مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

عيد عبدالحليم: الشاعر هو فيلسوف الإبداع

حوار: عذاب الركابي: مصر


عيد عبدالحليم، الكاتب والشاعر والإعلامي المصري، رئيس تحرير مجلة (أدب ونقد المصرية). بين الشعر لحظة الحلم، وغناء وأنين الروح وهي تسهم في ترتيب سرر الحياة وتجميلها. إلى النثر- عطر الفكر للسباق وتجاوز العالم في تعليق جريء عن ما يعيشه الإنسان الحالم، وهو يقود زورقه العنيد متحدياً أمواج بحاره، ورعونة عواصفه.
عيد عبدالحليم والشعر المؤسس للحياة، واللقاح المضاد لفيروس كل إحباط وكآبة وضجر واغتراب. (أثر الفراشة)، ومملكة الجمال في الحياة. شاعرٌ يراوغ بالشعر الذات المتهدمة وهي تبحث عن ذاتها. ويتوسل في شذرات الفكر الإسهام في القضايا الكبرى، حيث الحرية بوصلة الإنسان إلى حياة الحياة. ووجود الوجود!
والشاعر أحد المريدين العظام الواقفين على باب الحرية، إذ لا أصابع مكهربة بالعدالة، وهي تطرق هذا الباب إلا أصابع الشاعر- الرائي، سارق النار بامتياز!
عيد عبدالحليم والشعر -الحلم. والفكر- نزهة العقل وكلاهما لديه، بمثابة منطاد النجاة من أشباح الواقع المعيش، وهما معاً أيضاً مصدر البرق المتلو بأمطار النبوءة في صباح جميل، والإنسان غارق بصنع الحياة الأجمل. ولنا في حديثه لـ(المجلة العربية)، شذرات شعر وفكر تحرض على المزيد من الحرية والتواصل والحياة.

يقول هولدرلين: (يبقى على الأرض ما يتركه الشعراء).. قل لي ماذا ترك الشعر- البوابة الدافئة التي تمر من خلالها مواكب الفنون مجتمعة- بل ماذا يترك الشعراء عشاق الأمس، غرباء اليوم؟
- ما يتركه الشعر هو أثر الفراشة كما يقول محمود درويش، ذلك الأثر الذي لا يُرى، لكنه يحفر في الروح أخاديد الخلود، وينقش على جسد الحياة أساطير الجمال، فالشعر مثل النسغ الأخضر الذي يسري في جسد الشجرة فيمنحها الازدهار والاخضرار، ويجعلها قادرة على الإثمار. بالشعر نرى الصفات الأجمل في الحياة ونتعامل بها، فلو أنَّ هذه الحياة بلا شعر تصور كيف تكون الإقامة عليها، الشعراء منذ بداية البشرية، أعمالهم هي التي جعلت هذه الحياة قابلة لأن يحيا فيها البشر، لأن البديل كان التناحر والحروب والموت بالتأكيد. فالحياة هي ما يؤسسه الشعراء، ونظرة سريعة على الحضارات الكبرى كيف تم تخليدها، إن ذلك قدام بما تركه شعراؤها مثلما نرى في الحضارة اليونانية والحضارة الفرعونية والحضارة الآشورية والحضارة العربية، وهكذا وإذا كان الشاعر بحكم تكوينه النفسي والعاطفي يحس بالتراب في الحياة، فإنَّ هذا الاغتراب يتحول إلى طاقة روحية يبثها في قصائده، فمن اغتراب الشاعر يولد أمل المتلقي، وهكذا.
