مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

الأثر الزمني النفسي في مسرحية بيت الدمية

من بين جميع المخلوقات، يتميز الجنس البشري بإدراكه السيكولوجي لمرور الزمن، بحيث تحول إلى قضية إشكالية وفاتنة شغلت البشر منذ القدم ولا تزال كذلك. ومنذ أيام أرسطو، أثار مفهوم الزمن في المسرح قضايا جدلية عديدة، فهو يستخدم لإضافة لمسة محاكية للواقع بالنسبة لبعض النقاد، لكن بالطبع لا يقتصر المفهوم على المحاكاة بل يتعداها ليأخذ بعداً سيكولوجياً يستخدم لتحليل الاتجاهات والأشكال التطورية في نفسية الشخصية ليتجاوزها ويصل إلى الجمهور أيضاً. وتلتزم مسرحية بيت الدمية لمؤلفها هنريك إبسن بهذه الجوانب التي ذكرناها حيث تستخدم الوقت كمصدر لإضفاء التوتر وكوسيلة للاستقصاء السيكولوجي.
لكن، يقتضي النقاش الابتداء بمقاربة مفهوم الزمان على العموم قبل المباشرة في الحديث حوله من الناحية الدرامية ومن حيث استخداماته في مسرحية إبسن على وجه الاختصاص. هذا ولا تنطبق البداهة النمطية التي تحيط بالزمن على طبيعة هذا المفهوم وإدراكنا له، فمن الحقائق العجيبة، بحسب دان زاكاي Dan Zakay، هو إقرار العلم بعدم امتلاك البشر عضواً مسؤولاً مباشرة عن تحسس الزمن كما تتحسس العين الضوء. لكن لا ينفي ذلك إدراكنا له أو تأثير سيره على حالتنا النفسية وفي حياتنا أيضاً. وكمثال على الحالة الأولى، يؤكد ج.ج. جيمس J.J. James أن مراقبة سير الزمن يزيد مدته في عقل المراقب عن مدته الحقيقية على عقارب الساعة. أما من الناحية الثانية، فوجودنا بحد ذاته قائم على وعينا لمفهوم الزمن، والذي يعتبره مارتن هايدغر Martin Heidegger وعياً مستقبلياً من حيث ارتباط حياة الإنسان بما سيفعله في القادم من الزمان وإن كان هذا الفعل مجرد تحضير كوب من الشاي بعد خمس دقائق من الآن. ويؤكد هايدغر أن الوعي البشري هذا محدود نتيجة معرفتنا الحتمية بوجود نهاية للمستقبل تتمثل بالموت، مما يقود الإنسان عموماً إلى نوع من القلق الوجودي حول محدودية الزمن البشري، بحسب ريتشارد غروس Richard Gross.
وبالانتقال إلى المسرح، يبرز الجانب الفني في استخدام الزمن إلى درجة قد يبدو فيها -ظاهرياً- الجانبان الفلسفي والوجودي منسيان تماماً. وترتبط هذه المقاربة الفنية ارتباطاً وثيقاً بمبدأ أرسطو حول الوحدات الثلاث الدرامية، وهي وحدة الزمان والمكان والحدث الدرامي، لكن ما يقع ضمن اهتمام البحث الحالي هو وحدة الزمان دوناً عن غيرها. ويقدم أرسطو مفهوم وحدة الزمان في كتابه فن الشعر، موصياً أن الطول المناسب لانتقال البطل عبر سلسلة من (المواقف المحتملة أو الحتمية) من حالة السعادة إلى الحزن أو بالعكس (يفي بغرض أن يكون حدّاً لحجم القصة). بناءً عليه، لا يكمن مقصد أرسطو في فرض مدة زمنية محددة على الأعمال المسرحية بل في انبثاقها من داخل العمل نفسه. لكن تحوّلت هذه التوصيات إلى قوالب جامدة مع انتقالها إلى أوروبا في أواخر عصر النهضة، حيثُ تذكر الموسوعة البريطانية Encyclopædia Britannica أنَّ الناقد الإيطالي لودفيكو كاستلفترو Lodovico Castelvetro قد قدّم الوحدات الثلاث للمرة الأولى في معرض تفسيره لأعمال أرسطو في عام 1570، لكنها أخذت قالب القانون الثابت مما وضع الحركة الدرامية تحت قيود وعوائق مضجرة. إذ ضُغطت مدّة الحدث المسرحي، على سبيل المثال، بما لا يتجاوز يوماً واحداً في عمر الشخصيات، بينما أغرق البعض الآخر من النقاد في المبالغة إلى درجة حصر المدّة التي تستغرقها أحداث المسرحية بمدّة العرض المسرحي نفسه، مما يزيد من إحساس المحاكاة والواقعية لدى هؤلاء النقاد بحسب م.ه. أبرامز M.H. Abrams.
