مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

فيلم (وداعاً جوليا) خفايا المشهد السياسي

منذ البدء وفي المشهد الأول لفيلم (وداعاً جوليا) يقحمنا مؤلف العمل ومخرجه السوداني «محمد كردفان» في قلب الحدث الدامي بإعلان للتلفزيون عن مصرع (جون قرنق) السياسي الذي قاد الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان مدة طويلة وما تلاها من ردود فعل الجمهور حيال الحدث والفوضى التي خلفها الحدث غير المتوقع الذي كان الإطار الذي رسمه لحركة أبطاله وعلاقاتهم ببعضهم البعض وتفجر الممارسات العنفية إثر ذلك.
فالجو العام وحالة الشغب وردود الأفعال التي أعقبت مصرع قرنق خلق وضعاً من التوتر والعصبية بين فئات الشعب في شقي البلاد بين شماله وجنوبه، ومن خلاله تم تسليط الضوء على عينة من المجتمع في حياة أسرة من الشمال، إذ يتجهز الزوج أكرم (نزار جمعة) ببندقية لحماية بيته وأسرته بدعم من جاره، وفي هذه الأثناء كانت زوجته منى (إيمان يوسف) تسعى لحضور حفلة موسيقية بالخفاء عن زوجها لأنها ممنوعة منذ زواجها من الغناء والنشاطات الموسيقية، بتورية لجو التسلط الذكوري والكبت في هذه البيئة، وأثناء عودتها تلاحظ الجو غير الطبيعي بالشوارع دون أن تعي ما يحصل حولها، ولشدة ارتباكها تصدم طفلاً في طريق العودة وتهرب بدلاً من إنقاذه، الأمر الذي يستفز أبو الولد ويدفعه للقيام بملاحقتها ليسألها لم لم تتوقف وتنقذ الولد ولكن رعبها حال دون معرفتها بما يريد منها وتصل إلى دارها مفزوعة يحملها خوفان أولهما ما جرى للولد والثاني خوفها أن يعرف زوجها أين كانت، في هذا المشهد يقوم زوجها المشحون ضد أهل الجنوب بإطلاق النار على الأب الذي يطارد الزوجة ويرديه قتيلاً، وتعتبر الشرطة -المتواطئة مع الزوج- ذلك دفاعاً عن النفس، ويطوى الموضوع وكأنه لم يكن وتخفى جميع آثاره، لكن المغدور لديه زوجة جوليا (سيران رياك) وطفل يحبانه وينتظران رجوعه.
تعاني الزوجة منى من ازدواجية في الشخصية فهي ترضخ لكل ما يطلبه الزوج منها رغم عدم قناعتها مما يضطرها للكذب في العديد من الأمور الصغيرة مثل إنكارها قلي البيض الذي حرقته كما تعاني تبكيت الضمير لتسببها بحرمان هذه الأسرة من معيلها وتحاول تعويضهم بأن تشغل زوجة القتيل الشابة (جوليا) عندها كمساعدة منزلية وتؤمن لها سكناً وتلحق ابنها (داني) بالمدرسة وتشجعها على إتمام تعليمها وتقوم بمساعدتها على إكمال دراستها، لتنكشف الأمور جميعها في نهاية العمل بحوارية جارحة تتهمها جوليا بأن كل ذلك، كل ما قدمته لها ليس خيراً لذاته وإنما رشوة اضطرت لقبولها ثمنها مقتل الزوج ويتم الولد ويا له من ثمن!
يلقي الفيلم الأضواء على قضايا مجتمعية متداخلة مع المشاكل السياسية السائدة وأولها الاستعلاء والعنصرية بين مجتمعي الشمال والجنوب، الشماليون بشرتهم أفتح من الجنوبيين لذا تراهم ينعتونهم بالعبيد بأكثر من منعطف بالفيلم، وحتى الزوجة مع كل تعاطفها مع الأسرة الجنوبية نراها وقد لونت الصحون والفناجين التي يستخدمونها بلون مفارق كي لا يتشاركوا بها مع أسرتها.
