مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

سعود الدغيثر.. التنمية.. وتجاذبات الدبلوماسية في بيروت

محمد بن عبدالله السيف: الرياض

مع الملك فيصل في مطار الرياض لاستقبال الرئيس اللبناني شارل الحلو


مثّلت المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية أهمية خاصة لدى الحكومة السعودية، منذ أيام الملك المؤسس، الذي وقف بنفسه على تصدير أول شحنة نفط منها إلى العالم، لتكون ذات أهمية حيوية عالمية، كما دشن شبكة حديد الدمام-الرياض، وأشرف بنفسه على بدايات التحول التنموي الهائل الذي ستشهده المنطقة لاحقاً.
نتيجة لهذه الأهمية، عمدت وزارة المالية والاقتصاد الوطني إلى تعيين ممثل مالي، تحول فيما بعد إلى وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني في المنطقة الشرقية، يتابع من خلالها مالياً وإدارياً، ويشرف على مراحل البناء والنهوض. وكان أول ممثل لوزارة المالية والاقتصاد الوطني هو الشيخ عبدالله بن عدوان، أحد أهم الشخصيات الوطنية في مجال المال والاقتصاد، والذي حظي بثقة المليك المؤسس للعمل ممثلاً لوزارة المالية والاقتصاد الوطني في المنطقة الشرقية منذ عام 1947م، وإلى جواره كان المهندس عبدالله الطريقي، العائد لتوّه من أمريكا، مشرفاً على إيرادات الحكومة لدى شركة أرامكو.
أما الرجل الثاني، الذي عمل وكيلاً لوزارة المالية والاقتصاد الوطني، فهو الأستاذ سعود بن عبدالعزيز الدغيثر، الذي باشر هذه المهمة الوطنية فورَ تولي الملك سعود بن عبدالعزيز مقاليد الحكم، في ثقة ممتدة أولاها إياه مليكه، الذي عرفه وخبره سنوات طوال، سكرتيراً وأمين سر، مميّزاً ومخلصاً.

مع الأمير (الملك) فهد بن عبدالعزيز مغادرين مطار بيروت ، ويبدو الأمير سطام بن عبدالعزيز

