كما أن من أهم الإفصاحات الحضارية للأمة العربية هو الإفصاح اللغوي والبلاغي وعلو كعب اللغة العربية في مجال الصناعة الأدبية، وهذا يجعلنا نطرح بعض التساؤلات، منها: هل كانت هناك توصلات نظرية تجسد فكرة التلقي في ذلك العصر؟ وإذا كان الجواب إيجاباً، ما هي مؤشرات هذه النظرية التي وصلتنا في كتب التراث؟ ولكي نتلمس الإجابة لا بد من فهم طبيعة الوشائج الوثيقة التي تربط المبدع بكل من المتلقي من جهة والنص من جهة أخرى، كما يتطلب الأمر معرفة مستوى اهتمام أدباء كل عصر من عصور تاريخ الأدب العربي بالدور الذي يلعبه المتلقي في بلورة النتاج الأدبي. وبدون أدنى شك أن هذه التساؤلات ليس لها علاقة بمسألة إثبات وجود إطار نظري متحقق من غيره، لكيلا يقودنا ذلك إلى مجرد الادعاء بمسألة السبق والريادة في هذا المضمار دون أدلة كافية.
والدلائل التي تشير إلى وجود تلمسات كثيرة في الموروث الأدبي العربي تشكل جذور ومرتكزات نظرية التلقي الحديثة، ولكن بدون شك ليست نفس التنظيرات ولا نفس المصطلحات أو المفاهيم التي طرحها علماء نظرية التلقي الحديثة، ولم تكن بنفس الصيغ النقدية أو الخلفية الفلسفية التي اعتمدها علماء الأدب الألماني الحديث الذين تبلورت على أيديهم هذه النظرية، ومن الثابت أن علماء اللغة العربية بمختلف تخصصاتهم كانوا قد تناولوا هذه القضايا بالبحث والدراسة، ولكن وفق مذاقهم اللغوي الخاص ومسمياتهم الخاصة التي استقوها من معين الثقافة العربية الثر وطبيعة الظرف التاريخي والاجتماعي الذي تمخضت عنه عصور الأدب. وبهذا الفهم فإن الإشارات والتلميحات العربية للعلاقة الوطيدة التي ربطت النص بالمتلقي أو المبدع بالمتلقي؛ كانت قد سبقت ما جاء بالمناهج الغربية من حديث عن العلاقة بين المبدع والنص والمتلقي.
وبالإمكان الإشارة في هذه العجالة إلى صفات أخرى تخص القارئ، وخصوصاً القارئ العربي، بعيداً عن المصطلحات والمسميات والمفاهيم التي طرحتها نظرية التلقي الحديثة عبر جميع مراحل تكاملها، ومنها: القارئ الضمني، القارئ الواقعي، القارئ الجامع، القارئ المثالي أو النموذجي، القارئ المتفوّق، القارئ المعاصر، القارئ الجامع، والقارئ المستهدف.. وغيرها من المسميات، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار تفاقم فكرة (معي أو ضدي) الضيقة، وعدم استطاعة الكثير من القراء أو المؤلفين الخروج من ربقة هذه الثنائية، رغم التوسع الحاصل في طرح الأفكار والنظريات، مقابل ذلك نجد أن أطراف مبادئ القبول والاختلاف قد ترامت وتعددت أسبابها، ما أدى إلى اتساع مديات المواقف التي تترتب على ذلك، ومن هنا نستطيع وصف أنواع معينة من القراء على النحو التالي:
- قارئ يضع نوايا الكاتب في قفص الاتهام ويحاكمها.
- قارئ يشكك فيما ينتجه الكاتب.
- قارئ لا يجد حرجاً في أن يوجه سهام النقد اللاذع إلى الكاتب الذي يحفر في المناطق المسكوت عنها، أو الذي يكشف الحقائق الدفينة ويجعلها عارية دون تغليف أو تزويق.
- قارئ يقبل أو يرفض الفكرة بوعي، فأما أن يتطابق مع توجه الكاتب وأفكاره بوعي كبير وفهم عال، وأما أن يرفضها بوعي وتفهم.
- قارئ يشارك الكاتب أفكاره ويتفاعل مع آرائه إيجابياً، فيقبل جزءاً منها ويعارض الجزء الآخر دون مناكفة.
وخلاصة القول: إن العلماء العرب من خلال استقراء كتب التراث أدركوا بشكل قاطع أن العملية الإبداعية لا تتحقق إلا بتوافر ثلاثة عناصر، هي: المبدع والمتلقي والنص، وقد وصفوا ذلك بمصطلحاتهم البلاغية الخاصة.

ذو صلة