منذ ديوانك الأول (سماوات واطئة) ووصولاً لديوانك الأخير (حبر أبيض) وأنت من أيتام الحرية الباحث عن العدالة في هذا العالم المتاهة، وقد بدت العدالة عرجاء، حسب تعبير ماركيز، ولكنها ستصل وفق أحلام الشعراء وقوافي القصائد. ما رأيك؟
- الشعر من وجهة نظري هو فلسفة للحياة، ورؤيتها بعين الحقيقة، ومنذ بداية كتابتي للشعر وأنا تتملكني مقولة لصلاح عبدالصبور، في كتابه (حياتي في الشعر)، وهي: (عندي شهوة لإصلاح العالم). فالشعر ليس تعبيراً مجانياً عن العواطف، إنما حفر في جسد الواقع، وملامسة لكل مفرداته السياسية والاجتماعية. وليس عيباً أن يعبر الشعر عن القضايا الكبرى، خلافاً لما يروجه البعض، من أن القصيدة الحداثية هي بنت التفاصيل الصغيرة فقط، ولا دخل لها بالقضايا الكبرى، أنا أرى هذه اللحظة اختلطت فيها القضايا الكبرى بالقضايا الصغرى والعكس، وفي هذه المتاهة لابد للشعر أن يكون له مقترحاته الجمالية، وإلا لو صمت الشعراء فإن صمتهم يعد جريمة إبداعية، وهنا أتذكر مقولة لصديقي الشاعر حلمي سالم، حين قلت له ونحن في أيام ثورة يناير 2011 : أنا أكتب الآن قصائد عن الميدان بها حس غنائي، رغم أنني أكتب قصائد ما بعد حداثية. فقال لي: إن كل مبدع عليه ضريبة أن يدفعها بإبداعه، فاكتب في أي صورة تجيء. وبالفعل أنجزت ديواني (كونشيرتو ميدان التحرير) الذي صدر في أبريل 2011 عن سلسلة كتاب أخبار اليوم. ومعظمه قصائد تفعيلية، وبه بعض القصائد النثرية. الشاعر الحقيقي لابد أن يكون صاحب موقف، وأن تكون له خلفية معرفية عميقة، بعيداً عن ثقافة المقاهي، فالشاعر هو فيلسوف الإبداع، جملته توزن بالذهب، بمعني أن سطراً شعرياً يمكن أن يتضمن ما يريد الروائي كتابته في رواية من 400 صفحة. أنا عبر دواويني التي وصلت حتى الآن إلى ثمانية، وكذلك عبر كتبي النقدية والفكرية، أعتبر نفسي أحد المريدين الواقفين على باب الحرية.
أصدرت كتابين جدليين مهمين في الفكر والثقافة، قل لي من يعيش على هذه التربة القلقة؟ الفكر دفقة الضوء والحلم؟ أم الإنسان الحالم تحت ميكروسكوب العولمة والنظام العالمي الجديد الذي وجدنا فيه إنساناً أكثر امتهاناً وفقراً وقهراً وضياعاً.. حدثني؟
- حاولت أن أرصد ما يتعرض له المبدعون والمفكرون من تضييق ومصادرة لحريتهم الإبداعية والفكرية عبر كتابين هما (فقه المصادرة) و(الحرية وأخواتها)، حاولت تلمس أوجاع الثقافة العربية التي تتجدد باستمرار، من خلال وضعية المثقف الذي يحمل مشاعل التنوير في مجتمع يهمش دور المعرفة، بل ويلغيها أحياناً، لصالح ثقافة تقليدية ذات طابع أبوي متخلف، يحاول الكثيرون نشرها من خلال سلطات متعددة منها السلطة الدينية. رغم أن الثقافة هي أحد حوائط الصد القوية في مواجهة القوى الظلامية التي تتربص بالأمة. وكان المثقفون بفكرهم التنويري أشرعة لاجتياز لجة التخلف إلى شواطئ العدل والحرية والقيم الإنسانية الرفيعة. لكن المثقف العربي يعيش هزائم متعددة، رغم أنه يحمل بداخله طاقات للتغيير، لكن أرضية الواقع لا تتيح له ذلك. هو محاصر دائماً بالرقابة، تلك الرقابة التي لا تلجأ، في كثير من الأحيان، إلى صيغ تأويلية، فالرقيب لا يدقق في العمل الذي يريد مصادرته، بل يتعامل مع النص بشكل انتقائي، لا يعتمد على رؤية منهجية بحثية كلية تعتمد على رؤية تأويلية تعمل على تفجير البنية المجازية التخيلية لذلك النص. كثير من الجوائز الأدبية والثقافية خصوصاً في مصر تلعب فيها الشللية والمحسوبية والعلاقات الشخصية دوراً كبيراً، ما يؤدي إلى إقصاء واستبعاد كثير من الأصوات الجادة وذات التأثير الثقافي والفكري، المسألة أشبه بالحرب الثقافية الباردة، والخاسر في النهاية هي الثقافة والمجتمع.
