مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الشعر العربي بين الفصحى والعامية

خلصنا في مقال (الشعر العربي بعد الشفوية)، المجلة العربية، ع 563 (أغسطس 2023م/محرم 1445هـ) ص ص6-9، إلى أن فكرة وجود شعر عربي بالفصحى فكرة وهمية، تخالف العقل والمنطق والواقع، لأن أساس الشعر -أيّ شعر- هو الطبع والسجية والبديهة والعفوية -والتي لا تخالف الرويّة- في اللغة الأمّ. فابتداءً بالعصر العباسي لم يعد هناك شعر - إلا من كان على صلة بالبادية، أو في بيئة فيها صدى للفصحى، كالحسين بن مطير، وابن هِرمة (ساقة الشعراء). أما أبو نواس وغير أبي نواس، فهم كتّاب شعر، على أصداء الماضي فقط. وينبغي لنا قطعيّاً أن نتأكد أن أي (شاعر) عباسي وغيره إلى أن تقوم الساعة، لم يكن يتكلم الفصحى في مجاله الحيوي: منزله، وفي الأسواق، وبين عامّة الناس، وإنما يصطنعون الفصحى -إن صحّ هذا- في المجالس الرسمية، يقول عبدالغفور عطار: «في عهد بني العباس... كانت العامية لغة التخاطب إلا في مجالس الخاصة».
لقد عبّر نزار تعبيراً صادقاً عن هذا الواقع حين قال: «العربي يقرأ ويكتب، ويؤلف ويحاضر بلغة، ويغنّي ويروي النكات ويتشاجر، ويداعب أطفاله، ويتغزل بـ(ميني) حبيبته، بلغة ثانية. هذه الازدواجية التي لم تكن تعانيها بقية اللغات كانت ومازالت تشطر أفكارنا وأحاسيسنا نصفين». وطبيعي أن يكتب نزار بالفصحى، لأنه تاجر كلمة، ولو كتب بلغة أهل دمشق، لما كان نزار أصلاً. وعلى العموم، يقول يوسف الخال: «نحن نفكر بلغة، ونتكلم بلغة، ونكتب بلغة».
إن هذه الحقيقة الصادمة التي لا تحرم أحداً من أن يكتب بالفصحى شعراً، تعبيراً، تطبيقاً لقول نزار: «الشعب العربي محكوم بالشعر...»- وليس حسب المفهوم المنطقي للشعر- نجد مصداقيته في الازدواجية التي تجمع بين الشعر بالفصحى والشعر بالعامية. فمن المستحيل، ومن غير المعقول أن يجتمع شعر كهذا في قلب رجل ذي لغة واحدة على أنه ربيب كليهما، وهما لسانان مختلفان، إذ لابدّ أن يكون أحدهما هو الشعر باللغة الأم (المطبوع)، والآخر تقليد، وتعلم، وكتابة، فهو ليس بشعر على السليقة. وإنك لن تجد مطلقاً أبداً شاعراً عربيّاً قُحّاً، بدويّاً، يفعل هذا، وإنما قال الشعر كما قاله أسلافه في الجاهلية وحتى نهاية العصر الأموي، ذلك، أنه لم يقل أيّ شاعر نبطي قط قصيدة بالفصحى، مثل: راكان بن حثلين، ولا محمد بن هندي، ولا العوني صاحب ملحمة (الخلوج)، أو الشاعر الهزلي الساخر حميدان الشويعر، أو حتى الشعراء الذين قرؤوا الشعر الفصيح: ابتداءً بالخلاوي، مروراً بالهزاني، أو حمود الناصر البدر، أو ابن ربيعة، أو المغلوث، ... مع أن بعض شعراء الحاضرة تورّطوا في (الألفية)، والمروبعات...
***
ولكنا نجد الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة يقول الشعر النبطي إلى جانب الشعر بالفصحى، فأيهما هو الشعر؟ وأية لغة هي لغته الأمّ التي تدرّج عليها؟ أهذه اللغة التي يتحلّل فيها من الإعراب والصرف والتراكيب، بل حتى استخدام المفردات، أم تلك اللغة التي تعلّمها، وتدارسها، وتهيّأ لها؟ والأمثلة كثيرة على هذا، فمن هؤلاء: الشيخ محمد بن أحمد آل خليفة، وعبدالله الفرج، ومحمد بن حسن العماري... يقول الشيخ محمد بن أحمد:
عبَرت بي تَرُفّ كالنغم النشـ
ـوان كالزهر كائتلاف المعاني
غادة كالربيع تضحك بالأحـ
ـلام بالبشر بالرضى بالأماني
تتهاوى الأضواء من أفقها المر
موق خجلى من حسنها الفتان
وتدلّ القصيدة التي منها تلك الأبيات، وهي من (الخفيف)، على أنه أمضى زمناً في دراسة العروض وضبط الإيقاع، فهذا الوزن المتداخل -كما هو واضح كل الوضوح فيها كلها- لا يمكن أن ينضبط دون حضور ذهني.