مولده ونشأته
ينتمي سعود الدغيثر إلى فرع آل حسن، من أسرة الدغيثر، المشهورة بمنطقة العارض، الضاربة بعمق في قبيلة بني حنيفة، التي سيطرت لقرون -ولا تزال- على هذه المنطقة. ولعل أقدم ذكر لهذه الأسرة في تواريخ نجد يعود إلى عام 1400م تقريباً، حينما قَدِم حسن بن طوق، جد أسرة المعمر والطوق، من بلدة ملهم إلى بلدة العيينة فاشتراها من أُسرة آل يزيد، الذين هم اليوم آل الدغيثر.
ولد سعود الدغيثر في حدود عام 1911م، وكان مولده في وادي الدواسر، جنوبي مدينة الرياض، وهي المدينة التي كان والده أميراً عليها، قبل أن ينتقل منها إلى إمارة الأفلاج، المجاورة لها. وتكتسب هاتان المدينتان أهمية في تلك الفترة من مرحلة التوحيد والتأسيس. وكان والده وعمه وعدد من أبناء أُسرته في الصفوف الأولى، من الرجالات المقاتلين، الذين شاركوا مليكهم ملحمة تأسيس هذا الكيان، مما ليس هنا مجال تناوله.
والدته هي شافية بنت وافي المسيّب الدوسري، التي فُجعت بوفاة زوجها، ومازال ابنها في العاشرة من عمره، فذهب أخوال والده، وهم من آل مبارك، لإحضار أبناء وبنات عبدالعزيز الدغيثر، وعرضوا أمرهم على الإمام الجليل عبدالرحمن الفيصل، كون عبدالعزيز الدغيثر قد أوصى الإمام خيراً بأبنائه، فكان أن خيّرهم الإمام عبدالرحمن بين الاستقرار في الرياض، تحت رعايته واهتمامه، أو السفر إلى حريملاء، مقر أخوالهم، فاختاروا حريملاء، ليُكمل سعود بها وبكتاتيبها ما بدأ يتعلمه ويقرأه في كتاتيب الأفلاج.
لم يطل به المقام في حريملاء، فانتقل إلى الرياض ومنها إلى مكة المكرمة ليعمل بدءاً من عام 1928م في وظيفة (مساعد أمير فوج)، براتب 7 جنيهات ذهب. لتكون هذه المهمة هي أول عمل وطني يقوم به، في السابعة عشرة من عمره، لتبدأ بعدها رحلة عمل طويلة امتدت أربعين عاماً في العمل الرسمي، وخمسة وثلاثين عاماً تالية لها، أوقفها على تعليم أبنائه وبناته وتأهيلهم، وفي أعمال خيرية ممتدة في الداخل والخارج.
عمل سعود الدغيثر على وظيفة (مساعد أمير فوج) صحبة الأمير فيصل بن عبدالعزيز، الذي كان وقتها نائباً للملك على الحجاز، ووزيراً للخارجية. ومن هذه الخبرة الخاصة في هذا الفوج، شارك في حرب اليمن ضمن حملة الأمير فيصل بن عبدالعزيز. وبعد عودته من حرب اليمن التحق في ديوان الملك عبدالعزيز عام 1934م. وفي الديوان تنقل في عدد من الأقسام والشُعب الإدارية، فاكتسب مهارات إدارية، واطلع على سير العمل وكيفيته مع العاهل الكبير ومع ابنه، ولي عهده الأمير سعود بن عبدالعزيز، ومع بقية المستشارين والموظفين، الذين كانوا كخلية النحل، في عمل دؤوب، مميز ومتقن. كان من أهمها ثقة ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز بتعيينه أمين سر له، أي سكرتيراً خاصاً، ليتعين بعدها رئيساً لديوان البرقيات حتى عام 1954م.

