مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

الترجمة وارتباطها بالمرجعية الثقافية

عادةً ما تُعرّف دراسات الترجمة عملية الترجمة على أنها انتقال بين لغتين وثقافتين، لكن المجتمعات ليست كُتلاً متجانسة؛ فهي تحتوي على مجموعات اجتماعية صُغرى مختلفة، لكل منها نظامها القيمي والأيديولوجي الخاص، تُشكَّل الهويات الفردية من خلال التجارب والمعاني التي تُنسب إليها، وبمرور الوقت، تتحوّل هذه التجارب إلى أنماط سلوكية، ويتصرف الأفراد وفقاً لها عند مواجهتهم لتجارب جديدة.
ومن هذا المنظور، لا تتشكّل الفردية إلا من خلال التجربة الشخصية والمعنى المنسوب إليها، فالتجارب تتحول إلى أنماط سلوك فردية تُوجّه الفرد في كيفية التفاعل مع التحديات الجديدة، وبالتالي فإن الفردية تتجذر في الجسد، بينما يُكتسب المعنى من خلال عملية التفاعل الاجتماعي.
والترجمة في جوهرها الأساسي هي الحفاظ على المعنى الحقيقي ونقله من لغة إلى أخرى من دون المساس بما يجعله يتحول لمعنى آخر. يحاول الكثير من المترجمين جاهدين بأن يحافظوا على هذا المعنى، ولكن هناك حالات تضع المترجم في موضع الاختيار مابين نقل النص كما هو أو وضع وصف لا يخل بالمعنى الحقيقي.
لكن بطبيعة الأمر يجب على المترجم أن ينظر للموضوع من جانب حقيقي وواقعي، أن لا يتعامل مع النص وكأنه ملك له ويحق له التصرف فيه وإلغاء أجزاء لاتتناسب مع مرجعيته الثقافية أو الدينية والأخلاقية، إنما دوره الأساس هو نقلها من وإلى.
المرجعية الثقافية تمنح المترجم أن يعرف ماذا يجب عليه فعله إذا كان مُدركاً لقيمة ما يملكه، لأنها لم تكن يوماً عبئاً على المترجم؛ بل فتحت له آفاق الوصول إلى اللغات الأخرى، وحققت له غايات عبور القارات والسفر من خلال اللغة. يحق للمُترجم أن ينتقي بعناية نوع النصوص التي ينقلها، ولكن ليست من الاحترافية أن يمنع نفسه من التعامل مع نصوص لا تتناسب مع مرجعيته الثقافية.
الصعوبات والتحديات
تُعد ترجمة المرجعيات الثقافية من أبرز التحديات التي تواجه المترجم، نظراً لارتباطها العميق بالسياق الثقافي والاجتماعي للنص الأصلي. تكمن الصعوبة الأساسية في أن ما يحمله تعبير معين من إيحاءات أو معانٍ ضمنية في ثقافة ما قد لا يكون له مكافئ مباشر في الثقافة الهدف، مما يجعل نقل المعنى بشكل دقيق أمراً معقداً، فالقارئ الأصلي غالباً ما يكون متمرساً في فهم هذه الإشارات والمرجعيات بسبب معرفته بالسياق الثقافي، في حين أن القارئ في اللغة الأخرى قد يفتقر إلى هذا السياق، مما يستلزم من المترجم أن يقوم إما بشرح المرجعية أو تكييفها أو حتى حذفها أحياناً.
ومن أبرز الصعوبات التي تواجه المترجم أيضاً ما يُعرف بعدم وجود مكافئ ثقافي، أي حين تكون المرجعية مرتبطة بعناصر لا وجود لها في الثقافة المستهدفة، كأطعمة أو طقوس أو رموز خاصة أو مسميات معينة. في مثل هذه الحالات، يجد المترجم نفسه في موقف يتطلب اتخاذ قرار دقيق: إما أن يشرح المرجعية داخل النص، وهو ما قد يُثقل أسلوب السرد، أو أن يلجأ إلى حذفها إن لم تكن محورية، أو أن يستبدلها بمرجعية قريبة من ثقافة القارئ، مع ما يترتب على ذلك من تغير في طبيعة النص الأصلية.
