مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

ADOLESCENCE هل يمكن الوصــــول إلى نتائج صحيحة بمقدمات خاطئة

تقتحم قوة من الشرطة أحد المنازل للقبض على مشتبه به في جريمة قتل، تكون المفاجأة أن كل هؤلاء الرجال المسلحون بترسانتهم الثقيلة، قد أتوا للقبض على مراهق في الثالثة عشرة من عمره، صبي صغير لا تبدو عليه أي من مظاهر الخطورة، بل إنه بلل سريره حرفياً من الفزع عند مجيء الشرطة، وهكذا نتوقع أن يأخذنا صناع المسلسل المكون من أربع حلقات، في رحلة لمعرفة إن كان الصبي قد ارتكب الجريمة بالفعل أم لا، ولكن بدلاً من ذلك، يُجبرنا المخرج بطريقة تصوير الحلقات، في لقطة واحدة طويلة متصلة بلا أي قطع أو استخدام للمؤثرات البصرية، أن نترك أفكارنا المسبقة جانباً، وأن نستسلم تماماً لتدفق الأحداث السريع والمثير الذي لا يقع أبداً في فخ الملل، لنكتشف حلقة بعد حلقة، أننا لسنا أمام مسلسل جريمة تقليدي، نبحث فيه عن القاتل، أو نتوق لاستكشاف أسرار والتواءات ومفاجآت سردية معتادة، بل إننا أمام واحد من أذكى المسلسلات في السنوات الأخيرة، يحمل رسالة بالغة الأهمية، يجب أن ننصت لها بجدية.
تبدو أحداث النصف الأول من الحلقة الأولى مغرقة في التفاصيل الإجرائية، وهو الشيء الذي فرضه أسلوب التصوير المتواصل، وهو ما قد يدفع المتفرج للتساؤل عن جدوى كل ما يشاهده، وإن كان الإخراج قد قيد الأحداث في تفاصيل فرعية، رغم أنها مطروحة في قالب مشدود وممتع، إلا أنه مع أحداث النصف الثاني من الحلقة، يتضح مركز الثقل الحقيقي، خصوصاً في مشهد استجواب الصغير، حيث تتكشف الحقائق الواحدة تلو الأخرى بثقل مطرقة على رأس المُشاهد، ويبدو الاستجواب مصمماً بعناية فائقة، لنزع الاعتراف من الصبي، عبر إيقاعه في عدد من الفخاخ النفسية، والأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها بحيادية أو صمت، خصوصاً مع تزايد قوة الأدلة، لتكون المفاجأة الصاعقة، أن الشرطة تمتلك بالفعل شريطاً مُسجلاً عليه جريمة القتل، وأن كل الاستجواب كان محاولة لفهم الدافع، وهكذا تنتهي الحلقة بسؤال كبير وكشف كبير وإن كان في حاجة إلى تفسير، الأول هو دافع القتل، والثاني هو أن علاقة الأب بالصبي بها خلل كبير، جعله يبتعد عن الابن عند رؤية الشريط، بدلاً من مواجهته أو لومه أو احتضانه أو حتى تفريغ غضبه عليه، فقط ابتعد عنه كما لو كان يتبرأ منه!
تحاول الحلقة الثانية البحث عن الدافع خلف الجريمة، عندما يتوجه ضابطا التحقيق إلى المدرسة التي بها الصبي القاتل وزميلاه الغامضان، والفتاة المغدورة، وأيضاً ابن أحد الضابطين، وكما حدث في الحلقة الأولى، نستغرق النصف الأول من الحلقة في إجراءات روتينية تتضمن المرور على الصفوف وطلب مساعدة الطلبة، إلى أن يتضح أن ذلك المنهج في الكتابة هو متعمد تماماً، حيث يتركز الثقل الحقيقي للحلقة في النصف الثاني دائماً، حين تتم المواجهات والمكاشفات التي تحل جانباً كبيراً من الأسئلة، في الحلقة الثانية يضطر ابن ضابط التحقيق، إلى شرح الجانب الخفي من القضية لأبيه، الذي يكتشف أن الجريمة لها أبعاد ثقافية لا يعرف عنها أي شيء، يفاجأ الأب أن ابنه يتحدث بلغة لا يفهمها، تبدأ بفك شفرات الرموز التعبيرية على إنستغرام، التي تبدو له مجرد وجوه صفراء، لكنها في عالم المراهقين أدوات تنمّر خفية، تعني السخرية والإقصاء والإهانة، وتُستخدم لإيذاء الآخر دون كلمة واحدة، ومن هنا يُطرح مفهوم الـ(Incel) (اختصار لعبارة Involuntary Celibate، أي العازب القسري) وهو وصف لشباب يشعرون أنهم مرفوضون من النساء، وعاجزون عن خوض علاقات عاطفية، لا لأنهم لا يريدون، بل لأنهم غير مرغوب فيهم، هذا الإحساس يتحول مع الوقت إلى كراهية صامتة، تجاه النساء أولاً، ثم تجاه كل من حولهم، الجريمة هنا ليست انفعالاً لحظياً، بل نتيجة تراكم طويل من الشعور بالدونية، والتنمر، والنبذ، وهو ما يجعلنا نتساءل لماذا يشعر صبي وسيم بكل تلك المشاعر؟
