مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

التشكيلي المغربي عبدالحميد الهردوز.. يرسم بالصباغة والتراب وينقش على الخشب بالنار

يُخرج من صناديق خشب قديمة ومُهملة حياةً تدبّ بين يديه الممسوستين بالابتكار العجيب، يصنع منها ألواحاً صغيرة سُرعان ما تزيّنت برسوم نارية، (النقش بالنارعلى ألواح خشب مسلوخة من الصناديق)؛ هكذا عبدالحميد الهردوز، الفنان التشكيلي المغربي؛ يرى في كل ما يحيط به من أشياء فنّاً قابلاً للتشكُّل، حتّى المُتلاشيات أو الخردوات من بقايا أشياء وأغراض حِرفية ومنزلية، يأخذ ما يليق بفكرته الخلاّقة ليُعيد تشكيله تُحفةً فنية تُبهرالذوَّاقين.
عبدالحميد يحب استعمال كل ما هو أصيل وتقليدي ومُهمل في أعماله، يرسم على الورق والقماش والخشب بالصباغة والتراب والنار، كما يستخدم اللّيمون والحنّاء والمسامير والزجاج والزنك وقطع الغيار التالفة. يختار(زُبدة) المتلاشيات من بقايا الأغراض المتروكة التي يتصورها نظرياً بشغف في مختبره الذهني، ليشرع في الإبداع بين ركام ورشته الخاصة، ينسج الزرابي (السجّاد) واضعاً لمسته الفنية التي تستثمر صنعة الحياكة المتوارثة في أفق المُتخيل، صانعاً من النسيج التقليدي عملاً فنياً آسراً ومُدهشاً. وفي أثناء رحلاته المنتظمة إلى الصويرة (الجنوب الغربي للبلاد)، مدينة الرّياح والفنون مقصد الرّسامين والنحّاتين وهواة ركوب الأمواج، الصويرة مدينة القلعة البرتغالية (كاستيلو ريال) التي هُدمت لتُبنى من حجارتها قلعة بديلة هي (السّقالة) كما أسوار المدينة بأمر من السلطان محمد بن عبدالله في القرن الثامن عشر لتأمين الثغر البحري من هجمات البرتغاليين والقراصنة؛ هُرع الهردوز إلى قوارب الصيد التقليدية ليرسم عليها رسومات مُعبرة عن صيد السمك في أعالي البحار، يقول: (الفنان مبدع بالضرورة، لذا ينبغي أن يتوافر فيه حِسُّ الابتكار)، لهذا يحدث أن (يقبض) على النار ويرشق بها لوحات صغيرة من خشب في نقش ملتهب بديع التشكيل، لتتزيّن الألواح بنقوش من نار، حكاية الصناديق الخشب التي سُلخت منها الألواح تعود إلى الأم التي كانت تحتفظ بالصناديق من أجل أغراض بيتية، وما إن وقع بصر الفنان عليها حتى طلبها من والدته فوهبتها له. عن تحويل الأشياء إلى عمل تشكيلي يقول: (دورالفنان هو إحياء الأشياء مهما كانت بسيطة)، بدلاً من الموهبة يفضّل الحديث عن قدرات وميول قابلة للصقل والتطوير.
الأم كان لها كبير الأثر على اتجاهه إلى فن التشكيل، في طفولته كان يرقب الوالدة تغزل السجّاد والخيام والنسيج الزموري (منطقة الخميسات جغرافية شاسعة تتمركز على هضبة تحمل اسم زمور، كانت وجهة قبائل زمور الأمازيغية التي استقرت بها منذ قرون)، عن أمه يفصح عبدالحميد عن التالي: (والدتي كان لديها حِس فني ومعرفة بتركيبة الألوان والصباغة)، تعلقت عين الطفل بطقوس غزل النسيج في البيت، تلك الأشكال الهندسية الفِطرية والألوان التي تتزاحم في الخيوط الزاهية، وفي الذاكرة الجدّة النسّاجة الماهرة إذ يقول عنها: (الجدّة تنقلت بين قبائل زمور وزيّان في الثلاثينات، أيّما قبيلة حلّت بها لقيت حفاوة الاستقبال وأكرموا وِفادتها، فهي مبدعة بالفطرة، اكتسبت المهارة والإتقان، كانت أشهر من نار على علم في حياكة الزرابي (السجّاد الأمازيغي وضمنه سجّاد زمور). الهردوز لا يرتوي من تجريب الأشكال بلمسته الذاتية، يميل إلى التجريد حتّى وهو مفتون بكل ما هو أصيل وتُراثي، يصهر الإبداع الفطري (النسيج) في بوتقة مُتخيلة، فيخرج من بين يديه عمل فني يضفي أبعاداً أعمق وأكثر جمالية وفتنة على هذا الأصيل، من يُحركه العشق لن يُبدع إلَّا كل جميل. (عندما تعشق شيئاً تحارب بأي شيء من أجله)؛ يؤكد ذلك بيقين النُساّك، يحدث أن تلتقي الفنان على رصيف مقهى في نهار مشمس، تُبصر على الطاولة (برّاد) شاي مغربي وكتاب (ما هو الفن) لتولستوي في نسخته الفرنسية، الكتب شغف دائم كما التشكيل.
الفنان الأمازيغي خرّيج جامعة السوربون العريقة في باريس، تلقى تكويناً أكاديمياً صقل رؤيته وتقنيات اشتغاله، كما قرأ ويقرأ الكثير عن تاريخ الفن الطويل والشعر والرواية والفلسفة بالفرنسية على الأخص لمرجعيته الفرانكفونية الغالبة على العربية، أكثر ما شدّه وأثّر في مساره بابلو بيكاسو والروسي كاندانسكي عالمياً، أما مغربياً فتأثر بقامتين تشكيليتين يعرفهما الوسط الثقافي في أوروبا تحديداً: الجيلالي الغرباوي والشرقاوي، من رواد الحداثة التشكيلية في المغرب. (الفنان يتأرجح بين الشعور واللاشعور، الفنان أرجوحة بينهما)؛ هذا تعريف الفنان التشكيلي بمنظور عبدالحميد الهردوز المُولع بالبُعد الجمالي الكامن في التفاصيل البسيطة التي تُحيط بنا في حياتنا اليومية ولا نُعيرها انتباهاً في زحمة الروتين، ومن ينقذنا من براثن آلته الطاحنة سِوى مُتنفس التلقي في رحاب الفنون والآداب؟

ذو صلة