أنا وأنت وجل أصدقائنا المبدعين -شعراء وكتاب قصة ورواية- نمارس النقد، هل يعني ذلك غياب النقد الحقيقي والناقد الجاد؟ أم هو درء للاتهام اليومي الموجه للنقد والنقاد في عدم مواكبة هذا التفّجر الإبداعي؟ أم أننا جيل بلا نقاد؟ وليس لدينا حركة نقدية جادة كما يريد بعضنا؟ أم ماذا؟
- أتصور أن مشكلة النقد عندنا هي جزء من المشكلة الثقافية بشكل عام، بمعنى أن الذهنية العربية خلال الخمسين عاماً الماضية، وتحديداً بعد انتشار ما يسمى بثقافة الاستهلاك منذ سبعينات القرن الماضي، هذه الذهنية تخلت عن خصوصيتها التي كان الجزء النقدي أحد ملامحها الأساسية، صارت ذهنية هاضمة لكل ما يأتي من الخارج من دون أن تنتج أفكارها الخاصة، وبالتالي تحول النقد الأدبي والفني إلى مجرد عرض النظريات النقدية الغربية، وتتعزز مكانة الناقد إذا كانت عنده القدرة على عرض هذه النظريات، وللأسف هو أمر مضحك للغاية، رغم أن كثيراً من النقاد عندنا حققوا مكاسب كثيرة بهذه الألاعيب العقيمة. وقد حاولت أن أتابع الحركة الأدبية المصرية والعربية، كتبت دراسات متعددة، وألفت بعض الكتب النقدية المتنوعة مثل كتاب (الشعر النسائي في مصر)، وكتاب (رسائل نجيب محفوظ بين فلسفة الوجود ودراما الشخصية)، وكتاب (المسرح المستقل)، وغيرها، لإيماني أن ذائقة المبدع قادرة على الرؤية الجمالية في نصوص أخرى. كما أنني حاولت أن أكتب عما أحبُّ، فأنا لا أتصدى لنقد عمل ما إلا إذا أعجبني، وأحسست بقيمته، فأنا ضد النقد المجاني، أو كتابة دراسة نقدية من أجل مكافأة مالية ما.
ككاتب، وشاعر، وصحفي، ورئيس تحرير مجلة ثقافية واسعة الانتشار في مصر والعالم العربي، كيف تقيم صحافتنا الثقافية؟ البعض يراها مرآة مهشمةً، وصفحات مكتوبةً عبر المجاملة والتبعية، وتلميع أسماء وتغييب أخرى، وشللية فاضحة، ماذا تقول؟ ولماذا (أدب ونقد) رغم إمكاناتها البسيطة الأكثر حضوراً وانتشاراً؟
- الصحافة الثقافية مظلومة في العالم العربي بشكل عام، وفي مصر بشكل خاص، فعدد المجلات الثقافية المتخصصة قليل للغاية لا يتناسب مع حجم السكان، ولا مع البعد الحضاري والفكري الذي تتميز به المنطقة العربية. كما أن الصفحة الثقافية في أي جريدة هي المرشحة الأولى للحذف والإلغاء لوجود إعلانات أو غيرها. وهنا نجد أن كفة الميزان مقلوبة، فلو نظرنا إلى تاريخ الصحافة العربية سنجد أن نشأتها كانت ثقافية، وكانت قصائد (أحمد شوقي) و(بيرم التونسي) تنشر في الصفحة الأولي من الجريدة. أما الآن فنادراً ما تجد صفحة لنشر الإبداع في الجرائد المصرية. ناهيك عن أن عدد المطبوع من أي مجلة ثقافية في مصر على سبيل المثال، وهي الدولة الرائدة في هذا المجال في الوطن العربي، لا يتعدى الألف نسخة باستثناء مجلة (أدب ونقد) التي تطبع ما يقارب ثلاثة أضعاف هذا العدد. تصور هذا يحدث في مجتمع وصل عدد سكانه إلى أكثر من مئة مليون نسمة. بالفعل فإن الصحافة الثقافية كما تقول مرآة مهشمة، لكن هذا التهشيم مقصود، والفيلسوف القديم قال: (أنا أفكر إذن أنا موجود). أما عن (أدب ونقد) فيأتي سبب تواجدها بقوة على الساحة الثقافية العربية رغم إمكانياتها البسيطة من الناحية المادية، وكونها الأكثر حضوراً في الثقافة المصرية، من كونها أخلصت لفكرة الثقافة الجادة، وإيماناً بتقديم أفق التجديد في الإبداع والنقد والفكر، منذ تأسيسها عام 1984، وحتى الآن، أنا أكمل ما بدأه رؤساء تحريرها السابقون أساتذتي د.الطاهر مكي، وفريدة النقاش، وحلمي سالم، الذين تعلمت منهم الإخلاص في العمل، والقدرة على اكتشاف المواهب الجديدة في كل أنواع الكتابة والفكر، وكذلك طرح الرؤية الجديدة التي تخدم الثقافة المصرية والعربية. أعتبر (أدب ونقد) جزءاً مهماً من مشروعي الإبداعي، والفكري، وهي أحد رهاناتي المهمة في الحياة.
