مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

جبير المليحان: القصة الصغيرة طعنة خنجر في القلب

حوار: هدى عبدالله: الرياض


جبير المليحان قاص وكاتب سعودي، ولد في مدينة حائل عام 1950م، ويعد من رواد كتابة القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، ترأس نادي المنطقة الشرقية الأدبي، وأسس (شبكة القصة العربية) عام 2000م، وصدرت له العديد من المجموعات القصصية من بينها: (الوجه الذي من ماء)، ورواية (أبناء الأدهم). وهو حاصل على جائزة أبها لعام 1431 - 1432هـ (2011م) في مجال القصة القصيرة عن مجموعته القصصية (قصص صغيرة). كرمه نادي الأحساء الأدبي تزامناً مع الاحتفاء باليوم العالمي للقصة عام 2015م، وأقيمت أمسية حول تجربته الإبداعية بعنوان (القصة في المملكة ريادة وإبداع). كرمه نادي الرياض الأدبي في الدورة السادسة لملتقى النقد الأدبي عام 2016م. حاصل على جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب فرع الرواية عن روايته (أبناء الأدهم) عام 2017م. وقد تم تكريم المليحان مؤخراً في بيت السرد للقصة بالدمام.
حاورنا القاص جبير المليحان لنلقي الضوء على حياته القصصية والروائية أيضاً.
كتبت القصة القصيرة جداً باحترافية وتمكن باعتبارها شكلاً تفرضه ‏الحالة الإبداعية الراهنة. فكيف ترى القصة القصيرة ‏جداً الآن في جيل ‏يكتبها معتمداً على مؤشر عدد الكلمات فقط؟
هي عندي القصة (الصغيرة). وهي موزونة ـ تعتمد على (الكلمة) وليس على الجملة التي تعتمد عليها القصة القصيرة بشكل عام ـ بمعنى: استخدام اقتصاد اللغة التي تحقق الهدف تماماً.
القصة (الصغيرة) معادلة رياضية من الكلمات؛ إذا حذفت أحد أطرافها فسدت. للكلمة فيها إشعاع، يتسع حسب قدرة الكاتب على التكثيف، ويُدرك حسب وعي وثقافة القارئ؛ وهنا تتجلى قدرة المبدع على اختيار كلمات نصّهِ الصغير بعناية فائقة، معطياً مساحة للدهشة والأسئلة للقارئ. القصة الصغيرة كطعنة خنجر في القلب؛ ثقب صغير ربما يكون قاتلاً!
أصدرت روايتك الأولى أبناء الأدهم التي فازت بجائزة ‏وزارة الثقافة والإعلام.. ‏لماذا ‏أبناء الأدهم؟ ‏حدثنا عن هذه ‏التجربة الأولى بالنسبة لك بعد مغامرات طويلة في كتابة القصة، وفيم يبدو الاختلاف في التجريب السردي بين ‏القصة ‏والرواية إبداعيا؟
كنت أتهيب السفر في السرد الطويل في الكتابة. غير أن الحكايات التي أحملها بذاكرتي بدأت تعيش معي حتى أمضتني. قلت لأجرب كتابة نص طويل. التَفَتُ إلى التاريخ ووجدته مجرد حكايات بنيت على المبالغة والوهم والزيف والكذب، وكتبه أناسٌ تميزوا بأطماع شخصية، أو بأطماع من كان يرأس المكان والزمان وقتها. قلت ربما يكون أغلب ما وصلنا من أساطير لم يتم كما قيل لنا، أو كتب. إنه مجرد بذرة صغيرة للحكاية التي سقاها الناس -على مرّ الأزمنة- بالحكي والقول والخيال حتى تحولت إلى شجرة، ثم غابة من الأساطير الرائعة، ولكنها غير حقيقة ما حدث. قلت: لأحكي -إذاً- قصة حب هذين العاشقين ـ أجا وسلمى ـ اللذين حالت القبيلة دون أن يتعانق قلباهما، ويورقان بثمار الحب. بل طاردتهما وقتلتهما وصلبتهما على جبلين بريئين. وألبستهما اسميهما. الجبلان (أجا وسلمى مسالمان ومحبان أيضاً) ولا شأن لهما بإشكالات القبيلة وزيف وعيها. قلت سأحرر الجبلين من عار القتل هذا، وأحرر معه حكاية الحب والعشق التي حدثت، ولكنها زُيّفت، وطمست ملامحها الرائعة، وألبست ثوب العار؛ عار القبيلة كلها. وكلما وجد أو يوجد من قصص حب تالية. إذن هي وصمة الحب التي اغتالتها الحكاية -الكذبة- وعممتها حتى غطت رؤوس الجبال، بحيث يراها الماشون في سكك التاريخ واضحة معتقدين ألا لبس فيها أو زيف!!
