مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

خالد الحكيم

خالد الحكيم
المهندس في ديوان المؤسس

د.عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض

 

مولده ونشأته
أسرة خالد الحكيم من الأسر الأندلسية العربية، وعلى واقع سقوط غرناطة والأندلس بيد الإسبان، غادرت أسرته، وطاب لهم المقام في مدينة حمص من بلاد الشام، والأسرة في نسبها تعود لآل الحسين نسباً، وجده الأعلى يرجع إلى إشبيلية موطناً، وقد أرّخ تاريخ خروجهم منها بعد سقوط غرناطة، وذلك سنة (1492م)، ففي دار إقامتهم حمص مارسوا مهنة الطب، حتى حملوا كنية آل الحكيم، وعرف منهم عدد غير قليل من العلماء، وبالنسبة لأسرة خالد كانت أسرة فقيرة، وله عم من علماء حمص المشهودين، فكان له الدور المباشر في تعليم خالد ورعايته، حتى وصل إلى ما وصل إليه في تأهيله العلمي.
ففي مدينة حمص ولد خالد بن ياسين بن محمد بن السيد عبدالله المكي الإشبيلي (1295هـ - 1878م)، فعاش ونشأ وترعرع فيها، كما درس فيها مراحل الدراسة الأولية الابتدائي والثانوي، ليتأهل في الذهاب للدراسات العليا في إسطنبول، حيث كان ذا موهبة علمية في علوم الحساب والرياضيات والعلوم التطبيقية، التحق في كلية الهندسة الحربية في إسطنبول، ومنها تخرج مهندساً عسكرياً، وبعد تخرجه التحق بكلية الهندسة المدنية، وتخرج منها مهندساً مدنياً، فهو صاحب شهادتين في الهندسة، وبعد تحصيله العلمي وضع نفسه في خدمة الدولة، وأدركت الدولة نبوغه العلمي هذا، فتم تعيينه في العمل في سكة حديد الحجاز من بداية المشروع وحتى نهايته، أي عمل فيه ثماني سنوات، ويعرف عنه كل شيء.

متحف سكة حديد الحجاز

خط حديد الحجاز
بدأ العمل فيه في (مايو 1900م)، وقد هلل المسلمون لبنائه، فبعد أن كان الحجيج يقطعون المسافة بأشهر، أصبح الحاج يصل للأراضي المقدسة خلال 72 ساعة، وقد انتهى العمل فيه سنة (1908م)، وبلغ طوله (1464كم)، وبلغت تكاليفه (3.919.696 ليرة عثمانية ذهباً)، وقد تم تسجيله في عصبة الأمم على أنه وقف إسلامي، لكن لورانس عمد إلى تدمير الخط، لأن بلده بريطانيا كانت مناهضة لبنائه، وقد حرص الملك عبدالعزيز رحمه الله على إعادة بنائه وإصلاحه، لكن الإنجليز والفرنسيين كانوا يرفضون أي لقاء في هذا الأمر، وجاءت رغبة الملك هذه مع وجود المهندس الحكيم الذي عمل في الخط من البداية حتى النهاية، وعلى ضخامة الخط في طوله، فقد كان من الإنجازات  التي حققها السلطان عبدالحميد، ومن هذه المكانة للخط، جاء سعي الملك عبدالعزيز رحمه الله في إعادة إصلاحه بعد وحدة الحجاز بنجد، في الوقت الذي كان جيش فيصل بن الحسين يهدمه، برغبة بريطانية وفرنسية، إذ لم تكونا راضيتين عن بنائه.

خالد الحكيم وسياسة التتريك
عاش الحكيم عزل السلطان عبدالحميد وهو في إسطنبول، كما عاش الحركة الطورانية في تركيا وتبعاتها على العرب الذين يعيشون فيها، وكان الحكيم على صلة دائمة بإخوانه السوريين والعرب، وبدأ يشعر بغربته في تركيا، وقد تأثر بفكر الشباب العرب الذين يدعون إلى اللامركزية في الحكم، ومنح الولايات العربية نوعاً من أنواع الحكم المستقل عن الحكومة العثمانية في إسطنبول، وغادر إسطنبول إلى سوريا، ومنها قصد مصر ومن مصر قصد ليبيا للجهاد فيها ضد الإيطاليين، وأقام في ليبيا قرابة السنتين ثم عاد إلى سوريا، وذلك من سنة (1911-1913م)، ومع عودته إلى سوريا كانت شرارة الحرب العالمية الأولى قد اشتعلت، وقد انضم إلى الجيش العثماني، ليشارك في قتال القوات الإنجليزية الزاحفة إلى الشام. وبوصوله إلى هناك كانت القوات البريطانية قد حققت انتصاراً على القوات العثمانية وزحفت نحو الشام، حيث كانت الشام تعيش مأساة إعدامات جمال باشا، مع نخبة من الشباب السوريين الذين كانوا على صلة بالإنجليز والفرنسيين، فالتحق خالد الحكيم بالحركة العربية، وكان يعرف الكثير عن شخصية جمال باشا قائد الجيش الرابع في سوريا، فخاف من غدر جمال باشا فيه وفي إخوانه، فقصد البادية ومعه سبعون مجاهداً، هروباً من جمال باشا، والتحق هو ومن معه بالثورة العربية، وفي العقبة كان خالد الحكيم ضابطاً مسؤولاً في العقبة وأبي اللسن، ومضى في حرب التحرير مع قوات فيصل بن الحسين حتى دخلوا دمشق.