وإذا غضضنا الطرف عن قصيدة سلطان بن مظفر بن يحيى في عصر الموحِّدين (30 بيتاً):
يِقولْ وفي بُوحِ الدِّجى بَعدَ وهنة
حَرامٍ على أجفانِ عيني مَنامْها
وهي مثال قوي جدّاً على العامية، وعدم مقدرة الشاعر البدوي الموهوب على أن ينتقل إلى الفصحى، فإن الشاعر النبطي، وإن كان قارئاً، يظل غير قادر على قول الشعر بالفصحى على غرار الشعراء في العصر الأموي وما قبله، فإن أثر الشعر الفصيح يظهر عليه، دون أن يكتب شعراً فيه، فمثلاً يقول سليمان بن عفالق على (البسيط، 61 بيتاً):
طاب المنام لمقروحات لَجفانِ
يا خِلِّتي بعدما بالأمسِ جافاني
وهذه تبدو نبطية، ولكن أثر التعليم واضح فيها، كقوله:
لا ساعد الله أيامَ الِفراقِ فما
أمَرَّها من مذاقٍ كيفَ ما كانِ
كمْ جَرّعتني غَصَصْ موْتٍ تِميد بها
أَعضا قِوايْ فِكِيْفِ اصبِرْ لِسلواني
واحسرِتي يُومِ تَفريقِ الشِّمولِ على
شَملٍ غِدا لهْ بحسن الصيت عِنوانِ
ثم تخرج القصيدة عن (البسيط)، لتقع في أول تفعيلة (الطويل)، لأن الشعر النبطي يتقبل هذا، يقول:
وِعِيشي لِذيذٍ بعدما كِنتِ هاجره
فيما مِضى والزيادهْ منهِ نِقصانِ
ويأتي بتفعيلة (الكامل)، والشعر النبطي لا يقبل هذا، كقوله:
وإذا تِذكرتِ أيامِ الِفراقِ لنا
من جُوْبِ عيني جرى للدمعِ هتّانِ
ونِجومِ سَعْدِكْ تِبَدَّت في مطالِعِها
في عِظمِ حظِّ وإسعادٍ وقِبلانِ
وما يعكس استحالة كتابة الشاعر النبطي ممن لم يحظ بتعليم في النحو والصرف واللغة يمكنه من كتابة الشعر، لأن الاستعداد الفطري له ليس ممكناً، مع ما يتمتع به من موهبة شعرية وحِسّ في الإيقاع، قول العفالق (43 بيتاً، على الطويل، والقافية على فعولْ)، وفيه تعدّ على الإيقاع بوصل آخر التفعيلة بالقافية، ولكن إيقاع الشعر النبطي ينسجم مع هذا حسب اللغة العامية للإعراب والصرف، كما هو بيّن عند قراءة هذا الشعر:
ظباَ ما لَها غِيْرِ القِلوبِ كْناسْ
ولا تِرْتِضي شَروى البِدورِ اجناسْ
عَنِ الوَصْلِ أَبْعدْ مِنِ سْهيلٍ إلى الوِطا
وِللصَّدِّ أَقرَبْ مِنْ ثِغورِ الكاس
ويحدث أحياناً في (الضرب) مجيء (مفاعلن) على (مفاعيلن)، كقوله:
يِشوف مِن لا يَملِكِ الصَّبِرْ دُونَهْ
ولا لَهْ عَنِ طْروقِ الوِصالِ اعساس
بل لا يستقيم حتى مع هذا الإيقاع، ولكنه جزء منه، كقوله:
فلاكنِّ ما نِحصي علينا طلايب
أجدادٍ وِمِنْهنَّ سابِقٍ وِدراس
أما على (الكامل، 78 بيتاً) منضبطاً ماعدا عدم القدرة على ضبط إعراب (الروي)، فنجد قول محمد الشعيبي:
سارتْ وَقد نَهَجَ الدِّجى وَتَجَرْهَدا
وانجالِ جِلبابِ الظّلامِ الأسْوَدا
وَتِمايِزَت لافْلاكِ ثُمِّ تَحَدَّرَت
جِلِّ النِّجومِ إلى المِغيبِ تَوَرِّدا
ومع أصداء الإعراب، ومظاهر الكلمات الفصيحة، ومحاولة النسج على (الكامل)، فإن الشاعر النبطي يظلَّ عاميّاً في قوله، ولا يستطع الانتقال إلى الفصحى، بل هو أسير العامية، لأن تعليمه محدود على الرغم من شاعريته، وهذه هي السجية والطبع. وحقيقة نحن نتحدث هنا عن القارِئين، فإذا نظرنا في شعر البدو أو أنصاف البدو عامة، فإن قول أحدهم على هذا النمط عسير، وفي الشعر النبطي قصائد كثيرة في الطويل (الهلالي). وهي