وهكذا صنعتُ الشخوصَ منطلقاً من الأمكنة -أمكنة الحكاية الحقيقية، وجغرافيتها- التي ركضت فيها كل أيام طفولتي.
أبناء الأدهم وقصر العشروات هذان الاسمان الأسطوريان اللذان بنيت عليهما تفاصيل روايتك وفضلت أن تكون اللغة المحكية بنفس اللغة السلسة المحكية في تلك ‏الأزمنة القديمة ما الذي جعل منهما مادة روائية وما أهمية استحضار هذه اللغة المحاكية للمكان والزمان؟ ‏
قصر العشروات هي القرية التي أطلقت في مزارعها أول صرخة لي في هذه الدنيا. هي قريتي وبئر أحلامي وطفولتي. وهي قرية قديمة تحتوي أرضها على كل الحكايات؛ حتى أن خورخي بورخيس كان أحد سكانها، لكنه فرّ مع قمم أجا بعد أن طارده طغاة وغلاة التشدد؛ بعد تعميم كذبة صلب أجا وسلمى. ألم يكن للجبلين اسمٌ قبل ذلك؟! لنسأله فنعرف!!
كان بورخيس أميناً للمكتبة الصغيرة في غرفة الطين الضيقة في مدرستي الابتدائية في قريتي قصر العشروات، لكنه فرَّ عندما حوصر؛ تسلل في الليل إلى شعاب الجبال، ومشى، وحصلت له الكثير من المتاعب، وفقد بصره، ومشى ببصيرته الحادة حتى وصل الأرجنتين. بورخيس هذا كان يعلق مطّارة ماء على جانبه، وكيساً من الخيش به بعض التمر، و (البقل ـ أي: الإقط) وبقاعِ الكيس بعض الكتب التي أخذها من مكتبة أبي (سيرة بني هلال الكبرى، وألف ليلة وليلة، وتفسير الجلالين، والمخضوبي، والزير سالم، وتفسير الأحلام) وكتب أخرى من مدرسة القرية. لم يعد أحد يقرؤها، بعد أن انقطع الناس للإنصات لصلب الفتاة والشاب. لقد تعلم بورخيس على يد والدي كيف يتم توزيع الإرث ولم يغادر إلا وقد حفظ كتاب الفرائض، وله حكايات أخرى لا مكان لها هنا.
أكسبت أبناء الأدهم المرأة سمة من الحرية والتمرد، سواء على موروثها القبلي أو الاجتماعي. وما الذي أردت إيصاله من وراء ذلك الوصف؟
المرأة هي الحياة؛ وهي الأصل في حياة القرية يشاركها الرجل كقوة عضلية. المرأة تخيط مسارات الحياة اليومية بتدبر وصبر وخبرة وحكمة لا يستطيعها الرجل، لذلك فإن حضورها هو الأساس، وهي المدافع عن الظلم والجور والمقاتل في سبيل القيم والعادات الحميدة. في روايتي احتضنت (منهاد) حب أجا وسلمى، وحب الأرض والجبال، وحتى الذئاب التي أكلت والدها كان لها رؤية عن ذلك. لا يمكن أن تكتب رواية عن نصف الحياةـ الرجل؛ إلا أن كانت سيرة دكتاتور أو طاغية أو بطل خارق. الرجل يرعى ما تلده المرأة من بشر وقيم ومفاهيم. لا أكثر من كونه حارساً وحبيباً وراعياً للمكان.