الإنجليزي لورانس

الحكيم والعهد الفيصلي في سوريا
تبوأ خالد الحكيم في حكومة الاستقلال مراكز عالية، وذلك لما يتمتع فيه من حزم وصواب رأي، وعلو قدر وسمو مكانة. وقد أدرك من خلال عمله مع حكومة فيصل بن الحسين، ضعف شخصيته، فقد وقف على الكثير من أخطائه وعدم مصداقيته، فيما وجده فيه من تلوث في المواقف السورية والفلسطينية، فكان بوجهين، فلم يجد الحكيم إلا مناهضة سياسته هذه، وشارك في المؤتمر السوري الذي تم فيه عزل فيصل من حكم سوريا، بعد اكتشاف سياسته تجاهها والتي سار عليها، وكان فيها على خلاف ما يظهره للسوريين والفلسطينيين، كما أنه اتفق مع الفرنسيين على حكم سوريا في ظل الانتداب الفرنسي عليها، فكان فيصل في وادٍ والشعب السوري الذي يحكمه في وادٍ آخر. والإنجليز والفرنسيون في سياستهم التنفيذية ماضون، يعملون في إطار اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، من خلال احتلال اللنبي لفلسطين في ظل عباءة الثورة العربية الكبرى.
وعلى واقع الاتفاق الضمني بين فيصل والفرنسيين، توجهت القوات الفرنسية لاحتلال دمشق، بقيادة الجنرال غورو، فكانت معركة ميسلون في 24 / 7 / 1920م، واستشهد في المعركة الشهيد وزير الدفاع القائد يوسف العظمة يرحمه الله. وفيصل بن الحسين أدار ظهره للسوريين بعد انتهاء مهمته وقصد بريطانيا، تاركاً سوريا تحت قبضة الاستعمار الفرنسي الذي ولغ في دماء السوريين، وبعد هذا الحال الذي آل إليه وضع سوريا، ذهب السوريون والفلسطينيون في سياسة عض الأصابع، على منحهم الثقة لفيصل بن الحسين، فكان الندم حيث لا ينفع الندم، فقد دخل الفرنسيون دمشق، وذهبوا في تقصّي المجاهدين الذي حاربوا في ميسلون، وكان منهم خالد الحكيم رحمه الله، وقد أصدر الفرنسيون بحقه حكماً بالإعدام غيابياً، وكان في شرق الأردن، فغادرها إلى فلسطين، ومن فلسطين قصد مصر ليقيم فيها.

