مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

باسم فرات.. شاعر يجوب العالم بكاميرا فوتوغرافية

عبدالوهاب العريض: الدمام


باسم فرات، مواليد العراق 1967م، بدأ رحلة الترحال خارج العراق عام 92م واستقر به المقام عام 1993م، لكنه لم يلبث الإقامة بها طويلاً فبدأ هجرته لدول العالم فزار ما يقارب 35 دولة، قدم من خلالها ما يقارب 7 كتب في أدب الرحلات، إضافة للعدد الكبير من دواوينه الشعرية، التي صدرت بعدة لغات منها العربية والفرنسية والإسبانية، كما حصل على عدد من الجوائز في أدب الرحلات أهمها جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في عام 2019.
يرتكز مشروع باسم فرات الشعري على ثلاثة أسس (الموهبة، سعة الاطلاع المعرفي والتجربة)، لذا نجد أن تجربة فرات الشعرية مليئة باللغة والمستند المعرفي، كما أن رؤية الصورة الشعرية لديه قريبة أشبه باللقطة الفوتوغرافية، حيث إنه مصور محترف كذلك.
باسم فرات، شاعر متعدد المواهب، ومنحته الغربة فرصة للتأمل والكتابة وزيادة المعرفة وحولته إلى باحث في غير تخصص، وقد كان لنا معه هذا الحوار الذي بدأنا من خلال أدب الرحلات وتبحرنا معه في الشعر ولغة الخطاب الأدبي العربي خلال القرن الواحد والعشرين.
كيف بدأت فكرة كتابة أدب الرحلات؟ وما هي المجموعة التي قدمتها؟
- في البدء، كان هناك مَن يلحّ عليّ لتدوين تجربتي لا سيما في (هيروشيما) ومن ثم حين انتقلت إلى جنوب شرق آسيا في جمهورية لاوس الديمقراطية، ولكنني لم أفعل حتى بعد نضوج الفكرة وقناعتي، لسببين: الأول خوفي أن تأخذني الكتابة من الشعر، والثاني لأن نظام الحكم في جمهورية لاوس الديمقراطية هو نظام الحزب الواحد حيث يحكم الشيوعيون منذ سنة 1975 ميلادية، ولكن بعد الانتقال إلى أمريكا الجنوبية والإقامة في الإكوادور، بدأت أدوّن رحلاتي، وكان الصدى طيباً، ولأني أجهل التعامل جيداً مع الحاسوب وعوالمه، فكنت أذهب إلى مقاهي الشابكة (الإنترنيت) وأستخدم الطريقة السهلة وهي الكتابة مباشرة على صفحة حسابي في موقع التواجه (الفيسبوك)، وعلى الرغم من التفاعل والصدى الطيب ولكني كنت أضع في الحسبان أنه موقع اجتماعي فيه المحبة التي تقود إلى المجاملات تحتل المشهد.
لكنني كنت مستمتعاً وأنا أدوّن رحلاتي ومغامراتي في أعماق الأمازون وجبال الأنديز، حتى جاءني في أحد الأيام الشاعر نوري الجراح (على الخاص) وطلب مني أن أشترك في مسابقة (ابن بطوطة) لأدب الرحلات، فأخبرته أنني لم أجمع ما نشرت، فأعطاني مهلة أسبوعين، وفعلاً جمعت ما نشرته على مدى شهور طويلة وحررت المادة وأضفت، حتى أصبح كتاباً يزيد على ثلاثين ألف كلمة قليلاً، وأرسلته وبعد مضي شهرين تقريباً أخبرني الصديق الناقد والقاص (عدنان حسين أحمد) بأنه قرأ خبر فوزي بجائزة ابن بطوطة في وسائل الإعلام، وكنت حينها أتجول في (إسكوتلندة) في رحلة استكشافية إذا صح التعبير.