وتقودنا الفكرة الأخيرة إلى الارتباط بين نوعين من الزمن في العالم المسرحي وهما: الوقت المسرحي والوقت الدرامي. ويعرّف باتريس بافي Patrice Pavis النوع الأول بكونه الزمن الذي يستغرقه العرض المسرحي في العالم الواقعي لينتهي (يبدأ العرض في التاسعة مساء وينتهي في العاشرة)، أما النوع الثاني فهو مدة الأحداث في عالم المسرحية (يوم أو أسبوع من حياة الشخصيات). ويشير بافي إلى أهمية التفاعل بين هذين الخطين الزمنيين في بناء التجربة المسرحية، حيث يمتزج الزمن المسرحي بما يمثله من حاضر مع الزمن الذي تدور فيه أحداث المسرحية في عين الجمهور إلى درجة قد توصف بالهجانة، وهذا يُسهم في انخراط الجمهور ذهنياً وعاطفياً ضمن التجربة الدرامية، كما يزيد أيضاً من عامل التشويق.
وفيما يخصُّ مسرحية بيت الدمية، تدور الأحداث حول رحلة نورا في التحرر نفسياً من القيود الاجتماعية. وتنقسم المسرحية إلى ثلاثة فصول تتناول ثلاثة أيام من حياة البطلة، فيعرض الفصل الأول حياة نورا الطفولية في كنف زوجها تورفالد والتي سرعان ما تتعرض لخطر الزوال نتيجة تهديد كروغستاد لنورا بكشف عملية تزوير قامت بها للحصول على قرض لعلاج زوجها دونما علمه، في حال طَرَدَهُ هذا الأخير من العمل، وينتهي هذا الفصل برفض الزوج محاولة نورا غير المباشرة للتوسط لصالح كروغستاد. هذا ويعالج الفصل الثاني الحالة النفسية السيئة التي تمرُّ فيها البطلة خصوصاً بعد طرد كروغستاد لينتهي هذا الجزء باتخاذ نورا قراراً بالفرار أو الانتحار. يتفاقم توتر نفسية البطلة في الفصل الثالث بعد اختيارها للانتحار لتبدأ بحساب الساعات المتبقية لها في الحياة، لكنها تعدل عن قرارها بعدما يكتشف الزوج جلية الأمر ويقرعها بمهانة مما يدفعها إلى تركه والرحيل من المنزل.
ويظهر هذا العرض الموجز البنية الزمنية للمسرحية في تحليل حالة البطلة النفسية. إنَّ تقسيم العمل إلى ثلاثة فصول وثلاثة أيام يحوله إلى عمل مرحليٍّ يستعرض فيه كل قسم أو مرحلة حالة نفسية معينة في توجه البطلة لتحقيق ذاتها. ويمكن بذلك وصف مسرحية بيت الدمية بكونها عملية استبطان تخوضها نورا عبر الغرق تدريجياً في مستنقع اليأس وخروجها منه بعد صدمتها من ردّة فعل زوجها تورفالد تجاه تضحيتها. وبالنتيجة، تكتسب نورا من تجربتها رؤية سيكولوجية قادرة على تحليل نفسية زوجها، حيث تدرك، على سبيل المثال، أنانية سلوكه وردود أفعاله حينما تقول: (عندما زالت مخاوفك -فيما يخصك أنت لا فيما يخصني أنا- عادت الأمور إلى نصابها وكأن شيئاً لم يحدث). وبناء عليه، يشير تحول نورا النفسي إلى البناء المرحلي للمسرحية، مما يعكسُ تفكك وحدة الزمن وتحولها من تدفق مستمر إلى فصول تراكمية تنتقل فيها شخصية البطلة من شكل إلى آخر: من شخصية طفولية في أول مرحلة من المسرحية، ثم إلى حالة من اليأس الشديد مع تراكم الأحداث والضغط في المنتصف، لتأخذ طابعاً جديداً ورصيناً في نهايتها. ويتجلى بذلك أثر الزمن على الجانب النفسي خلال مدة منطقية، فكلُّ يوم هو فصل من الاستبطان ومراقبة الوقت.
