العقل في هذا العصر يعيش فترة قلق وحيرة، أمام سيل جارف من اللاعلم، فقد أصبح العلم عندنا تغريدة، بعد أن كان ثقافة ممتدة، تنتقل من جيل إلى جيل، يتبارى الناس في قراءتها. علماؤها من المشهورين، وطلابها من المخلصين.
امتلأت المكتبات بالمؤلفات، في عصر لم تكن فيه جامعات، ولا حمل شهادات، بل عقول تخزِّن العلم وتحتفظ به، وكتاب يكتبون، وعلماء يوجهون.
المسؤولية كانت موزعة بين العالم والمؤلف والطالب، القلم يحمله ذو مسؤولية، ويتحمله ذو همة، ليس همه الشهرة ولا الإشارة، بل خدمة الأمة.
والطالب تحوَّل عقله إلى مكتبة متحركة، وبمرور الأيام تحوَّل إلى علم من علماء الأمة؛ لأنه قعد مقاعد الدرس والتحصيل عن قدرة واقتدار.
إن تلك حال، غير أننا نعيش عصرنا هذا في أحوال.
نحن نعيش عصر الثورة التكنولوجية، ثورة الاتصالات الجديدة التي عَمَّت أركان الكرة الأرضية، فلا يخلو بيت من أدوات أو جزء من أدوات هذه الثورة التي كان المعتقد منها أن تحرَّك العقول، وتتّسع دائرة المثقفين؛ غير أن الواقع كان عكس ما كنَّا نتمناه، أو كما قال أحدهم عندما كتب مقالة عن: (انقراض المثقفين) في (الاتحاد للأخبار 2 أغسطس 2010م)، حيث وجد الناس أنفسهم أسرى لمواد إعلامية وإعلانية براقة، سرقت منهم أنفسهم وأرواحهم حتى أن الواحد منهم لا يجد خمس دقائق للجلوس مع نفسه ومناقشة ذاته، وهذا الأمر أدى إلى انتشار أمراض الجنون والأمراض العصبية، وهذا كله بفعل هذه الثورة التي أُطلقت دون رقابة من أحد، مما أدّى إلى نشاط الحروب المذهبية والعنصرية؛ لأن الأبواب مفتوحة أمام الجاهل والمتطرف والمجنون، وكل من هب ودب، فينشر فيها ما شاء وما رغب دون حَدّ أو متابعة.
فتجدهم يفتون بغير علم، ويسعون لنشر الفتن بين الناس.
فكانت هذه الثورة الإعلامية خير معين لهم، بعد أن كنّا نتوقع غير ذلك.
ومن هنا فإن العقول الناضجة تعيش أزمة؛ لأنها تعيش زمناً متسارعاً لا يعطي الكلمة قدرها، بل يطلقها على ما هي عليه، ولا يجد العالم فيه مكانه، فقد حَلَّ محلّه المشهورون من هذه الثورة، وأما المثقف فقد توارى (الرمز)، وحلّ مكانه كاتب التغريدة.
إنني أتذكر مقالة كُتبت في مجلة (آراء) العراقية في سبتمبر 2006، بعنوان: (قراءة في ثقافة الغد)، وفيها أن مثقفاً عراقياً كان قد طرح تخوفاً من أن تهاجم (التكنولوجيا الأدب)، فتُطحن الفرشاة، ويتُرك القلم. ويهجر المبدعون القراءة، وتتحول ثقافتنا إلى أشبه (بوصفة طبية).
وكان (آلان.ي. تومبسون) في كتابه: (نحو المستقبلية...) قد قال كلاماً ينطبق على عصرنا (المأزوم)، إذ قال في إحدى صفحاته: «إننا نقف أمام عتبة فاصلة في تاريخ تطورنا، فقد انتهت مرحلة النمو وستأتي بعدها مرحلة قد تؤدي إلى الهاوية... وهذا ما نخشاه من هذه الوسائل التي شلّت بعض تفكيرنا».
إن العقل في هذا العصر يعيش في (اللاثقافة)، وإن كانت بقية من العلماء والمثقفين باقية.
غير أن رمز العلم (الكتاب) يعيش أزمة تتمثل في هجرانه، حيث انشغل الناس عنه. كتب أحدهم في (النوفليات):
الأطفال في قاعات الألعاب مشغولون، والشباب في الكوفيهات لاهون، والشيوخ في المقاهي غافلون، فمن للمكتبات أيها الطيبون؟
أما العقول فقد حل محلها (قوقل)، إذ نسير وفاقه في سفرنا وحلنا وارتحالنا، بل حتى في بحوثنا ومؤلفاتنا. لقد سلب منا التفكير، بل سلب منا عقولنا، فلم نعد نفكر قدر انشغالنا بهذه الوسائل الحديثة.