وهذا الفوز كان دافعاً لأن أنجز بقية رحلاتي في الإكوادور والبيرو وكولومبيا التي لم يتضمنها الكتاب الأول أي الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات وهو (مسافر مقيم.. عامان في أعماق الإكوادور) فكان كتابي الثاني بعنوان (الحلم البوليفاري.. رحلة كولومبيا الكبرى) وقدمته لمسابقة ناجي جواد الساعاتي لأدب الرحلات، في بغداد وفزت بالجائزة الأولى (دورة 2015م)، وهذا الفوز كان دافعاً آخر في المضي في مشروع تدوين يوميات رحلاتي، فأصدرت كتابي الثالث وهو عن تجربة تقديمي لِلّجوء في عَمّان للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ووصولي إلى زي الجديدة (نيوزيلندة) ورحلاتي في أغلب مدنها وبلداتها وأريافها، بينما كان كتابي الرابع عن تجربتي في جنوب شرق آسيا وعنونته بـ(طواف بوذا) ثم كان كتابي الخامس عن رواندا وأوغندا بعنوان (لؤلؤة واحدة وألف تل)، وهذه الكتب الخمسة مجتمعة فزت بها بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في عام 2019 ميلادية. لأن من شروط الجائزة أن يكون عدد الكتب لا يقل عن خمسة كتب، مع تقديم رؤية لأدب الرحلات لا يزيد عن 1300 كلمة. والسبب معروف وهو أن مَن نشر خمسة كتب في مجال ما ولديه رؤية يسطرها على الورق، فهو صاحب مشروع وليس طارئاً على المجال الذي سيشترك فيه في المسابقة.
خصوصية أدب الرحلات
هل لك أن تطلعنا على تفاصيل بعض الرحلات المثيرة في تلك المرحلة؟
- لكل بلد خصوصيته، فاليابان هو أحد النماذج التي تريك أن المركزية الثقافية ضرورية من أجل خلق هوية ثقافية وسردية تاريخية واحدة يؤمن بها الشعب ليتماسك وتكون له دافعاً للإنجاز والنجاح والتطور، وهذه النقطة لم ينتبه لها مَن كتبوا عن اليابان، فاليابان فيه لهجات تَكاد تجد صعوبة بالغة جدّاً بفهمها فهي تقترب من اللغات المنفصلة وفي التلفاز الياباني يضعون ترجمة حين اللقاء بأشخاص من بعض المناطق، لكن عموم اليابانيين يتعلمون اللغة اليابانية المعيارية في جميع مراحل الدراسة.
في جنوب شرق آسيا، التنوع المذهل باللغات والعقائد، وهذه المجموعات اللغوية غالبيتها تتوزع على خمسة وستة أوطان، ولا أحد يذكر مصطلح (حق تقرير المصير)، والأمر نفسه نراه في أمريكا الجنوبية حيث التنوع اللغوي المذهل ولكن اللغة الإسبانية محت عشرات اللغات، وفي الوقت نفسه هي اللغة المعيارية في أغلب البلدان، أما أفريقية فلها خصوصية تستحق التوغل في تنوعها التضاريسي والثقافي، وتتميز أن أغلب سكانها يميلون للسلام وحب الرقص والموسيقى وهم يلتقون مع سكان أمريكا الجنوبية، لكن في أمريكا الجنوبية الأمان ليس متوفراً مثلما عليه الحال في أفريقية.
شغفي بالأطراف والهوامش، منحني فرصة أن أرى مناطق بعضها نادراً ما يتوغل فيها السائحون، لا سيما العرب والشرقيون، من صعود جبال وعرة والتوغل في أعماق الغابات، وزيارة مناطق هامشية، حتى تعرضت للتسمم عدة مرات وكذلك للسطو، فضلاً عن تعرض جسدي لتغيرات نتيجة الانتقال بين مناطق مختلفة الارتفاع والطقس، ويمكن الرجوع إلى تفاصيل فصل (متاهة الأمازون) و(رحلة الشعور بالموت.. المبيت في غواغوا بيتشينتشا). فضلاً عن أحداث كثيرة تحفل بها كتبي السبعة في أدب الرحلات.
