جئت إلى الدنيا ملطخاً بقماش يقطر منه دم المشيمة. بلهفة انتزعتني جدتي (شامورامات) التي كانوا ينادونها بابنة اللبن، فهي من أنجبت عشرة ذكور، وأرضعت معهم ذكوراً آخرين صاروا يحكمون المعبد، ويشرّعون فيه الأحكام، مطلقين على أنفسهم لقب المخلصين، وذلك بعد خيانة بعض الكهنة متخفين بأفعالهم تحت يد عبيد سيقوا لخدمتهم من سبي ظفروا به بعد معارك طاحنة في جبال زاكروس البعيدة. ما إن أطلقت صرختي الأولى حتى أصبحت من المخلصين، بيديها الضخمتين حملتني جدتي وقبلتني وضرسها الذهبي يلمع في عيني. لفّتني في لفافة كانت تعتمر رأسها الضخم، ظناً منها أنها ستجلب لها الحظ، وأي سلطة تسعى إليها وقد بلغت المئة من عمرها! لا بأس، فقد استطاعت تلك العجوز بسط هيبتها على أركان القصر وأطراف المدينة بأسرها، ويكفيها فخراً أن دُوّن اسمها في رقم طيني توسَّط غلات القمح التي وزعتها على الفقراء يوم ولادتي. هل أنا مخلص في نظرها؟ لا أدري! أم مجرد مخلص سينضم إلى فريق الكهنة يوماً ما! من المبكر طرح مثل هذا السؤال، فأنا في حضن أمي الآن أبكي وأصرخ، وأملأ قاعة القصر بالنساء المتلهفات لرؤيتي. لا تحاول تهدئتي ولا حتى النظر في عيني، كانت تعيش لحظة اللامبالاة وحسب، تصرخ في وجه أبي الذي كان يعيرها ببناتها التسع: (ولد! خذه وسمّه وافرح به، ولد سمين، مشرب بحمرة، ذو شعر كثيف، ويتبول جيداً). امتدت يده من تحت اللفافة، وأحسست بضغطة أصابعه على خصيتي. ابتسم ورقصت في عينيه دمعة لامعة، وما إن أشرقت شمس أول يوم في تموز، حتى ضج المعبد بالتراتيل، وامتلأ بالنذور التي كانت تحملها الثيران المزينة بقراريط الذهب ورائحة روثها تمتزج بالبخور. دارت كؤوس شراب الشعير، وثمل الجميع بما فيهم الجواري، فيما رشّ الخدم قصيرو الهامة أرض المعبد بالقمح تفاؤلاً بي، أول مولود ذكر يولد لأبي.
جاهز لحياة أخرى إذاً، هكذا وجدتني في رأس شاب يلمع كلما فيه، يدعى (بشر بن النعمان النجدي)، لا يشبه أقرانه، فقد كان يفرك رأسه كثيراً، ويسرح بفكره طويلاً، ويقضي معظم وقته في السباحة في دجلة، دون أن يجرب يوماً أن يصطاد سمكة أو ينقل العابرين للضفة الأخرى. لا يهم، فبسبب فطنته اللافتة تقلد ديوان الضياع والنفقات في سامراء تسعة أشهر، حاول من خلالها إثبات نفسه من خلال كشف ألاعيب التجار، إلا أن الوشاة أوقعوا بينه وبين الخليفة ونفقات دولته التي كانت محط اهتمام شديد مما آيس في نفسه موقف الخليفة من تحقيق حلمه الذي تغرَّب من أجله، فقرر أن يسافر إلى بلاد بعيدة تدعى بلاد السند. تاركاً خلفه بيتاً طينياً ينام على ضفاف نهر عيسى الرقراق، وأم ضريرة ترعاها أخته الوحيدة حسناء. وصل إلى البصرة متنكراً في زي بائع للبسط الملونة، ملتزماً بوصية أمه. كان يوماً عاصفاً وممطراً، تكاد الريح تقتلع رؤوس النخيل، وسقوف البيوت الطينية. لكنها بالتأكيد أخذت ببسطه ونشرتها في الهواء. طارت روحه نحوها فتعثر أمامي، فما كان مني إلا أن خلعت جلباب الصوف الذي أرتديه ليدخل فيه ذراعيه، وهو يشم في أكمامي رائحة أشجار صنوبر محملة بندف ثلج لم تذب منذ آلاف السنين. سأل نفسه: كيف كان يتدفأ السومريون يا ترى؟ كيف تحدوا قساوة الطبيعة وحاكت نساؤهم مثل هذا الملابس الخشنة؟ ألم يكن فيهم فتاة كسولة كحسناء؟ تكتفي برش الماء على جسد أمي مرة كل عشرة أيام! فجأة أطلق ضحكة قوية وهو يتذكر وجه حسناء ذات الأنف الكبير، بهستيريا ضحك من كل شيء، غير آبه بتحذيري من السقوط من حافة رصيف الميناء، لكنه سرعان ما سكت عن جنونه حين اصطدم به المسافرون الذين كانوا يركضون في اتجاه واحد، وقد حموا رؤوسهم بجريد النخيل. لم أكن أعلم بأن البصرة قد تصاب يوماً بالشتاء. فقد كانت معظم أيامي أنامها في سطح البيت وجدتي لا تمل من تكرار قصة الطوفان حتى نتبلل وننام. ها هو بشر يركب مركباً ضخماً يملكه تاجر يتفجر الدم من وجنتيه، لكنه قبيح الوجه، ذو ساق واحدة، يدعى الحاج نعيم حسون. تاجر جشع لا يذوق الراحة، يعبد الدرهم ولا يعرف الرحمة، يشتري الأطفال والعبيد من السند والسودان، ويبيعهم في الحجاز والشام، وصولاً لبلاد الترك. العبيد والذهب والتوابل عملات تتساوى لديه، لكن رأفة ربما طالته حين وصله خبر العباسي ورغبته في السفر إلى بلاد بعيدة يستطيع من خلالها نشر فكرته التي رفضها الخليفة وهدده بالقتل لو سعى إليها! كان يحلم فقط بأن ينشئ متحفاً في بغداد إلى جانب بيت الحكمة، بعد أن وقع في يده مخطوط عثر عليه داخل كتاب لعالم الحيوان استعاره من الكُتبي المعروف بـ(يحيى السامرائي) الذي كان ينسخ مخطوطات تركية ويترجمها. كتبه شاعر مغمور ذيَّل اسمه آخر كتابه بـ(منذر بن محمد)، يبدو أنه كتبه في عهد الإمام علي، بدليل خاتم التاريخ واسم المكان. لقد كان استثناء في عصر لم يعرف منه الاهتمام بالآثار القديمة. فقد جاء في المخطوطة قصة ابنة آخر ملوك بابل (نبونيد) الذي رحل إلى تيماء في الجزيرة العربية، وبقي بها حتى جلب علماء من بابل ليؤسس أكاديمية لاهوتية، أثمرت بعدها أفكاراً تراكمية لدين جديد جاء بعد آلاف السنين. ابنة نبونيد كانت نحاتة في الأصل، وتمتهن بشغف تلك الحرفة، تحفر بنفسها في أساسات المعابد السومرية في بابل ومحيطها. وتخرج بقايا التماثيل والتمائم المحفورة في رقم الطين، حيث كانت تجيد فك رموز اللغة السومرية بمساعدة بعض الكهنة الذين قاموا بترجمة تلك التمائم. عرضتها بشكل لافت، قصةً مشوقة في معرض عام، لأول متحف عرفته البشرية، الأمر الذي رفض تصديقه الرشيد باعتبار أن ما وصل إليه من العصور القديمة هو ما قرأه في الكتب السماوية عن بابل فقط، المدينة التي خربت بسبب فسادها الديني، لا عن خزعبلات وحفريات كما يدعي بشر ومخطوطته حسب رأيه.
بعد رحلة بعيدة ترسو سفينة حسون في خليج البصرة وهي منهكة، وقد بدأت تتقشع ألوان ما كان مرسوماً عليها من فيلة ونمور ملونة وثعابين، إلى جانبهن جوارٍ يرقصن كاشفات عن بطونهن السمر، يلتوين في شكل مثير حول شعل النار الضخمة. يسمونها سفينة الأحلام وفي قيدومها يبرز جسد حورية منحوتة بشكل عجيب وذات ألوان باهتة. هكذا وصفها له صديقه (الفضل بن محمد) أمين أسراره والطامع في وصل أخته حسناء. حمل متاعه في صرة وهرب متخفياً من عيون العسس التي نشرت بشكل ملفت صبيحة وفاة الخليفة موسى الهادي يوم الجمعة الخامس عشر من ربيع الأوَّل عام 170هـ، اليوم الذي ولد فيه المأمُون للخليفة الجديد هارون الرشيد من جارية تدعى (مراجل)، رآها وهي تطبخ بعد أن تأخر حمل زبيدة، فوقعت في نفسه وحملت منه من ليلتها تلك، حتى سميت بليلة الخُلفاء، لكونه مات خليفة، وحكم خليفة، ووُلد خليفة.