تسعى الحلقة الثالثة للبحث عن إجابة هذا السؤال، من خلال مشهد طويل بين الصبي وبين محللة نفسية مستقلة، انتدبتها المحكمة للتحقق من كون الصبي واع للجريمة التي ارتكبها، لكن على عكس المتوقع، لا تسعى الحلقة لكشف مزيد من تفاصيل الجريمة، بل تتعمد أن تقودنا في اتجاه خاطئ، حيث تُلقي الضوء بشدة على شخصية الأب، وتدفعنا للارتياب فيه، وللاعتقاد أن عنفه هو الدافع الخفي وراء ما فعله الابن، ونظل ندور في هذا الفلك طويلاً، حتى نهاية الحلقة، حيث تأتي المفاجأة المزدوجة، من ناحية، الولد يعترف بالجريمة صراحة، ومن ناحية أخرى، يتضح أن الأب لم يكن عنيفاً، بل هو خجل من ابنه فقط، خجل عميق وصامت، كأن حضور الابن في حياته عبء لا يستطيع تحمّله، وهنا تتضح المأساة في أن ما حطّم نفسية الطفل لم يكن الضرب، بل ذلك الشعور القاتل بأنه مصدر خزي، وأنه غير محبوب، الولد نفسه يصف مشاعره بوضوح، يقول إنه قبيح، لا يملك فرصة حقيقية في أي علاقة، وحتى عندما حاول الاقتراب من الفتاة التي كانت منبوذة من الجميع، في لحظة ضعفها، استعلَت عليه، فازداد إحساسه بالرفض، واشتعل داخله كل بذور العنف التي تراكمت بصمت على مدار سنوات، وهي النتيجة التي أكدت خاتمة الحلقة الأولى، وأصبح من الضروري فهـم علاقـة الأب بابنــه بشكـل أعمــــق، وفهـم ديناميكيات الأسرة التي نشأ فيها صبي يملك كل تلك المرارة تجـــاه العالــــم، والخزي تجاه نفسه.
ولـذلك كـان مــن المنطقي أن تدور الحلقة الرابعة بالكامل، لا على الجريمة التي تأكدت، ولا عن دوافعها التي فُهمت، ولكن عن الأسرة التي تبدو متحابة ومترابطة، ومع ذلك سمحت بخروج قاتل من بينها، تبدأ الحلقة باكتشاف الأسرة أن أحد المشاكسين قد كتب كلمة بذيئة على سيارة الأب، الذي يحتفل بهدوء مع أسرته بعيد ميلاده، حيث تقع الأحداث بعد مرور 13 شهراً من اعتقال الابن، وتكيف الأسرة (نسبياً) مع تواجد ابنهم محجوزاً في إحدى دور الرعاية الخاصة تمهيداً لتقديمه إلى المحاكمة بعد شهر، تدور أحداث النصف الأول من الحلقة حول محاولة مسح تلك الكلمة من سيارة الأب، بالماء والصابون أولاً، ثم بالذهاب إلى شراء طلاء جديد ثانياً، وطوال النصف الأول يبدو كل شيء على ما يرام، الأسرة متحابة بالفعل، علاقة الزوجين بها قدر كبير من التفاهم، وربما زاد من الكيماء بين الممثلين أنهما زوجان في الحياة الحقيقية، الأب بعيد كلياً عن العنف، رغم ميلنا الشديد كمتفرجين في رؤية حقيقته كرجل عنيف، لأن ذلك التفسير هو ما سوف يجعل كل شيء منطقياً، ولكن الجميع متعاون ومتفاهم فأين المشكلة؟
يبدأ كل شيء بالتصدع عندما ينفرد بائع الطلاء بالأب، ويخبره أن يدعم موقف ابنه في القضية، ليكتشف الأب أن حتى بعد مرور أكثر من عام، سوف يظل ملاحقاً من المتطفلين على حياته، يتوج شعور الغضب عندما يعثر على الصبية الذين شوهوا سيارته وأفسدوا عيد ميلاده، ينهرهم بشدة، ويلقي السيارة بالطلاء بغضب، ومع ذلك لا يبدو عليه ذرة غضب واحدة تجاه أسرته، بل على العكس يعاملهم بمنتهى الحرص والرقة في أوج غضبه، إلى أن تأتي مكالمة الابن لتعصف بكيان الجميع، حيث يخبرهم أنه أخيراً قرر الاعتراف بالذنب في موعد المحاكمة القادم، نازعاً من الأسرة آخر حصون الإنكار والاختباء مما حدث.