أهمية الجوائز للكاتب
حصلتم على ثلاث جوائز عن كتب أدب الرحلات؟ ماذا تعني الجوائز للكاتب؟
- أهم ما يميز الجوائز أنها تقلل من الخسارات المالية التي يتعرض لها الشاعر والكاتب، وأنها تلقي الضوء على تجربته، ليلتفت إليه النقاد والقراء، لا سيما حين تكون الجوائز لها سمعة كبيرة أو أن القائمين عليها يملكون مهارات إعلامية لتسليط الضوء على الفائزين بها، وللجوائز منفعة ثالثة وهي اجتماعية، فأنت لا تستطيع أن تقف بوجه شاعر أو كاتب أو فنان لتقول له كلاماً إلغائيّاً أو أن تستخف به كثيراً أعني حدّ المبالغة، فالجوائز تجعل الآخرين إن لم ينظروا بعين الإعجاب والتقدير لحاملها فهم على الأقل يخففوا من وطأة الطعن والإلغاء والإقصاء عند المنافسين الغيورين والحاسدين، وهي من أمراض الوسط الثقافي التي لا يمكن نكرانها، لكني من أشدّ المؤمنين أن أهم قيمة للجائزة حين تُسلّط الضوء النقدي على نتاج الفائز، فيتناول تجربته الإبداعية عدد من النقاد المهمين وعشرات الكُتاب والباحثين، بل إني أرى أن الفائز بعدة جوائز عليه أن لا يشطّ بتباهيه وتبختره -وهي من عيوب غالبية الحاصدين للجوائز مع الأسف- فستقابل هذه الجوائز عشرات المقالات والدراسات، وتزداد أهمية الجائزة كلما ازدادت المقالات والدراسات عن منجز حاملها، هل أقول والعكس صحيح؟
باسم المصور
نادراً ما نجد شاعراً ومصوراً فوتوغرافياً، كيف بدأت معك فكرة التصوير الفوتوغرافي، وهل استفدت منها في تجربة الكتابة؟
- أتيت للشعر مبكراً جدّاً، لكن التصوير دخلته للعمل في محل تصوير لزوج خالتي، وأنا في عمر السادسة عشرة، وأحببته حين أنقذني من عنف وقسوة العسكرية العراقية وويلات الحروب، وكان عملي الذي أعيل به نفسي في المنافي، إن كان في الأردن أو في زي الجديدة (نيوزيلندة)، ثم وجدت هذا العمل يتحول إلى هواية تنمو معي، وأما ما يخص الاستفادة فهذا ما ذكره النقاد مثل الشاعرة والناقدة النيوزيلندية روبن فراي والناقد العراقي عدنان حسين أحمد.
أخلصت للشعر
أين يجد باسم نفسه (باسم المصور المحترف/ كاتب أدب الرحلات/ الشاعر)؟
- الشاعر يسبق الجميع، قرباً روحيّاً، وزمنيّاً، يكفي أن أقول إنني ذهبت إلى ابن عمتي وكنت في العاشرة من عمري تقريباً، في الرابع الابتدائي، وقلت له بكل ثقة وكأنني أعلم علم اليقين ماذا أريد، قلت له: (أريد أن أصبح شاعراً)، وأخلصت للشعر، بل جعلت التصوير وقراءتي وشغفي بالتاريخ والثقافات الأخرى واكتشاف الأمكنة، والإنصات للتنوع الثقافي والبيئي أُسساً لتمتين تجربتي الشعرية وخروجها عن المألوف، أي تكريس الخصوصية والتفرد في مشروعي الشعريّ، وهو ما جعل أكثر من مِئَتَي ناقد وشاعر وأديب وباحث تناولوا أو أثنوا على تجربتي الشعرية المتواضعة، وفي الوقت نفسه نفور الغالبية من القانعين بالشفاهية وأعني بها ما ألفته مسامعهم لكثرة ترداده، عن تذوّق نصوصي.