في استقبال وزير التجارة السعودي عابد شيخ

على ساحل الخليج
بعد وفاة الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، أصدر الملك سعود بن عبدالعزيز عدداً من القرارات التي استهدفت إنشاء وزارات وهيئات، وإعادة هيكلة لبعض القطاعات المالية والإدارية، سعياً وراء استكمال العمل والنهوض به، لاسيما بعد التوسع الكبير في القطاع العام، وهي قرارات لا يتسع المجال لعرضها، غير أن ما يهمنا هنا هو الأمر الذي اتخذه الملك سعود بتعيين سعود الدغيثر وكيلاً لوزارة المالية والاقتصاد الوطني بالمنطقة الشرقية، وهي ثقة ملكية غالية، لا تقل عن الثقة التي اُستودع إياها سنوات خلت، فالمنطقة الشرقية حينما تعيّن الدغيثر فيها وكيلاً لوزارة المال، كانت ورشة تنموية مذهلة، فهدير معدات أرامكو يملأ الآفاق، ورافعات ميناء الدمام تكاد تحجب الأنظار. أما الوردتان (الخبر والدمام) فقد بدأتا بالكاد تتحولان إلى مدن شابة وعصرية، تحتضنان الطاقات والخبرات، السعودية والأجنبية، التي تمدّ العالم بنفطه وبذهبه المسال. وكل ذلك يحتاج إلى كفاءة ذات خبرة، تُشرف على الإنفاق المالي الحكومي في هذه المنطقة التي لا تهدأ في ليلها، ناهيك عن نهارها المُشرق.
وصل سعود الدغيثر إلى الدمام، وتوجه إلى أميرها، الذي صنعها على عينه، الأمير سعود بن عبدالله بن جلوي. ووفقاً لصحيفة (الظهران) التي كان يصدرها الصحافي عبدالله الملحوق، فإن الدغيثر وصل إلى المنطقة الشرقية في ديسمبر 1954م، وأشارت إلى تعيينه قائلة: (نظراً لما يتمتع به من كفاءة وإخلاص، ونرجو أن يكون خير خلف لخير سلف).
الخير الذي سلف، هو الشيخ عبدالله بن عدوان، الذي تعرّف إليه سعود الدغيثر في كتاتيب حريملاء، لكنه كان في ذلك اليوم أحد أهم الشخصيات المرموقة، حكومياً وشعبياً، ويحظى بتقدير وافر، فهو من رجالات الحزم الإداري والعزم المالي. كان له دور كبير فيما شهدته المنطقة الشرقية منذ أن حلّ بها في عام 1947م. وقد شكّل مع أبناء المنطقة الشرقية ورجالات العمل الحكومي والخاص علاقات مميزة، لذلك كان قرار ترقيته وكيلاً لوزارة المالية والاقتصاد الوطني في مقرها الرئيس، بقدر ما أسعدهم وأبهجهم إلا أنّ سحابة حزن ظلّلتهم أياماً، سرعان ما تبدّدت مع مباشرة المسؤول الجديد سعود الدغيثر.
ولأن المغادر كبير القدر والمقام، والقادم الجديد قد سبقته سمعته الطيبة في أوساط المنطقة الشرقية، فقد تبارى رجال المال والأعمال، ووجهاء المجتمع وكبار موظفيه، إلى سلسلة من حفلات التكريم، توديعاً لابن عدوان واحتفاء بابن دغيثر، اضطر الشيخ عبدالله بن عدوان معها أن يؤجل سفره عدة أيام، ليرضي هذا العدد الكبير من المحبين، ولا أظن أن الشيخ محمد سرور الصبان، وزير المالية والاقتصاد الوطني سيسأل وكيله الجديد عن سبب تأخره، فهو يسمع الأخبار ويقرأها، وهو سعيد بما يجده وكيله من هذه المحبة الغامرة، ومما سيجده الوكيل الجديد في المنطقة من تقدير وافر.