تتمثل مكاشفة الزوجين في نهاية الحلقة، ذروة المسلسل بأكمله وثقله العاطفي والفكري، فالجزء العاطفي يتعامل مع الشعور بالذنب والندم، ومساءلة كونهما لم يكونا أبوين جيدين، وهو ما يقوده الممثلان ببراعة واقتدار، معبرين عن حجم خيبة الأمل في نفسيهما، أما الجانب الفكري وهو التيمة الرئيسة للمسلسل بأكمله، والرسالة الأهم فيه، والتي تقول إن الإساءة الأبوية ليست مقترنة فقط بالعنف، بل هي مقترنة أيضاً بالإهمال، العنف والإهمال كلاهما وجهان لعملة واحدة، فالأب الذي تربى على العنف في منزل والده، قرر ألا يكرر الخطأ، وظن أنه طالما لا يعنف ابنه فهو في المنطقة الآمنة، ولكن مكاشفة الذات بحقيقة أنه أهمله بسبب انشغاله في العمل طوال الوقت، وأنه عندما فشل في دعمه في الأنشطة الرياضية، وفشل في صد التنمر والسخرية تجاهه، بل شعر بالخجل منه، وجد في الكومبيوتر ووسائل الترفيه المنزلية الحل الأمثل، فالولد يجلس بأمان في المنزل طول الوقت، لا يتعرض لأذى في الخارج، ولا يتعاطى أية ممنوعات، ولكن ما فات على الأبوين، هو أن ابنهما منعزل في غرفته، يشعر بالوحدة والخزي وأنه قبيح وأن لا فرصة لديه في أن يقع في الحب، وهو ما يضعنا أمام تعريف جديد للإساءة، لم يعد مقصوراً على الأذى الجسدي أو اللفظي، بل امتد ليشمل الغياب العاطفي، والتجاهل اليومي، والافتراض القاتل أن (الابن بخير طالما لا يشتكي)، الإهمال هنا لم يكن مجرد تقصير، بل فعل مستمر من الانسحاب، من عدم الرؤية، من تجاهل الإشارات الصغيرة التي صرخ بها الطفل دون صوت. الولد لم يكن يحتاج إلى حماية من العالم الخارجي، بل من الفراغ الداخلي الذي نما بداخله لسنوات، لم يكن يبحث عن أب خارق، بل عن صديق يشاركه اللعب والحديث ولحظات الإحباط والفشل، وأول محاولة حب، وهو ما فهمه ضابط التحقيق متأخراً، عندما بدأ ينظر إلى ابنه بنظرة مختلفة، واكتشف أن التواصل لا يحتاج إلى صراخ أو نصائح أو توجيه، بل إلى حضور بسيط وصادق، ولذلك بعد أن كان في بداية الحلقة الأولى يتعامل مع ابنه وكأنه عبء منزلي تتولاه الأم، ينقلب الأمر تماماً في الحلقة الثانية، حين يقرر أن يصحح المسار، ويبدأ في مصاحبته، ويأخذه إلى الغداء، في محاولة لاستعادة ما فات، تلك اللمسة البسيطة، وجبة يتناولها الأب مع ابنه خارج البيت، تحوي في طياتها اعترافاً صامتاً بكل ما لم يُقل، ويذكّرنا أن أول خطوة في الطريق الصحيح هي الاعتراف، ليس فقط باعتراف الابن بذنبه، ولكن باعتراف الآباء بأخطائهم.
في الختام، تتسم العلاقة الفنية بين المؤلف والممثل (ستيفن غراهام) والمخرج (فيليب بارانتيني) بشراكة ناجحة على الشاشة، فكل منهما يستكمل الآخر، غراهام يقدّم سرداً اجتماعياً حساساً مع عمق الشخصيات، بينما بارانتيني يُلبس القصة لباساً بصرياً واحداً بلا انقطاع، يُذكّرنا بتجربتهم المشتركة في فيلم (Boiling Point) الذي شكّل تجربة تصوير متواصل لأول مرة لبارانتيني وغراهام، وكان الجسر الذي أوصلهما إلى Adolescence، العمل السابق لم يكن مجرد تجربة تقنية، لكن كان أسلوبهما الدرامي للبناء على أصعب لحظات الأزمة، تماماً كما نرى الآن، حين تم تصوير كل حلقة من حلقات المسلسل الأربع بأسلوب التصوير المتواصل، حيث جعلانا نولي للعمل الانتباه اللازم، ونستسلم لتدفق السرد في انتظار ما يريد العمل أن يقوله دون توقعات مسبقة.

ذو صلة