كما وتتضح المرحلية الزمنية في بنية المسرحية من خلال العلاقة بين تقسيماتها وبين تراكم التوتر. وتعد بيت الدمية عملاً (أوجيّاً) Climactic، من حيث انتهاء كل فصل بعقدة أو بلحظة عصيبة. وهذا يظهر موهبة إبسن العظيمة في استثمار الوقت بغية استثمار عنصر التشويق لدى الجمهور، حيث يختار اللحظة المناسبة لمقاطعة الحدث معتمداً على الفضول البشري في معرفة تتمة الأحداث. تحادث نورا نفسها، على سبيل المثال، عند نهاية الفصل الثاني، أي في منتصف عملية تحولها النفسية، فتقول: (سبع ساعات حتى منتصف الليل. ثم أربع وعشرون ساعة حتى منتصف الليل التالي، عندما تنفض الحفلة. أربع وعشرون وسبع؟ إحدى وثلاثون ساعة هي كل ما بقي لي في الحياة). ويؤدي هذا الأسلوب في اختتام فصول المسرحية عند نقاط أوجيّة إلى امتداد الزمن إلى خارج العالم الدرامي وشخصياته ليؤثر أيضاً على الجمهور نفسياً عبر استغلال عامل الوقت ومروره. إذ يتراكمُ الفضول والقلق والتشويق لدى المشاهدين بسبب تقاطع الوقت المسرحي مع الوقت الدرامي نتيجة توقف سير هذا الأخير لوهلة. وبناءً عليه، تتحول نهايات الفصول في مسرحية بيت الدمية إلى نقاط اختناق يتوقف فيها سير الزمن الدرامي نتيجة تدخل الزمن (الحقيقي) وهذا ما يسلّط الضوء في عين المشاهد على أهمية التأثير الزمني في عرض الأحداث وبنية الحبكة الدرامية، مما يجعل هذه التقنية ذاتية الدلالة نتيجة استخدام التوقف الزمني في إبراز أهمية العامل الزمني على التلقي. ومن هنا، يأتي أحد الأمثلة المهمة على استحالة الفصل بين الوقتين المسرحي والدرامي في بناء التجربة الفنية التمثيلية، فالعرض يكتسب ديناميكيته من تفاعل المتلقي مع العلاقة التي تجمع الزمن الواقعي مع تطور الأحداث الدرامية وسردها.
وفي السياق نفسه، تتجلى من احتساب نورا لعمرها ضمن إطار زمني قصير إشارات واضحة حول الإدراك المستقبلي لمحدودية الزمن البشري والقلق من الموت. لم يعد لنورا من وجود أو كينونة خارج السياق الزمني المحدود، فوجودها البشريُّ يقتصرُ على مجموع الساعات المتبقية من حياتها. إذاً، يتضح أنَّ إدراك البطلة للزمن أصبح مستقبلياً حينما اقتحمَ هاجسُ الموت إدراكها محدودية الزمن المتبقي لوجودها، مما حوّل تركيزها إلى مراقبة مرور الزمن بحيث يختلف إدراكها العقلي لسرعة الزمن عما هي عليه في الواقع. ولا يقتصر هذا العامل على تباطؤ الزمن في ذهن نورا، بل قد يتسارع في نظرها نتيجة قلقها تجاه قصر الزمن المتبقي في حياتها. هذا وينتقل القلق الوجودي الذي تعانيه البطلة إلى الجمهور ضمن مزيج من التشويق والتعاطف بسبب الإدراك الغريزي لدى جميع البشر بمحدودية الزمن المستقبلي في مقابل الموت. لذا، يفترض من الجمهور حينها إدراك أثر الوقت على حياة الشخصية الرئيسة في بيت الدمية عبر مقارنته مع إدراكهم لمرور الزمن في الحياة الواقعية الأمر الذي سيثير الحاضرين لمعرفة الأحداث اللاحقة ويحثهم على البدء بربط الحوادث مع بعضها بغية فهم حالتي نورا العقلية والعاطفية. وهذا ما يعيدنا إلى شكل جديد من الامتزاج بين الوقت المسرحي والوقت الدرامي وإلى جوهر الزمن كعنصر تشويق وتوتر وكعامل أوجيّ في بناء العمل الدرامي.
وفي ضوء النقاش ككل، نتوصل إلى نتيجة مؤداها أنّ الزمن لدى إبسن يلعب دوراً محورياً في تحقيق أكبر قدر من الفاعلية الدرامية عبر استخدم العوامل النفسية والفلسفية. ويثيرُ القلقُ الذي تعيشه نورا حالة من التماهي الغريزي بينها وبين الجمهور، وهذا ما يشير إلى كون التأثير النفسي للزمن على البشر وحياتهم موضوعاً شائعاً في الحياة اليومية. وقد يكون ذلك أحد الأسباب وراء تركيز إبسن على المعاناة التي تعيشها نورا ووراء اهتمام الجمهور بها أيضاً، فمنذ أيام أرسطو والزمن هو عنصر نفسي وتشويقي مهم في المسرح. وبعبارة أخرى، تهدم مسرحية بيت الدمية نمطية وحدة الزمان مقدمة إياه ضمن مراحل متساوقة بحيث لا تهمل الامتزاج الزمني بين الوقت المسرحي ونظيره الدرامي لكن في قالب نفسي يتماهى مع إدراكنا الواقعي للزمن. وعليه، تتمكن بيت الدمية من إدخال الجمهور إلى منظور نورا فتقدم الأحداث لهم من عيونها وإدراكها الزمني.

ذو صلة