أكثر من عشرين حفلة تكريمية شهدتها المنطقة الشرقية، كانت أولاها الحفلة التي أقامها الشيخ سليمان بن عبيد، قاضي الظهران، ثم حفلة حمد القصيبي، فحفلة تركي العطيشان. أما حفلة شركة أرامكو، التي أٌقيمت في مقر الشركة، فقد تحدث السيد كيز، رئيس الشركة، عن شكره وتقديره لابن عدوان على ما بذله من جهود طيلة سنوات عمله، مرحباً بخلفه الدغيثر. كما أقام عبدالعزيز بن ماضي، أمير الخبر، حفلة في فندق المطلوب، وكذلك التاجر محمد بن عبدالرحمن السعيد، ومدير فرع مؤسسة النقد العربي السعودي حامد دخيل، وعبدالله أبا الخيل، ومدير سكة الحديد السيد كلوي، ومدير خفر السواحل عبدالعزيز بن رشيد، والتاجر محمد بن ناصر بنعلي. أما موظفو شعبة الزيت فقد أقاموا حفلتهم في رأس تنورة. كما أُقيمت حفلة كبيرة في مزرعة عبدالله السليمان، وزير المالية السابق، أقامها موظفو مكتب وزارة المالية ومكتب التفتيش الجمركي، حظيت بحضور كبير من رجال المال والأعمال، وكبار رجال شركة أرامكو، ومديرو البنوك وكبار موظفي سكة الحديد وأعيان من الدمام والخبر، وقد تعددت الكلمات الملقاة أمام الحضور من محمد الفاهوم وناصر القبلان وعبدالله العومي، وعلي الغامدي وعبدالرحمن الشيباني. وفي كل حفلة، كان عبدالله بن عدوان يلقي كلمة يعبّر فيها، أصالة عن نفسه ونيابة عن زميله سعود الدغيثر، عن وافر شكره وتقديره على ما وجده من حفاوة طيلة سنوات عمله، متمنياً لخلفه النجاح والتوفيق.
غادر عبدالله بن عدوان المنطقة الشرقية، وكان على رأس مودعيه صديقه وزميله وخلفه سعود الدغيثر، الذي سرعان ما عاد إلى مكتبه المطل على مياه الخليج الدافئة، ليعكف على دراسة وضع المنطقة، وليلتقي بمسؤوليها، وعلى رأسهم أميرها، وبقية من مديرين -في قطاعات حكومية وخاصة- يلزمه أن يقف على أعمالهم، ويضع يده بأيديهم، فالبناء في بداياته، والوطن يحتاج إلى المزيد من العمل والجهد والوقت. وهذا ما أكده تقرير كتبه صديقه الأستاذ مصطفى بن حافظ وهبة، الذي كان يعمل وقتها مساعداً لمدير عام شؤون البترول والثروة المعدنية لشؤون الزيت، ومقره في الدمام، إذ أشار مصطفى وهبة في مقدمة تقريره إلى المحادثة الشفوية بتاريخ 5/ 10/ 1375هـ، وأن الدغيثر طلب منه مرئياته حيال الوضع في المنطقة الشرقية، ليذكر مصطفى أنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من العناية والاهتمام، نظراً لأهميتها العالمية ولكثرة وجود العناصر الأجنبية فيها، التي لا همّ لها إلا الانتقاد!
ودون تفاصيل، تطرّق مصطفى وهبة إلى ما تعانيه المنطقة من غلاء في المعيشة، وضرورة رفع مستوى التعليم فيها، لاسيما بوجود شركة نفط عالمية، وعدم وجود مستشفيات حكومية، فلا يوجد إلا مستوصفات لا تفي بالغرض المطلوب، وعرّج على ما تشهده من نقص في الطرق والمواصلات، إضافة إلى النقص في موظفي الجهاز الحكومي، وما إلى ذلك مما يخص المرافق العامة وشركة الزيت العربية أرامكو. وتمنى مصطفى في نهاية تقريره أن يكون فيما كتبه ما يُنير الطريق.