عوالم البوذية والماوريين -سكان زي الجديدة الأقدم- والحياة اليابانية بعمقها وعوالم جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، الأمازون وسلسلة جبال الأنديز، برؤيتي لا برؤية سواي، مما رسمته لنا كلمات المستشرقين والكُتّاب والروائيين، وهذه العوالم والمعالجات الفنية الشعرية لها، أدّت لفريقين من التلقّي، فريق أثنى عليها كثيراً وتعامل معها بوصفها متفردة، وهؤلاء من حُسن حظّي من أهمّ نقّاد وشعراء العراق والثقافة العربية يتقدمهم الناقد حاتم الصكَر وفاضل ثامر وغيرهما، وفريق وجد فيها مجرد قصائد سياحية، وأنني ابتعدت عن هموم وطني ومآسيه، وتماهيت مع ثقافات لا تمت بصلة لي، وكلا الفريقين أقدّر رأيهما، وسأمضي شاعراً أبحث عن جوهر الشعر وجمره الذي لا يشبه سواي.
الغربة والمكاسب الأدبية
منذ عام 93 وأنت في حالة اغتراب وابتعاد عن الوطن؟ ماذا أضافت لك وماذا أخذت منك تلك الغربة؟
- أضافت لي الاطلاع على ثقافات عديدة، واحتكاك عميق بعشرات المجتمعات والمجموعات اللغوية والدينية، بل إن هذا التوغل في مناطق ثقافية وجغرافية مختلفة، منحني معرفة أكبر بحقيقة التنوع اللغوي والديني في العراق والمنطقة، واستطعت القبض على جمالية هذا التنوع، وفرز القبيح عنه مثل تضخم السرديات واجتراح تاريخ عريق متوهم وطريقة كتابة التاريخ ليس كما هو بل كما يتوهمون ويتمنون، وباختصار أن لا وجود لمجموعة لغوية لها تاريخ عمره يمتد لثلاثة آلاف سنة سبقت الحرب العالمية الأولى، وأن في بلدان الكتابة والتدوين الضخم مثل العراق (مكتبة من مكتبات وادي دجلة في العراق سرقها المغول وتحوي 400 ألف كتاب بالعربية) وبلاد الشام، مَن لا يملك وجوداً ثقافيّاً تدوينيّاً له فهو لا يملك وجوداً سكانيّاً واضحاً في مدنه قبل القرن العشرين.
والتمييز أيضاً بين مصطلحات مثل الكتابة والتدوين، والقومية والإثنية، الأولى لها وجود كثيف وفاعل في عشرات المدن يمتد لقرون ويتضح هذا الوجود من خلال التراث التدويني الضخم، بينما الإثنية تفتقد للتدوين بلغتها قبل قرون، بل تفتقد لأدباء وباحثين ومؤرخين ولغويين وجغرافيين وعلماء كتبوا بلغتها قبل القرن التاسع عشر، ولا يمكن أن ترتقي الإثنية إلى مرحلة القومية بلا تاريخ من التدوين تتغلغل في ثناء الذاكرة الجمعية المكانية، مثلما نتحدث بلغتنا عن آلاف الشعراء والأدباء والكُتّاب الذين ولدوا أو ترعرعوا وماتوا قبل قرون في مدننا العربية مثل بغداد والموصل والبصرة وحلب ودمشق والقاهرة وغيرها.
أما ماذا أخذت مني الغربة، فحتماً حين ترتقي بوعيك وتنكشف لك حقائق كثير من الناس الذين كنت تحسبهم في قمة الوطنية والنزاهة وإذا بهم خونة، وأن ليس كل من ثار على الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق كانت بدافع الوطنية والرقي بالبلد، إنما لدوافع خيانية خبيثة مدمرة تدمير البلاد والعباد، هنا تصبح تعيش وضعاً نفسيّاً صعباً، فضلاً عن تلاشي كثير من الجزئيّات من خزين الذاكرة، بل الحرمان من دفء الوطن والأهل وخصوصية ثقافتك، ومن المكان الأول والأصدقاء، هناك شرخ كبير ما بين بداية شبابي ونضوجي، حوالي عشرين سنة ابتعدت عن العراق وحين عدت أول مرة هالني التغيير، أصبحت أسير في مدينتي بدليل بسبب هذا التغيير الذي كان قاسياً معي.