خالد الحكيم في جوار الملك عبدالعزيز
عاش خالد الحكيم في مصر ما يربو على السنتين، بعد مغادرته سوريا وفلسطين، ومن مصر تواصل مع الملك عبدالعزيز، وكانت سلطنة نجد في حالة حرب مع الشريف حسين، إضافة لسياسة توحيد بقية المناطق بسلطنة نجد، كعسير وجازان والحجاز. ومن مصر قصد خالد الحكيم نجداً، بمعية الدكتور محمود حمدي حمودة، الذي كان عليه كذلك بلاغ عسكري فرنسي لمشاركته في ميسلون، إضافة لرفيق درب الحكيم الضابط العقيد حسن وفقي بك، وهو من أبرز العسكريين الذين أنجبتهم سوريا، وبوصولهم رحب الملك عبدالعزيز فيهم، وعلى الفور انخرطوا في العمل في ديوان الملك، فتسلم حمودة الرعاية الصحية، وذهب كل من الحكيم والعقيد حسن وفقي ليلتحقا بالقوات النجدية، فاشتركا في حرب جدة وفتحها، حيث طال حصارها قرابة أحد عشر شهراً، ثم استسلم ملكها علي بن الحسين، وكان خالد الحكيم واحداً من الذين تسلموا مدينة جدة بعد سقوطها أمام القوات النجدية، وبعد توحيد الحجاز بنجد قربه الملك عبدالعزيز منه مستشاراً عسكرياً له، وهنا يشير الزركلي في ترجمة الحكيم فيقول بعد ثنائه عليه: كان رحمه الله من أخلص المستشارين العسكريين للملك عبدالعزيز، وأقام في خدمته مدة طويلة حتى نزل فيه المرض.
وقد شارك الحكيم في القضاء على فتنة الدويش (السبلة)، وكذلك ثورة بن رفادة سنة (1932م)، وحرب اليمن سنة (1934م). أما في غير الحروب فقد نشرت صحيفة أم القرى في العدد (92) خبراً يفيد بتكليف الملك عبدالعزيز له، بالسفر إلى إيطاليا لقضية لم يكشف عنها، لكن الجريدة أشارت في بلاغها نفي المملكة أن يكون سفر الحكيم لإيطاليا لأغراض سياسية، وتحتفظ جريدة أم القرى بالعديد من الأخبار عنه رحمه الله في ذاكرتها.
وقد أشاد المرحوم فؤاد حمزة بالملك عبدالعزيز في مذكراته التي نشرت، في مبرّة الملك في إخوانه ومستشاريه بقوله بعد حديثه عن وفاء الملك لهؤلاء، وكان منهم د.محمود حمدي حمودة رحمه الله، والمهندس خالد الحكيم رحمه الله، فيقول حمزة: ومثال ذلك -أي ما فعله مع أسرة د.حمودة- فعل مع عائلة رفيقنا المرحوم خالد الحكيم، الذي توفي في هذه الأيام، وجاء نعيه في وقت كان الملك ، قد أمر بأن يبعث إليهم (300) جنيه، وحيث إن المالية لم ترسل المبلغ له بعد، فقد استفسر الملك عما له ويتعلق به، وألحق به الملك عبدالعزيز: إن كان المبلغ لم يُرسل بعد، فليرسل لعائلته، كما هو المقرر الشهري على حياة خالد، وأبقى ما كان لخالد لعائلته كراتب شهري. أيّ وفاء أكبر من هذا من الملك للحكيم، وذلك لما وجده فيه من الصدق والوفاء له ولدولته، وغير هذا فقد كان الملك دائم السؤال عن صحة الحكيم، وكذلك ولي العهد الأمير سعود، ونائب الملك على الحجاز  الأمير فيصل. وكان المرحوم خالد الحكيم قد عانى معاناة شديدة في مرضه، فحمل إلى دمشق وعاش في مرضه قرابة السنتين، حتى لقي وجه ربه سنة 1944م. ودفن في مقبرة الدحداح بدمشق.

ثقافته وعلومه
اتصف خالد الحكيم بصفات كريمة، من النبل وطيب الأخلاق وسلامة الصدر، فقد كان يتمتع بثقافة عالية في الكثير من العلوم الحديثة، بسبب سعة الاطلاع عنده وكثرة القراءة، فهو يتكلم بعدد من اللغات الأجنبية متقناً لها، فقد وصف بأنه من أوسع رجالات العرب في علوم التاريخ والسير، فكان من أقواهم حجة وذاكرة ومحاكاة، وأسلمهم حديثاً ومجالسة، فهو واسع الاطلاع على تاريخ العرب، محباً للفقراء والمساكين، يأنس بهم ويرى فيهم الخير كل الخير للأمة، له دراية في السياسة والعلاقات الدولية، وهو يتابع الأحداث العالمية ويستطلعها ويستقرئها، وهو صاحب علم في اللغة والأدب والشعر، وكان قد تتلمذ في نشأته على يد الشيخ أحمد النبهان، وكان على صلة بالشيخ طاهر الجزائري، وله محاضرات حاضر فيها في القدس سنة (1933م)، ونشرت في مجلة (روضة المعارف) في القدس في العدد الرابع السنة الرابعة، وتشير المحاضرات إلى مكانته العلمية في سمو ثقافته التي عرف بها، ونشرت له محاضرتان أيضاً لهما دلالة علمية يصح اتخاذهما مثالاً يحتذى فيه، لما هدفتا إليه من توجيه تربوي وعلمي.
وختاماً، فعلى هذه الصورة التي عرف بها المرحوم خالد الحكيم، والتي منحت إياه سمواً في المكانة والتقدير والاحترام؛ كان الموت قد اختطفه بقدر الله، بعد أن قضى في ديوان الملك عبدالعزيز رحمه الله قرابة عشرين سنة، قدم فيها أجلّ الخدمات للدولة السعودية الكريمة ولملكها رحمه الله، فاستحق التقدير والمحبة من الجميع وبخاصة ولي العهد الأمير سعود، ونائب الملك على الحجاز  الأمير فيصل، إضافة لما خصّه فيه الملك عبدالعزيز من جزيل العطاء والوفاء لأسرته من بعده، وإخوانه من العاملين في معيّة الملك رحمه الله.

ذو صلة