كتبت المسرح، أيضاً، وحصلت على جائزة توفيق الحكيم. كيف تقيم الحركة المسرحية في بلادنا؟ البعض يشكو من غياب النص المسرحي الجاد، وهيمنة التجاري، والثرثرة، والذي لا يعني غير فقر الفكر وفراغه؟ لمن تشير من كتاب المسرح الذين يؤسسون لأسلوب إنساني حضاري؟
- دعني أقول في البداية إن المسرح العربي من أهم التجارب المسرحية على المستوى العالمي خلال المئة عام الأخيرة. فهناك كتاب يوازون التجارب الكبرى العالمية مثل (محمود دياب) و(سعدالله ونوس) و(صلاح عبد الصبور). وغيرهم. هؤلاء ممن قدموا رؤية عربية في المسرح. وحالياً تلعب المهرجانات المسرحية العربية دوراً مهماً في تحريك المياه الراكدة وكذلك الدور المهم للهيئة العربية للمسرح التي أنشأها سمو (الشيخ سلطان القاسمي). أنا متفائل بمستقبل المسرح العربي بخلاف الكثيرين، وأعتقد أن الكتابة للمسرح لها غواية خاصة، خصوصاً المسرح الشعري، الذي بدأت في كتابته وحصلت مسرحيتي الأولى (الجرافة) على جائزة (توفيق الحكيم) من وزارة الثقافة المصرية، وكتبت من بعدها ثلاث مسرحيات أخرى، حاولت الاقتراب من الواقع.
(القصيدة لا شكل لها) «عبدالوهاب البياتي». (شكل القصيدة هو القصيدة كلها) «أدونيس». ما رأيك بهاتين المقولتين؟ لماذا قصيدة النثر مزعجة إلى هذا الحد؟ ما المزعج والمستفز في تفجير الكلمة؟ لماذا يخاف ذوو الأذهان التقليدية من التجريب، بورخيس يصرخ: (طوال عمري وأنا أجرّب).. حدثني؟
- أنا مع هاتين المقولتين تماماً، لأن الإبداع إبداع في أي صورة، وأرى أن كل المعارك التي تثار في حياتنا الأدبية هي معارك وهمية لا فائدة منها. فقصيدة النثر ليست الشكل النهائي للشعر، ربما يظهر بعد سنوات شكل جديد له مميزاته وخصائصه. وأرى أن القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة لم تستنفد أغراضها شرط أن يوجد شعراء حقيقيون يكتبونها، المشكلة أن معظم من يكتبون القصيدة العمودية يكتبونها بذهنية العصر الجاهلي. في حين أن هذه القصيدة شهدت تجديداً مهماً على يد (الجواهري) و(عبدالله البردوني)، لكنها الآن تشهد انتكاسة واضحة. وكذلك قصيدة التفعيلة شهدت تراجعاً في العشرين عاماً الأخيرة، ما أعطى لقصيدة النثر فرصة ذهبية للتألق، من خلال مجموعة من الشعراء الذين اعتمدوا على التجريب داخل النص الشعري. فأصبح لهذه القصيدة مكان الصدارة في الخطاب الشعري العربي.
عندما سئل ميشيل بوتور في نهاية حوار معه لمجلة (تي كيل) عن آخر مشاريعه قال: (عندي خبز يكفي لمئة عام). قل لي ما عندك للأيام القادمة؟
- أجهز لديوان شعري جديد، كما أجهز عدة كتب نقدية، منها كتاب عن قصيدة النثر، وكتاب آخر في نقد المسرح. كما أجهز لصدور مسرحية شعرية جديدة تحت عنوان (نهار ميت).

ذو صلة