مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

فاديا قراجه: على المبدع أن يكون طبيب تجميل!

حاورها: محمد صالح الهلال: الأحساء


لكل شيء دهشة، ودهشة القصة لها هيبتها، فالقصة لها شهوة التأمل والاستفهام، والكتابة هي الاستراحة الأخيرة التي يألفها الإنسان حين يتكئ على أريكة المخيال الأدبي، لا مراء أن الكتابة شكلت عاملاً في حضارة الإنسان ومساهمة حاسمة في تقدم الإنسانية، ونشرت أشرعتها على أفق الإنسان ومداركه، فأصبح الإنسان أكثر شمولاً في كشف مخازن الكون، فالكتابة اختراع حضاري. الكتابة مخاض الألم، والألم هو العتبة التي تؤثث موطن الكتابة. الكتابة أسلوب من أساليب العلاج، ففي ذروة الألم تحسن الكتابة، فالكاتب حين يقبض على يراعه ينشد بذلك تذويب بعض جراحاته في صهريج الكلمة ويشد رئته ليفرج عن زفير مكلوم من حرقة النفس الجاثي على روحه وكأنه يتجرع بذلك مرارة الدواء. والكتابة شمس لا يمكن لأمي أن ينكر إشراقها الرمزي في نفس الكاتب، فهي -أي الكتابة- صهوة لا يجيد ركوبها غير فارس الكلمة وصانع المعنى.
ونحن هنا نتحاور مع من كانت الكتابة بلسماً لها ودواء، من شكلت لها الكتابة عالماً خاصاً، الكاتبة السورية فاديا عيسى قراجه.
الكتابة متى بدأت معك، وما هي المواضيع التي شدّت انتباهك لتناولها، وفي أي سن كان ذلك؟ ومن أول من شاهد مسودة الكتابة؟
– لبدايات كتاباتي حكاية جميلة، أقصها على أصدقائي بكل سرور، وأحملها معي في حلّي وترحالي. عشت بين قبيلة من النساء وكنت أوسطهم، فلا الكبار أدخلوني في عوالمهم الكبيرة، ولا الصغار قبلوني بينهم (أقصد أخواتي) فلجأت إلى العزلة التي أنتجت هذه الكاتبة، كنت أصعد إلى سطح المنزل، وبما يتوافر من كسرات البلوك المتبعثرة هنا وهناك خططت وحدتي الجميلة التي شاركتني بها أحلام البحيرات، والأرانب والسمك والعصافير، إلى أن انتبه الأهل إلى غيابي وقرأت أختي الكبيرة قصص الطفلة، فأحضرت لي القلم والدفتر ليبدأ مشواري ويتبلور مشروعي القصصي، وأغيب عن عالم الأنثى بكل تجلياتها بعد أن احتلني الحرف. في مغامرة الكتابة الأولى لم أكن قد تجاوزت المرحلة الابتدائية.
من يقرأ قصصك يجدك تحاولين ردم الهوة التي تتسع بين المرأة والرجل، ربما بسبب غياب الرومانسية، أو عدم فهم الاثنين لبعضهما البعض أو الانشغال عن بعض بأمور الدنيا، من وجهة نظرك كيف يمكن حل تلك الإشكاليات، وهل ما يحدث اليوم في مجتمعاتنا العربية من تخلف مرتبط لما يحدث بين الرجل والمرأة؟
- هذا أجمل عنونة لقصصي، فعلاً أنا أحاول ردم هذه الهوّة المصطنعة بين الرجل والمرأة، التي تشبه الحدود المصطنعة بين بلداننا، وبتعبير أدق أنا أحاول مقابلة الجمال بالجمال، فالرجل كونٌ بأكمله، للأسف تم نفخه بطريقة بشعة وعلى مر العصور، لدرجة أنه نسي شكله الطبيعي المكون من ماء وتراب ونار وهواء، وهذا النفخ والتأليه تتحمل المرأة مسؤولية كبيرة والمسؤولية الأكبر يتحملها من شوّه الأديان. وفي قصصي يعود الرجل لشكله الأول حيث كان البدء والمدى. أما المرأة في قصصي تتحدث عن جسدها، ورغباتها، وأحلامها بعد أن قصّوا أجنحتها وكمموا جسدها.
وللإجابة عن سؤالك كيف تُحل هذه المشكلة؟ لا يمكن أن تحل مشكلة التفوق والتهميش إذا لم يعد الرجل والمرأة إلى حجمهما الطبيعي. بالتأكيد أستاذ محمد، لا يمكن أن ينهض مجتمع ما طالما أن أعمدته منخورة.
ما هو المطلوب من الكاتب، أن يكون واعظاً، أو ناقداً، أو قارئاً للمجتمع، أو مسلياً وممتعاً في قصصه؟