كونت من خلال أبناء الأدهم علاقة توافقية بين الإنسان والحيوان، هل كان ذلك التكوين وصفاً واقعياً وحقيقياً لحياة الإنسان في تلك ‏البقعة المكانية؟
الحيوان (الكلب والماعز والضأن والإبل والحمير والخيل والثعالب وكل الطيور الداجن منها والذي في السماء)؛ كلها جزء من حياة القرية وتتعايش في تآلف وصراع من أجل البقاء. لا قرى دون إنسان وحيوان. لا حياة إن فقد أحدهما.
‏مجموعتك (الهدية) قصص كتبتها للأطفال، وصدرت عام 2004، ‏من ‏قبل العلاقات العامة بشركة أرامكو، ووزعت 150 ألف نسخة، ‏من ‏طبعتها ‏الأولى. فما أهمية الكتابة للطفل برأيك؟
أصعب الإبداع هو ما يوجه للطفل لغرس القيم في ضميره دون وعظ. كتّاب قصة الطفل في عالمنا العربي قليلون. ومن يكتبون، أغلبهم، يكتبون قصصاً تعتمد على الخرافة وحكايات الجن والأمير الوسيم والبنت الجميلة الفقيرة. الكتابة للطفل تتطلب أدوات من أهمها إدراك الكاتب لقاموس الطفل اللغوي ومراحل نموه العقلي والنفسي. إضافة إلى سوق رسالة القصة بشكل غير مباشر ليتبناها الطفل في ضميره ويدافع عنها بقناعة.
‏‏كقاص كيف تحلل ‏ما أنتجته وسائل التواصل من مخاض وخصائص ‏على تجارب الجيل ‏الجديد؟
سوق حراج! وربما تجد فيه الطيب الأصيل. لكن في الغالب هو منصة كل عالم وجاهل، مبدعٍ أصيل أو مدعٍ للإبداع. أصبح المرء رئيس تحرير مطلق؛ يقول ما يشاء في أي وقت يشاء. كل هذا المخاض ينجرف مع الوقت وتبقى الروائع بيضاء نقية مع مرور الوقت. المهم في المسألة هو انفتاح أبواب الحرية للجميع، وسقوط أوصياء الرقابة والتحفظ، بحيث لم نعد نسمع زعيق أصواتهم، خصوصاً في مفاهيم تجاوزها الزمن. لقد سقطت كل الجدران.
قلت مرة إن كتاب القصة والقصة القصيرة جداً كثيرون، والعارفون ‏بحقيقة ‏الفن القصصي قلة، والمجيدون له أقل. فما الذي يجعل القصة القصيرة ‏فناً يسهل الادعاء فيه إبداعياً؟
تتعلق المسألة في الفهم والتفريق بين القصة الصغيرة والقصة القصيرة والقصة الطويلة؛ فالأولى تعتمد على الكلمة، والثانية على الجملة، والثالثة على المقطع. وهي قريبة من الرواية القصيرة. ثم إن مسألة اختيار (الكلمة) في القصة الصغيرة هو العامل الذي يعطي النص قيمة إبداعية أو يسلب ذلك، وتكون مجرد حكاية دون بريق إبداعي مدهش. ‏
‏ما زلت ترى أن الصراع المزعوم بين القصة ‏القصيرة ‏والرواية ‏بوصفها ‏جنساً حاجباً أو قامعاً، هي فكرة تجارية مردها ‏التهافت ‏غير ‏الصحي الذي ‏خلفته جوائز الرواية. فهل تعتقد أن الجوائز ‏الأدبية ‏تضر ‏بالأدب؟ ولماذا ‏برأيك يقع مبدعون كثيرون ضحية لهذا ‏التهافت ‏نحو ‏الجوائز الأدبية بشكل ‏عام؟
أنا لا أرى ذلك؛ وسعيد بكل هذا الكم الهائل من الروايات التي تصدر في مجتمعنا، وسعيد بالنقاش حول ما يرصد من جوائز. كل هذا يمثل مرحلة ضرورية في نمو مجتمعنا الثقافي. وغداً سيبقى الإبداع، ويتكرس النهج الحقيقي لما يكتب عن نبض المجتمع وتطلعه إلى طريق المستقبل.