النخــــــب الثقافيـــــة وتحليـــــل السردياتلوحظ في الآونة الأخيرة قيامك بالكثير من الدراسات الثقافية المتخصصة، وتركزت تلك الدراسات في المجتمع العراقي والخطاب السردي، حدثنا عن تلك الاهتمامات وماذا يعني لك الخطاب والخطاب المضاد؟
- شغلت مأساة العراق، تفكيري ورحت أبحث عن الطرق التي من الممكن تكشف لي أسباب هذه المأساة وخراب بلدي، فكان أن لاحظت تغييب التنوع في المناهج الدراسية، ونفور النخب العراقية والجامعات من قراءة ودراسة هذا التنوّع، وأن سردية أخرى منافسة للسردية المركزية أي سردية الحكومة، تشيع بين الأوساط الثقافية، فشعرت بتأنيب الضمير أمام شركاء الوطن، لأني قصّرت كثيراً في التعرف عليهم ولم يكن بيني وبين سنّ الثلاثين سوى مدة وجيزة، وحينها كنتُ في عَمّان، مشغولاً بوضعي المرتبك، الوضع الذي يمنحني فرصة كتابة الشعر ولكنه لا يمنحني فرصة القراءات العميقة والموسوعية، وما إن انتقلت إلى هذه البلاد (زي الجديدة) حتى عكفتُ على قراءة التنوع اللغوي والعقائدي في وطني، وقادني لمعرفة مجموعات سكانية مجاورة، ومتابعة سردياتها والوقوف عندها وتفكيكها.
كانت النتيجة كارثية بكل ما في الكلمة من معنى، فقد وصلت لنتيجة مفادها، أن ردة الفعل على تسلط خطاب (الأنظمة الثورية العربية المؤمنة بالوحدة العربية الفورية والمناهضة للاستعمار والحكومات الرجعية) كانت قوية وتتفق مع شراسة هذه الأنظمة (الثورية) التي خربت بلداننا وهجرتنا واستنزفت مواردنا في متعها وحروبها وفي الحفاظ على أمنها وتشبثها بالسلطة، بينما وجدنا أنفسنا لاجئين ومهاجرين أو حالمين بفرصة عمل في بلدان (الحكومات الرجعية) التي راح يضرب بها المثل في التطور والرفاهية.
كل خطاب، لا بدّ من وجود خطاب يعاكسه، وحين يتم إهمال خطابات أو سرديات شركاء الوطن وهي تتناقض مع خطاب الحكومة، وعزوف النخب ومراكز البحوث والدراسات عن تناول هذه السرديات وتحليلها وتفكيكها، للوقوف على مقدار حقيقتها وتشذيبها من الأوهام والأكاذيب، إذ إن السرديات قاطبة لا تخلو من الأوهام والتضخيم ورمي أسباب إخفاقاتها وسلبياتها على الآخرين، وقد أدّى هذا العزوف عند الحكومة والنخب معاً، إلى تضخم أوهام وأكاذيب هذه السرديات، ولأن غالبية مثقفينا يملكون وعياً كبيراً بثقافات العالم بينما العكس تماماً فيما يخص المجتمع العراقي وتنوعه، فكثير منهم أَيَّدَ ويؤيّد هذه السرديات بلا مساءلة لتضخم أوهامها وحطّها لشأن العرب، وإساءاتها البالغة لهم، وتركيزهم على أن العرب سكان الصحارى القاحلة فقط ونفي أي وجود عربي خارج الصحارى القاحلة قبل الفتوحات الإسلامية، وتصوير الفتوحات بوصفها غزواً دمويّاً، وإسقاط مفاهيم الحاضر على الماضي. حتى ذهب بعضهم زاعماً (أن القبائل العربية لا وجود لها في العراق قبل عام 1600 ميلادية). لا شكّ أن ملايين من عرب العراق اليوم نزحوا إليه بعد الاحتلال العثماني (1534 ميلادية)، وفي الوقت نفسه يتم السكوت عن حقيقة أن ملايين من العراقيين من غير الناطقين بالعربية نزحوا إلى العراق بعد التاريخ أعلاه، وهؤلاء يشكلون غالبية غير الناطقين بالعربية.