كان سعود الدغيثر في مقدمة مستقبلي وفد اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وهو الوفد الذي عقد مؤتمره في جدة برئاسة الدكتور طه حسين، وبرعاية وحضور وزير المعارف وقتها الأمير فهد بن عبدالعزيز، وكان الملك سعود بن عبدالعزيز قد وجّه بأن يزور الوفد المنطقة الشرقية ليطلع على أعمال الإنشاءات التي تشهدها، وقد تم ذلك، دون الدكتور طه حسين، الذي اتجه صوب المدينة المنورة، زائراً قبر النبي الكريم.
ويُشير خبر نشرته صحيفة (أخبار الظهران) أن مستشار وزارة المالية والاقتصاد الوطني زكي عمر يرافقه خبير بريطاني قد وصلا إلى المنطقة الشرقية لعمل الدراسات اللازمة واختيار المواقع لإنشاء (منطقة حرة) وأخرى للترانزيت!
وكان الشيخ عبدالعزيز بن حسن، وكيل وزارة المعارف، يرافقه ناصر المنقور وعبدالله بوقس، وصلوا إلى المنطقة الشرقية، وأٌقيم حفل كبير حضره سعود الدغيثر، وعبدالله العيسى، وكيل الأمن العام فيها.
كما أن السفير حافظ وهبة، وفقاً لصحيفة (أخبار الظهران)، زار المنطقة الشرقية، وكان في استقباله في محطة القطار سعود الدغيثر. وحينما سأل أحد الصحافيين حافظ وهبة عن سبب الزيارة، وهل لها علاقة بقضية البريمي؟ ردّ حافظ بكل حزم، قائلاً: إنها زيارة خاصة، لا علاقة لها بالقضية!
وحينما عاد الأمير سعود بن جلوي من رحلته العلاجية في ألمانيا أقام له سعود الدغيثر حفلة عشاء كبرى، حضرها القنصل الأمريكي ومدير المطار وكبار قادة الجيش الأمريكي، وكبار موظفي الدولة والأعيان من الخبر والدمام. وقد وصفتها صحيفة (أخبار الظهران) بأنها حفلة شائقة تجلّت فيها الروح العربية الكريمة. وثمّة صورة فوتوغرافية تجمعه مع الأمير سعود بن جلوي، تعود إلى مايو 1957م، وهما يدشنان أول شحنة نفط تُصدّر من حقل السفانية، أكبر حقل نفطي مغمور في العالم.
أمضى سعود الدغيثر خمس سنوات وكيلاً لوزارة المالية والاقتصاد الوطني في المنطقة الشرقية، كان خلالها شعلة من النشاط والحيوية، كما كان خلالها، أيضاً، واحداً من رجالات التنمية والبناء في تلك المنطقة، يشاركه العمل التنموي، كل من موقعه وحسب مسؤولياته، الأمير سعود بن جلوي، وعبدالعزيز بن معمر، الذي كان يعمل وقتها مديراً عاماً لمصلحة العمل والعمال، وتركي بن عطيشان، الذي خلَف المعمر في المصلحة، وعبدالعزيز التركي، مدير التعليم بالمنطقة، ومصطفى حافظ وهبة، وعبدالعزيز بن ماضي، أمير الخبر. ورئيس شركة أرامكو، ومدير خفر السواحل، ومدير ميناء الدمام، وغيرهم الكثير ممن يقفون في مواقع عملهم، بكل إخلاص وتفانٍ ومسؤولية.
هذه الصفحات لا تتسع لعرض ما قدمه الدغيثر من جهود تنموية في المنطقة الشرقية، إذ إن ذلك يحتاج إلى رجوع لأراشيف جهات عدة، كان اسمه حاضراً فيها، فقد كان رئيساً لشركة كهرباء الظهران، وتم انتخابه رئيساً للجنة جمع التبرعات لمنكوبي غزة، وقد افتتح باب التبرعات بمبلغ 2500 ريال، بعد أن أقام حفلة في منزله دعا لها الوجهاء والتجار، حاثاً إياهم على التبرع للمنكوبين. كما كان في طليعة المتبرعين لضحايا بورسعيد، وغيرها.