طبيعية كلها، بدوية خالصة دون تأثير التعلم، ومع أن الشاعر النبطي القارئ كيَّف (الطويل) للغته، فإنه أبداً لم يستطع أن يكيّف (الوافر)، لأنه لا يستقيم مع إيقاع حركاته، وإنما يقول في الهزج (الصخري)، سواء كان قارئاً، أو لا تعليم له، ومن هنا كانت ندرة (الكامل) أيضاً الذي حلّ محله (الرجز)، أما (المسحوب)، فهو (الخفيف) بتفعيلته الأولى (مستفعلن)، بدلاً من (فاعلاتن)، وفي الثانية (مستفعلن) أيضاً، ولا تأتي على (مفاعلن)، وكل ذلك يخضع للحن. وفي كل هذا يعجز الشاعر النبطي، أن يكون شاعراً بالفصحى، لأن هذه هي لغته الأمّ، وما عداها صناعة وكتابة. ألا نرضى بعد ذلك بقول ابن خلدون، مشيراً إلى الشعر البدوي، فنجعله تصديقاً للواقع:
«فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون... الشعر البدوي (النبطيٍ)».
***
ومثلما قال نزار، قالت الصايغ:
«إن الفصحى فضاؤنا المحبب.. ولكن التحليل المنهجي لطبيعتي (الفصحى) و(اللهجة الشعبية) يحيلنا إلى حقيقة (مؤقتة) هي أننا نفكر باللهجة ونحلم ونتخاصم، فإذا أراد الشاعر كتابة قصيدة، مخضها في مخيلته بمفردات اللهجة، فإذا استقام له الأمر (ترجمها) إلى اللغة الفصحى... إن القصيدة الشعبية قريبة الآصرة مع البؤرة الشعرية».
أي: أننا وصلنا إلى ما سمّوه: (دمج الشعر). وهذا ما نجده متمثِّلاً خير تمثيل في علي عبدالله خليفة الذي قال شعراً بالعامية البحرينية، لغة التخاطب الشعبي، وهي عامية تختلف عن بقية عاميات البلدان العربية -عدا الساحل الشرقي للجزيرة العربية، مع أن في البحرين لهجتين منفصلتين عن بعضهما كلية- ثم هو ينظم شعراً بالفصحى، فكيف حصل التوفيق بينهما؟ وعلى هذا القياس يمكن تعميم النتائج. وإذا ما كان قول الصايغ صحيحاً، فإنه يُبطل بطلاناً تامّاً أيّة مقولة بالشعر في كل جوانبه الإيحائية والفنية والتعبيرية، لأنه يصبح ترجمة من مستوى لغويّ إلى مستوى لغويّ آخر، مختلف كل الاختلاف عن الأول. وأدهى من ذلك كله أن يجمع الشاعر بين هذين المستويين المتفارقين في قصيدة واحدة، مثلما يفعل علي عبدالله خليفة. ومثل علوي الهاشمي في قصيدته (الطوفان)، حيث تتضمن القصيدة موّالاً شعبيّاً ومقاطع نثرية.
يقول علي عبدالله الخليفة:
«إن الشعر بالعامية تفرضه عليه بيئة معينة، مثل بلده البحرين الذي تتجاوز نسبة الأمية فيه أكثر من 94 %». وفي مجال الشعر العامي في البحرين يطالعنا علي عبدالله الخليفة بديوانيه: (عطش النخيل) و(أغاني الغوص). وفي الفصحى: (أنين الصواري).
ومن هؤلاء حمدة خميس التي قالوا عنها: (من أبرز شاعرات البحرين حمدة خميس). كما قالوا عنها، لاستخدامها (الموال) في الشعر:
(تمضي الشاعرة حمدة الخميس مستلهمة هذا الموال الشعبي...).
ومن شعراء العامية والفصحى عبدالرحمن رفيع.
إذن، فنحن نتحدّث عن (انفصال لغوي)، وليس عن (ازدواجية لغوية)، فهذه يمكن الجدل حولها إلى عصر جرير والفرزدق وأضرابهما من الشعراء البدو، أو حتى أولئك المتحضِّرة في مكة والمدينة وسواهما، أما (الانفصام اللغوي)، فلا! ويبقى السؤال الملح دائماً وأبداً هو:
ما موقفنا من الشعر العربي بالفصحى؟

ذو صلة