أستطيع القول إن الثقافات الشفاهية لا يمكنها محو الثقافات التدوينية، بل وأن الثقافة التدوينية نفسها لا يمكنها أن تمحو الثقافات التدوينية الأخرى مهما أوتيت من سلطة المال والسياسة والسلاح والدين، وأن الأراضي ذات التراث التدويني العريق مثل العراق وبلاد الشام ومصر، لا يمكن عدّ مجموعة أو مجموعات لغوية شفاهية حتى ماض ليس بالبعيد أي حتى مطلع القرن العشرين الميلادي، أو مطلع القرن الرابع عشر الهجري، مجموعات أصيلة فيها أو لها وجود كثيف، وهذا لا يلغي الوجود الفردي أو الهامشي ولا حقوق المواطنة التامة، ولكن الوجود الفردي والهامشي، لا يمنح حقّاً بتسقيط الغالبية المطلقة، وتفتيت البلاد حتى لو هذه المجموعات وبسبب أحداث الربع الأول من القرن العشرين، نزحت من مناطقها البعيدة عن مدننا وبلداتنا وأصبحت تُشكّل غالبية مطلقة في أماكن نزوحها الجديدة التي هي عمق بلادنا. فلا تُبنى الأوطان أو تؤخذ الحقوق بدعاوى المظلومية وسرديات متوهمة عن تاريخ مزعوم يمتد لآلاف السنين ونسب وقصر أمجاد الماضي السحيق عليها وهي لشعوب خرجت من مسرح التاريخ عبر التزاوج والتصاهر والاختلاط والاندماج بلغات حققت حضوراً تدوينيّاً باهراً، وهذه سُنّة اللغات في تنافسها على السيادة الثقافية. إنما تؤخذ الحقوق بالمحبة والاعتراف بالتنوّع.
الضحية أكثر بغياً وعدواناً من جلاده حين يُزوّر التاريخ وينسب مدناً وبلداتٍ وقرى، جميع ما دُوّن فيها تاريخيّاً وحتى الحرب العالمية الأولى ليس بلغته، هذا هو الاحتلال والإرهاب، فالمحتل ليس الذي دخل أراضي غيره بالسلاح فقط بل كل مهاجر ولاجئ ينسب مدناً وقرى له وهو يفتقد إلى الذاكرة الجمعية التدوينية أي إلى شعراء وأدباء وكُتّاب ومؤرخين وباحثين وُلدوا أو ترعرعوا أو ماتوا في تلك المدن والبلدات وتركوا ميراثاً تدوينيّاً - كتباً وموسوعات - بلغتهِ، على الأقل قبل القرن العشرين، بثلاثة قرون. إن بلداً مثل العراق حين تنسبه مجموعة لغوية لها، ومنجزها حتى عام 1340 هجرية لا يُضاهي ما دُوّن فيه باللغة العربية قبل الاحتلال المغولي، أو تنسب واحداً بالألف منه، ومنجزها بلغتها لا يصل حتى إلى واحد بالألف من المنجز التدويني العربي في التاريخ أعلاه، أي ما خُطّ قبل عام 1340 هجرية بلغتها أقل من واحد بالألف مما خُطّ باللغة العربية حتى عام 656 هجرية، فإن سردية هذه المجموعة اللغوية خطابها يفتقد لأبسط معايير العلمية والحق والجمال.