مع شيخ عقل طائفة الدروز  في لبنان

في جبال الأرز
في عام 1960م، رأى الملك سعود بن عبدالعزيز أن يتم تعيين سعود الدغيثر سفيراً للسعودية في لبنان ووزيراً مفوضاً لدى قبرص، فكان أن غادر رمال الخليج الدافئة إلى جبال الأرز الباردة.
وصل الدغيثر بيروت ليعمل فيها سفيراً في عِقد ربما اعتبره محبو بيروت ووصفوه بأنه العقد الذهبي في قرنها العشرين، إذ كانت - كما قلتُ عنها في كتاب:«ناصر المنقور أشواك السياسة وغُربة السفارة - الرئة السياسية والعقائدية، التي يتنفس من خلالها العالم العربي، وكانت المصيف العربي الواسع، الذي يلجأ إليه أهل الصحارى لينعموا بالماء والسهول الخضراء، وبأرغفة الثقافة والصحافة، قبل أن تبتلع حروب الطائفية هذا المصيف وتقضي فيه على الأخضر، وعلى اليابس، الذي كان مورقاً في لبنان!
في عقد الستينات، شكلت بيروت مركزاً للمنفيين العرب، من بغداد إلى الرباط، وكانت استراحة يستظل بها أهل السياسة والصحافة، وفي مقاهيها الخلفية تتم المفاوضات وتحاك المؤامرات، وتدور عجلات مطابع صحفها لتنشر ما يقال وما لا يُقال!
حينما هبط سعود الدغيثر في مطار بيروت، خلفاً للشيخ عبدالعزيز الكحيمي، كانت المنطقة العربية تستعد لسنوات تالية من الغليان، فالعراق الذي انسحب من حلف بغداد، بدأ يهدد الكويت! وعبدالناصر، الوحدوي، يعمل على تصدير ثورته، مغازلاً اليمن، داعياً إياها إلى وحدته أو سيجري فيها ثورته، وهكذا..
وإلى جانب دوره الرئيس في تمتين العلاقات بين البلدين الشقيقين في السياسة والاقتصاد والثقافة، كان عليه أن يطالع ويتابع عن كثب ما يُكتب في الصحافة اللبنانية عن السعودية، سياستها الخارجية وشؤونها الداخلية، وأن يرد ويُعقّب ويُصحّح ما يراه مغلوطاً ومتحاملاً. يقول تقرير لبناني: (لقد استطاع السفير الموهوب أن يكبح جماح دعاية أنصار التفرقة ودعاتها، الذين يقومون بحملات عصبية ضد العهد الفيصلي).
في عام 1962م، استقبل الدغيثر في مكتبه، وفق ما ورد في كتاب (برهان الدين باش أعيان: حياته وعصره)، الوزير العراقي برهان الدين باش أعيان، الذي أُطلق سراحه من السجن في بغداد، طالباً من السفير الدغيثر أن يرفع شكره وشكر أسرته وتقديرهم للملك سعود، عندما بادر السفير السعودي في بغداد إبراهيم السويّل، بأمر وتوجيه من الملك سعود، بالاتصال به في اليوم العصيب الذي لفّ العراق، إثر انقلاب 14 يوليو (تموز) 1958م، وعرض عليه سيارة خاصة من السفارة السعودية لنقله وأسرته إلى دار السفير لإيوائهم، حتى يجدوا مخرجاً، لكن الشيخ برهان اضطر يومها للاعتذار للسفير السويّل، شاكراً لطف وكرم الملك سعود، وذلك بسبب تخوفه مما قد يلحق به وبأسرته من أذى على أيدي الانقلابيين من جراء محاولته مغادرة منزله في ذلك اليوم. وقد هنأ الدغيثر الشيخ برهان بالنجاح من حكم الإعدام والسجن في العراق وبسلامة وصوله إلى لبنان، وبلَّغه تحيات ودعوات الملك سعود وولي عهده. ولا شك أن الدغيثر قد لعب دوراً مهماً في انتقال برهان الدين إلى السعودية والإقامة فيها منذ عام ١٩٦٣م وحتى وفاته.
وصف تقرير لبناني السفير الدغيثر بأنه: (ذو حنكة سياسية وذكاء متقد إلى أبعد الحدود، يتناول معالجة الحوادث السياسية ومجابهة المحرّض منها في تؤدة وطول أناة، وتفهُّم سياسي عميق).
كان لبنان في الفترة التي مارس الدغيثر العمل فيها سفيراً، تعجُ بالسعوديين، ذهاباً وإياباً، من مسؤولين يحطون فيها في طريقهم إلى عواصم أخرى، وطلبة وطالبات في الجامعات، وزائرين سائحين. كان يعمل معه عبدالمحسن المنقور، الملحق الثقافي والتعليمي في لبنان وسوريا والعراق، وعبدالعزيز الصقير، المستشار في السفارة، وعبدالعزيز المبارك، وعبدالله الملحوق، الملحق الإعلامي، ورشيد نويلاتي، وأسعد الأسعد، وغيرهم.