- لنتفق أولاً أنه لا يمكن أن يكون واعظاً وإلا تحول إلى رجل دين أو سياسة، وهذه الطبقات اشمأز منها القارئ لنفاقها ودجلها. ربما يتمكن من النقد لأنه فهم لغة الأدب من قصة ورواية وشعر، وفهم قراءة الأبعاد والأحجام والمستويات، لكن المطلوب من المبدع أن يكون طبيب تجميل، حيث تبرز براعته بمدى قدرته على تجميل القباحة مهما كان الموضوع الذي يتناوله، فالإبداع جمال والكتابة جمال. وما أقصده بالكتابة الجميلة تلك التي تضع مشرط التجميل على الفقر والدموع والقهر، وكي لا أُفهم خطأ، أقصد اللغة الجميلة، تلك التي تأخذك من نفسك، وتجعلك متشبثاً بالنص إلى آخر نقطة فيه. كما هو مطلوب من المبدع أن يكون لسان حال مجتمعه، ولا يكتب من برج عاجي متناسياً صرخات الفقر والقهر والظلم، بينما هو يكتب عن القصور والمطارات، والأهم أن يكتب دون مراعاة لأي جهة أو شخص مهما كان نافذاً ومتسلطاً، فهذا هو الاستشهاد الحقيقي (أن تقول كلمتك وتمضي).
 تكتبين القصة مثل ما يكتب نزار قباني قصائده بكل حب ورومانسية وجرأة في مفردات العشق، ألم تخافي المجتمع وأنت أنثى؟ وما هو مفهومك لكتابة النص الأدبي؟
 - الكتابة يجب أن تكون عارية كما الحقيقة. والجرأة هي عري الكتابة ولا أقصد الإباحية بمعناها المعروف لدينا. حينما تجد أن أهم مشكلات المجتمع بكافة فئاته العمرية هي الكبت الجنسي، وتأثير هذا الكبت على سلوكيات أفراد المجتمع، هل ستضع رأسك بالرمال؟
الكتابة تأريخ للمجتمع الذي تعيش فيه، فإما أن تكون مؤرخاً وفياً، وإما أن تكون مؤرخاً ذكورياً بالمعنى السياسي للكلمة وتردد (التاريخ يكتبه المنتصر)، أما لو سألتني سأقول إن التاريخ لا يرحم ولا بد من تسطيره بكل شفافية وجرأة رغم كل المعوقات والعثرات، فالكتابة يجب أن تحافظ على شعلتها مهما عوت الرياح. الكاتب الذي يخاف من كلمته لا يعوّل عليه. أما عن مفهومي لكتابة النص الأدبي، أظن بأنني أجبت عن تساؤلك بأكثر من طريقة.
باختصار كتابة النص الأدبي، هي أن تكون الطبيب الذي يعالج الأمراض المستعصية بمبضع من حرير وصبّار، وتشير بكل شفافية وقوة إلى ما يجب أن تستأصله، مراعياً الدقة، فأي فكرة قاتلة هي كالخطأ الطبي سوف تخلّف آثاراً كارثية قد تدوم مدى الحياة. وكما نرى عمليات التجميل الفاشلة، هناك بالضبط نصوص تشبه وجوه وأجساد الفتيات من حيث كتاباتهم المنفوخة والمشوهة.
 بعد خمس مجموعات قصصية وهي: مساحة للحياة، رغبات بيضاء، زقورة مريم، القصة الأخيرة، أهل المغارة. تتجهين لكتابة الرواية تحت عنوان (السيرة الحمودية) لماذا؟ وماذا تتناول فاديا في أول عمل روائي لها؟ هل تناقش موضوع المرأة والرجل بشكل أوسع، أم هناك قضايا جديدة تحتاج إلى مساحة أكبر، لذلك خضتِ غمار الرواية؟
- ربما الشيء الذي لا يعرفه القارئ العربي أنني أكتب القصة جنباً إلى جنب مع الرواية، فرواية (السيرة الحمودية) بدأت بكتابتها منذ 2007 لكن ظروف الحرب حالت دون طباعتها، ورواية (هنا حمص) كتبتها في الحرب فهي ابنة الحرب، والآن أشتغل على رواية ثالثة لا أدري متى ستكتمل. في القصة أنت تغازل حدثاً واحداً مشروطاً بشروطه الأدبية والتقنية والفنية. كاتب القصة عاشق يمارس عشقه كومضة يريد تقبيلك بسرعة، أما في الرواية فأنت مشغول بالتفاصيل الجميلة والكثيرة التي تتيح لهندسة غاية في الدقة الغور في التفاصيل، كاتب الرواية مشاغب، منقّب، مؤرخ يتدخل في التاريخ والجغرافيا والكيمياء والفيزياء. في الرواية أنت عاشق حسّي، وفي القصة أنت عاشق عذري، لو صح لي التعبير المجازي.
أما عن سؤالك عما أتناوله في أعمالي الروائية فأقول في رواية السيرة الحمودية، تعرضت للمرأة والرجل بشكل فاقع، لا رحمة فيه ودخلت إلى مجتمع صغير (القرية) حيث التعامل المباشر والاحتكاك المباشر بين الرجل والمرأة، ورغم انفتاح هذا المجتمع الريفي الصغير تم سجن جسد المرأة ودفنه وهي حية. أما الرجل في الرواية فهو مغلوب على أمره من قبل حاكمه، لا يرى أي غضاضة في تفريغ قهره بالمرأة وفي جسدها، وهذا ينسحب على مجتمعاتنا في الريف والمدينة. رواية هنا حمص، المرأة في زمن الحرب وهذا عنوان كبير ومثير لكل كاتب، وبمعنى آخر الحياة قائمة على رجل متسلط وامرأة تعشق دور الشهيدة، ورجل منصف وامرأة تحترم جسدها وتعرف ما لها وما ليس لها.

ذو صلة