والأمر الثاني الشرخ داخل الأسرة الشمالية ذاتها، وقد رمز لها بالماء الذي يتسرب من شقوق الجدران لتسرب المحبة والانسجام نتيجة اغتراب الشخصية عن واقعها رغم الملاءة المالية التي تعيش بها، فالزوجة منى تعيش فصاماً روحياً مع زوجها الذي يفرض أسلوبه بالحياة ويمنعها عن الغناء الذي يتضح أنها ذات صوت بديع وإمكانيات فنية عالية، كما يفتش وراءها عن مدى التزامها بما يريد، كما يمنعها من التواصل مع أصحابها الموسيقيين، مما يضطرها للكذب ولكن هذه الكذبة تكبر وتتطور وتخلق مسافة بين الاثنين تنتهي بالانفصال بينهما، وما رمزية عدم الإنجاب بهذه الأسرة إلا إشارة لفكرة انقطاع المرء عن ذاته الحقيقية قابلها انقطاع الطمث المبكر لدى الزوجة منى، وأن هذه البيئة المغتربة عن ذاتها لا يمكن لها أن تستمد الخصوبة ولا يمكنها أن تستمر، فهي بيئة عقيمة، ليأتي الحدث السياسي القاسي بالتصويت لانفصال الجنوب عن الشمال، مؤكداً على دور المشاكل الداخلية في الوصول لهذا الواقع، برز ذلك برفض جوليا للأمر بقولها إننا نستطيع العيش سوياً ولم الانفصال، رغم دور عاشقها المتيم بها الجنوبي ماجيرو (غير دويني) بتبني هذا المشروع، مشروع الانفصال فالقصة ليست بقدرة الشعوب على التعايش والانسجام وإنما ما تخفيه الأزمات الاجتماعية الأخرى من مشاكل داخلية تتعلق بالحقوق والامتيازات لفئة دون أخرى وللتفاوت الطبقي وفوقها كلها تتربع العنصرية البغيضة التي تسيء لقضية الإنسان كائناً من كان وأينما كان.
ودائماً النساء ضحايا الحروب فكل شخصية بالعمل تحمل جزءاً من المنطق ويتنامى تطور الشخصية بالتدريج بفعل العلاقة المشتركة، إذ إن الشعارات الكبيرة حول وحدة السودان تخفي تحتها عنصرية واستعباد وتصاعد مشكلة فرض أحكام الشريعة على من هم غير مسلمين بالأصل لصالح الشمال السوداني، وهذا لا يلغي أهمية الفكرة، فكرة توحيد السودان مع الاعتراف بحقوق الجميع بالعيش المشترك الآمن دون انتقاص من عقائده وشعائره بتوضيحه لآراء البعض في أسباب رفضها مهيباً بالعدالة وتساوي الفرص والحقوق وقبول الآخر.
لتكون خاتمة الفيلم باتكاء الزوجة منى على كتف صديقتها جوليا رغم شدة الخلاف بينهما بعد كشف وانجلاء الحقيقة ليكون إعلاء الثقافة والفن رسالة الفيلم طريقاً للغفران والمصالحة بين أبناء الشعب الواحد وخياراً أكثر قيمة وملاءمة مقابل الحرب والعنف في ترجيع متناوب بين الحدث السياسي وواقع السودان الاجتماعي والعنصرية والتجزئة التي فتكت به.
البطولة النسائية التي حملت الحوار البالغ الدلالة بين (منى وجوليا) كانت رافعة للعمل وواجهته إذا لم نقل مقولته الفكرية التي يود إيصالها للمشاهد، وأظهرت من خلاله درامية وعمق المشاكل المؤرقة للواقع السوداني ضمن شفافية الموسيقى الهادئة المرافقة، وقد عكست كاميرا الفيلم الجو الكئيب للمنزل الشمالي بالألوان الكابية شبه المظلمة المخيمة عليه، وبالمقابل صورت واقع البؤس الطبقي للفئات الجنوبية مما جعل العدسة المتجولة تشرح وتبين عبر تجسيد بالصورة لواقعها البائس.
(وداعاً جوليا) الفيلم الذي تم إنتاجه عام 2023 وحصد أكثر من أربع وعشرين جائزة عربية ودولية على غرار جائزة الحرية في مهرجان كان في مسابقة (نظرة ما)، وجائزة أحسن فيلم في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في مصر، وكذلك في مهرجان بغداد السينمائي في العراق. والجائزة الكبرى لأفضل فيلم روائي طويل في الدورة السابعة والعشرين من مهرجان (سونوما) السينمائي الدولي في كاليفورنيا، وجائزة أفضل فيلم أفريقي في جائزة سبتيموس، وجائزة روجر إيبرت في مهرجان شيكاغو الدولي للسينما، وجائزة السينما من أجل الإنسانية.
ولا غريب في ذلك فـ(فيلم وداعاً جوليا) فيلم جريء منحاز للعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر عبر خيط إنساني شفاف جعل الفن والمحبة حاضنة وبوابة لانطلاق أي فعل إيجابي مثمر لصالح البلاد.

ذو صلة