‏ مع التوجه النقدي نحو النقد ‏الأكاديمي النفعي أو نقد بحوث الترقيات، ‏إلى ‏أي حد يمكن أن يكون النقد الأدبي ضرورياً لتقييم الإبداع؟ ولماذا ‏غاب ‏النقد الفاعل؟
نحتاج إلى نقد ثقافي للمرحلة، وإلى نهر إبداعي من النقد يرفد الإبداع المتدفق. كلنا نتمنى ذلك.
‏‏سبق وذكرت أن دخول الأسماء النسائية إلى المشهد القصصي ‏أسهم في ‏ضعف القصة القصيرة، فما هي الأسباب التي بنيت عليها وجهة نظرك تلك‏؟ ‏
هل حقاً قلت هذا؟ إن كنت قلته فأنا أغير قولي إلى أن الإبداع الشعري والقصصي والروائي، يتم الحكم عليه من خلال النص، وليس من خلال (جنس) الكاتب.
وصفت المشهد الثقافي والإبداعي بأنه أشبه بالسوق، وهناك ‏مسوقون ‏لاعتبارات عدة منها مغانم مادية ونفعية للتسويق، فما هي الوسائل ‏التي يمكن بواسطتها تغيير أحوال المشهد الثقافي؟
هو فعلاً سوق. لكن المتسوقين أحرار في اقتناء ثوب الإبداع الذي يناسب ما يلبسون.
‏ أسست موقع القصة العربية على شبكة الإنترنت 1998م ‏ووُضِعَ ‏تصميم (موقع القصة العربية) على الشبكة بأيقونة الهدهد، وفي ‏صدارته الآية ‏الكريمة (وتفقد الطير) وأشرفت عليه وعرف ‏منتدى القصة ‏العربية بتقديمه ‏إنتاج كتاب القصة في الوطن العربي خلال عقود من الزمن، ‏فماذا حل بذلك المنتدى الآن؟
تجاوز عدد القصص في شبكة القصة العربية العشرين ألف قصة. الجيد في الأمر أن الموقع (موقع القصة) صار مرجعاً لدارسي القصة العربية في الكثير من الجامعات العربية؛ إذ كل نص منشور إنما هو باسم كاتبه الحقيقي. ومحفوظ بأرشفة بالثانية بحيث لا يمكن سرقته.
الآن نعمل على تدشين المرحلة الخامسة للشبكة، وقد دمجنا موقع القصة مع منتدى القصة، وألحقنا بالشبكة -بشكلها الجديد- العديد من الخدمات للعضو والمتصفح مثل: فيديو ثقافي -بث مباشر لأي ندوة أو أمسية- الأخبار الثقافية المهمة في العالم العربي أو خارجه ـ يمكن للعضو تصميم مدونته الخاصة لصوره ومذكراته وخواطره ـ ربط الموقع بوسائل التواصل الفيسبوك وتويتر) وغيرها، إضافة إلى أبواب المنتدى المعروفة التي أضيف إليها الفلسفة والعلوم والبحوث، وسهولة التواصل بين المبدعين عن طريق الموقع، ومكتبة إلكترونية، وعرض للكتب الجديدة. وخدمات أخرى.
‏ما الآثار التي أورثها إشرافك على موقع (القصة العربية) ‏ في ‏مسيرتك ‏الأدبية الثقافية، وكيف انعكست تلك الخبرة الثرية على ‏تجربتك ‏الإبداعية بشكل خاص؟
اكتسبت صداقات ومعارف من شتى البقاع في العالم العربي وخارجه. وهذا ـ بالنسبة لي ـ كنز كبير أحرص على التواصل معه.
تحول كثير من القصصيين إلى كتابة الرواية ولم يعودوا إلى القصة ثانية إلا ‏فيما ندر، ‏فمتى يتمكن الكاتب من العيش في عالمي القصة والرواية؟ ‏
يعود ذلك إلى خيار الكاتب نفسه، وتجربته الإبداعية؛ البعض يرى أن أدوات الإبداع لديه تتقن القصة، لكن لديه إمكانية لخلق عوالم سرد روائي، آخرون يرون أن القصة هي مجالهم في التعبير.

ذو صلة