ويزداد التحدي تعقيداً عند النظر في الاختيار بين إستراتيجيتين أساسيتين في الترجمة، هما (التدجين) و(التغريب)، فالتدجين يعني تكييف المرجعيات الثقافية لتصبح مفهومة لدى القارئ في الثقافة الهدف، وهو ما يجعل النص أكثر سلاسة لكنه قد يؤدي إلى فقدان طابعه الأصلي، أما التغريب، فيعني الإبقاء على المرجعية كما هي، مما يحافظ على أصالة النص، لكنه قد يخلق مسافة بين القارئ والنص ويؤدي إلى صعوبة في الفهم، وبالتالي فإن المترجم يجد نفسه بين ضرورة الحفاظ على الخصوصية الثقافية للنص وضرورة تسهيل التلقي لدى الجمهور الجديد، عندها ستتضح الصورة ويكون لدى القارئ معرفة تامة بطبيعة النص الأصلي وملاحظته باجتهاد المُترجم في تقريب المعنى أمامه وبالطبع فإن هذا الجهد المبذول هو في سبيل الوصول إلى الفائدة، والقارئ مُشارك فعّال في هذه العملية مع كاتب النص الأصلي والمترجم.
ففي كل قراءة، يُعيد القارئ تشكيل النص في ذهنه، مستنداً إلى ما وفّره له المترجم من إشارات ثقافية ودلالات رمزية، خصوصاً في الأسماء والعناصر المرتبطة بالهوية والسياق. وبهذا التفاعل، تتحول الترجمة إلى جسر ثقافي حيوي، يتجاوز مجرد استبدال الكلمات، ليصل إلى نقل التجربة الإنسانية ذاتها بكل تعقيداتها وغناها وتنوعها.
إن نجاح المترجم في إيصال هذا العمق يرتبط بقدرته على مراعاة الفروقات الثقافية دون أن يُفقد النص طابعه الأصلي، وفي الوقت ذاته، إتاحة مساحة للقارئ لفهم تلك الرموز والانخراط في تأويلها، مما يجعل من تجربة القراءة فعلاً مشتركاً بين ثلاث جهات: الكاتب، المترجم، والقارئ.
رمزية الأسماء في الترجمة وعلاقتها بالعمق الثقافي
تُعدّ الأسماء عنصراً جوهرياً في البناء السردي لأي نص، فهي لا تقتصر على تحديد هوية الشخصيات أو الأماكن، بل غالباً ما تكون محملة برموز ودلالات ثقافية واجتماعية ونفسية تعزز العمق الفني للنص. ومن هنا، تُشكّل ترجمة الأسماء تحدياً كبيراً أمام المترجم، خصوصاً عندما ترتبط هذه الأسماء بثقافة المصدر ارتباطاً وثيقاً وتكون جزءاً لا يتجزأ من هذا الارتباط.
الاسم كأداة دلالية وثقافية
في كثير من الثقافات، تحمل الأسماء معاني ضمنية تتجاوز كونها مجرد علامات صوتية. فقد يشير اسم معين إلى خلفية دينية، مثل: (موسى، محمد، ماريا)، أو انتماء طبقي، مثل أسماء النبلاء أو العامة، أو حتى إلى صفات شخصية، مثل: (Hope ، Joy، نور، صابر، مؤمن).
العلاقة بالعمق الثقافي
ترتبط الأسماء في كثير من الأحيان بنظام القيم في المجتمع، وبالهُوية الجماعية والفردية. لذا، فإن ترجمة الاسم دون وعي كافٍ بالسياق الثقافي قد يؤدي إلى طمس هذه المعاني أو إساءة فهمها.
فعلى سبيل المثال، قد يحمل اسم معين دلالة طبقية في مجتمع ما، مثل أسماء العائلات الأرستقراطية في الروايات الإنجليزية، في حين لا يحمل الاسم ذاته أي قيمة طبقية في ثقافة أخرى. وكذلك قد يحمل اسم ديني في ثقافة معينة بُعداً مقدساً، لكنه يُعدّ شائعاً أو عادياً في ثقافة أخرى.
كما أن بعض الأسماء تُحيل إلى مرجعيات جغرافية أو تاريخية، كأن يُشير اسم شخصية إلى مدينة أو حدث أو رمز سياسي، وبالتالي تصبح ترجمتها الدقيقة مسألة تتطلب وعياً بالسياقين: المصدر والهدف.
في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى ترجمة المرجعيات الثقافية على أنها مجرد نقل لغوي، بل هي عملية معقدة تنطوي على تفاوض بين ثقافتين، تتطلب وعياً ثقافياً عميقاً، ومرونة فكرية، وقدرة على اتخاذ قرارات دقيقة تحافظ على توازن دقيق بين أمانة النص وسهولة تلقيه، فالمترجم هنا لا ينقل كلمات فقط، بل ينقل عوالم بأكملها، بكل ما تحمله من رموز ومعانٍ وتجارب جمعية.

ذو صلة