لكل خطاب، خطاب مضمر يوازيه
من وجهة نظرك كيف ترى لغة الخطاب العربي في القرن الواحد والعشرين؟
- معظمنا نردد مقولات جاهزة، بلا تفكير وتأمل، مثلاً: كيف نردد أن العرب بداة وسكان الصحارى ولا علاقة تربطهم بالمدن والقرى، ولم يخطر ببالنا أن هذا القول يتطلب وجود الخطاب المضمر، أي وجود عشرات المجموعات اللغوية اليوم، لديها تاريخ عريق جداً ببناء المدن والكتابة والتدوين والعمارة وبقية مفردات المَدَنية التي يقف التدوين في مقدمتها، وحين بحثت اكتشفت ما يلي: أن اللغة العربية هي الوحيدة التي يتواصل الناطقون بها على امتداد خمسين جيلاً، أي على امتداد يزيد على 1500 سنة، ولا يحتاج المتعلم من الناطقين بها إلى ترجمات القصائد والخطب والنصوص التي سبقت الإسلام أو عاصرته، مثلما يحدث مع معظم لغات العالم، ففي الإنجليزية لا يمكن فهم النصوص المدوّنة بهذه اللغة قبل سبعة قرون، إلا بترجمتها للإنجليزية الحديثة، والتقسيم التاريخي للغة الإنجليزية ينقسم إلى إنجليزية قديمة ووسيطة وحديثة، وهذا ينطبق على معظم لغات العالم، بينما هذا لا ينطبق على اللغة العربية.
واللغة العربية أوسع اللغات وأدقّها، وأعلامها أكثر عدداً وأقدم، مثلاً لدينا نحو 120 شاعرة توفينَ قبل الحرب العالمية الأولى بأكثر من 1200 سنة، وأضعاف هذا من الشعراء، حتى إن مَن يتأمل عدد الشعراء في ديوان الحماسة لأبي تمام الطائي (توفى نحو 845 ميلادية) ليعجب من هذا العدد من الشعراء الذي لم تتمكن لغة واحدة في العالم أن تملك نصفه في ذلك الحين، بل إن معظم لغات العالم، إلا ما ندر لا يمكنها الحديث عن نصف عُشر هذا العدد، مثل اللغة الفارسية والتركية وكلتاهما تفتقدان لعُشر معشار هذا العدد من الشعراء الذين وُلدوا قبل وفاة أبي تمام، وبعض اللغات ومنها لغات بعض المجموعات اللغوية في العراق يفتقدون لنصف عُشر عدد الشعراء في ديوان الحماسة حتى بعد مرور ألف سنة على وفاة أبي تمام.
باستثناء السريانية واليونانية واللاتينية والصينية واليابانية، فإن جميع لغات العالم تفتقد للتدوين قبل القرن التاسع الميلادي، أي لا يمكنها الحديث عن عشرات الشعراء وعشرات الأدباء والكُتّاب، موثق تاريخ ومحل ولادتهم ووفاتهم ومنجزهم وماتوا قبل وفاة الشاعر أبي تمام، واللغة العربية تتميز عن هذه اللغات أنها صاحبة أكبر ميراث تدويني على الإطلاق، ومازالت حية ومفهومة تماماً بينما بقية اللغات تحتاج إلى دراسة خاصة مثل دراسة اللغات المندرسة كالأكدية والسومرية، لفهم ما أُنجز فيها قبل أكثر من ألف عام إن وجد هذا التدوين. مثلما اليوناني لا يفقه لغة الأسلاف، كذلك الياباني، ولغات أخرى، وهذا القول لا ينفي أن اللغات قاطبة لها جماليتها ومنجزها وإسهاماتها في المنجز الثقافي والعلمي البشري، واحترامها وصيانتها هو جزء من واجبنا وإيماننا جميعاً بالتعايش والتنوع وأهميته العظمى.

ذو صلة