مع وزير الإعلام لحضور فيلم هذه بلادنا ويبدو عبدالله الملحوق، الملحق الإعلامي

فيلم (هذه بلادنا)
نشرت الصحف في عام 1965م أن السفير السعودي في بيروت دعا عدداً كبيراً من رجال السياسة والإعلام ووجهاء المجتمع لحضور حفلة لعرض فيلم سينمائي عن المملكة بعنوان (هذه بلادنا) على مسرح فندق فينيسيا، وكان على رأس الحضور الشيخ جميل الحجيلان، وزير الإعلام آنذاك وصاحب فكرة الفيلم، الذي عرّف به وبفكرته في سيرته، التي سترى النور قريباً، إذ تعاقدت وزارة الإعلام مع شركة بريطانية لإنتاج فيلم وثائقي شامل عن المملكة، اقترح الحجيلان أن يكون اسمه (هذه بلادنا)، وقد أخرجه المخرج البريطاني توم هوربيني. وكان الفيلم -حسب كلام الحجيلان- فيلماً وثائقياً ملوناً اكتملت له كل مكونات العمل الوثائقي المتميز، وتُرجم إلى خمس لغات. وقد التمس الوزير الحجيلان من الملك فيصل التفضل بمشاهدته، باعتباره أول عمل من نوعه، تنجزه في عهده جهة رسمية تابعة للدولة , وقد لبّى الملك فيصل الدعوة وشاهد الفيلم في دار للسينما تابعة لأرامكو في جدة. وكان برفقته إخوانه الأمراء خالد وفهد وسلطان وأبناء عمه فيصل بن سعد وفهد بن سعد. يقول الحجيلان: (سمعت من تعليقات الملك فيصل على الفيلم خلال عرضه ما أسعدني).

مع أحد زعماء الطوائف المسيحية

صعوداً إلى الجبل
في نهاية عام 1969م، طلب السفير الدغيثر التقاعد. وكانت الصحف اللبنانية تحدثت قبل سنوات عن قُرب إقالته أو استقالته، عطفاً على ما كان يجري في الداخل السعودي، لكنّ الملك فيصل، ومنذ أن تولى مقاليد الحكم، عزّز من ثقته في السفير، مؤكداً له أنه محل الثقة والتقدير، قاطعاً الطريق على كل الإشاعات والتكهنات الصحافية.
وكان السفير الدغيثر هو آخر مسؤول سعودي رفيع يلتقي بالملك سعود بن عبدالعزيز بعد مغادرته الرياض في رحلة الوداع الأخير. ففي يناير 1965م هبطت في مطار بيروت طائرة خاصة تابعة لشركة لوفتهانزا الألمانية، في طريقها إلى فيينا، وقد اتخذت الطائرة مكاناً نائياً، مُنع الصحافيون والمصورون من الوصول إليها، غير أن السفير السعودي صعد إليها، ليسلم على مليكه السابق، فسقطت دمعة أو دمعات من عينيه وهو يقبّل يد المليك، وظلّل الحزن أجواء اللقاء القصير. كانت وقفة وفاء من سفير لملك تبناه ورعاه شاباً، ومنحه ثقته وسرّه كهلاً.
غادر السفير الدغيثر أجواء بيروت الدبلوماسية، لكنه لم يغادر لبنان، الذي أحبه وعشقه، فصعد إلى مزرعته في بلدة (علما)، المطلّة على طرابلس، واتخذ منها مكاناً يرتاح فيه. وعاش بقية حياته بين لبنان والرياض، عدا سنوات قضاها في باريس مع بناته الثلاث، اللواتي واصلن تعليمهن في الجامعات الفرنسية. وظلّ مستمتعاً مع أصدقائه السعوديين واللبنانيين، هنا وهناك، حتى وافاه أجله المحتوم عام 2005م. وكان قد تزوّج عدة زيجات من أسرة الرويتع وأسرة المبارك وأسرة الداود، وسيدة لبنانية، من بيت آل المقدم، من طرابلس، كانت آخر السيدات، وقد رُزق بعدد من الأبناء والبنات.
عرف عنه -في كل محطات حياته- حب الخير وبذل المعروف ومساعدة المحتاج، فرحمه الله.

ذو صلة