ما إن وصلت سفينة الأحلام إلى السند حتى تبخرت أحلام بشر الذي أثار الصوف حساسية شديدة في جلده، فانتزع جلبابي، واتجه فوراً ليخدم في قصر أحد الأثرياء، ظاناً بأنه سيغدق عليه المال بمجرد أن يقتنع بفكرته حسب ما وصلته من أخباره، إذ يشاع عنه بأنه يؤيد الأفكار الخلّاقة. لكن أجواء القصر خيبت ظنونه دفعة واحدة، بعدما هاله إهمال الأشجار وعدم تشذيبها، فالحديقة سبخاء، ولا تكاد طيور تسكن أوكارها. رائحة الطعام الدسم تنتشر في ممرات القصر وتلتصق بالثياب، دبق وحيطان ملطخة. لا شيء يمت بصلة للحياة الحقيقية أو الخالدة، هكذا تخيل عن قصره المزعوم، لا أسود تزين القاعات الضخمة، ولا نافورات تصدر صوت الماء الرقيق، ولا حتى جوارٍ حسناوات يخطفن البصر. الحمام يلقي بفضلاته في النوافذ ويملؤها بالريش. هو يطير ببصره فلا يخطفه غير الزخام. يسأل نفسه: أين الليث الضرغام؟ الملك الهمام؟ أين حامي النور من الظلام؟ لا أحد يجيبه، حتى أنا كنت منشغلاً بالنظر في صور غريبة لا تشبهنا، الوجوه التي تنظر إليه عابسة، طارت بمجرد أن نفخ فيها. كانت أرواحاً من غبار، حزينة وشاحبة ونادمة، فالليث نفسه يغط في نوم عميق، وخدم القصر لم يستلموا منه راتباً منذ ستة أشهر. استسلم بشر أيضاً وغط في نوم عميق تحت سلم منزوع رخامه. بعدما ابتلع سمكة مشوية اقتسمها مع طفل يبدو أنه أحد أبناء خادمة تسمرت أمامه، وهي تدمن النظر إليه. شرب رطلاً من عصير عنب اختمر بمفعول الرطوبة الخانقة، ثم علا شخيره. ابتسمت نصف ابتسامة، ثم مشيت في نزهة قصيرة، أخذتني وكأنها شريط تتقطع عليه الحياة، الشريط الذي جر أقدام بشر، ممسكاً بيد طفلة بدينة تلتقط رزقها من بيع العلكة، عبر معها الشارع بسرعة وكأنه يهرب من قدره مع الرشيد، ومع الليث الهمام، ليجد نفسه أمام مقهى قديم، وأخ الطفلة يبتسم لها، وهو يحمل صندوقاً خشبياً، يلمّع أحذية المارين والمتقاعدين الرابضين في المقهى. تبعهما فوجد أنهما انحرفا حتى الباب الشرقي وسط بغداد، ثم صعدا لغرفة قذرة لا تختلف كثيراً عن الصورة التي رآها في السند. تراجع للوراء ليجد نفسه يقف في طابور طويل ليستلم راتب والده التقاعدي الذي مات في حرب الخليج الأولى، ثم لحقت به أمه وحسناء بعد سقوط صاروخ أمريكي وهما تتجولان في أسواق الشوَّاكة. اشتهيت أن أتذوق إصبعاً كان يدخنه، فناولني واحدة وأشعلها في رأسي فكتبت له قصة غريبة ليتقدم بها إلى جائزة الرشيد الأخيرة، ويتنازل عن فكرة المتحف. وبالفعل نجح بشر في المسابقة، ونشر اسمه في جريدة الجمهورية، فما كان مني إلّا أن أقطع تذكرتين إلى بغداد لأحتفل معه بعد رحلتي المضنية إلى السند. إلا إنه طلب مني التوقف في مقبرة وادي السلام في النجف، شاهدت اسمه منقوشاً على شواهد القبور، ولكن بتواريخ مختلفة. حكى لي فيما بعد بأن:
بشر بن النعمان النجدي المتوفى عام 1831 سهر ليالي عدة وهو يفكر بحكاية يكتبها. دارت أحداثها في تلة عنتر ابن التاجر الموصلي الذي كان يعمل في تجارة الخيول التي باع عدداً منها إلى الجيش العثماني، حينها لم تكن خزينة ولاية الموصل تكفي لتسديد ثمنها فأعطوه صك صرف من ولاية بغداد، فأرسل التاجر ابنه (عنتر) إلى بغداد، وفي طريق عودته مر بالتلة القريبة من المقبرة وخيم هناك لقرب حلول الليل. كانت بغداد حينذاك تعاني من القحط والمجاعة. وفي الصباح الباكر شاهد مدى العوز والجوع، فقام بشراء الطحين والتمر والزيت ووزعها على الناس. على التلة التي أقام خيمته فيها كان يلقي بصره إلى الأعظمية ومآذنها، دون أن يلتفت لدعوات الشاكرين له والذين أطلقوا على المكان (تلة عنتر)، لم يمهل الطاعون بشر، تعفن في أيام قليلة فالتحق بعائلته. إلا أن سائحاً مجرياً، وبعد مرور مئتي عام، مرر أصابعه من خلف شاشة ضوئية ليقرأ قصة مترجمة من العربية تحكي عن عنتر الموصلي، وموقعة باسم بشر. ليبتسم ساخراً من انقطاعات الموت بينهما. ومن غبن الزمن لمشاعر لم تمت بموت أصحابها! حتى لو كان بشر من الذين اغتسلوا وكفنوا أنفسهم واستسلموا للموت في فرشهم الباردة.
الشاهدة الأخرى كانت لبشر بن النعمان النجدي المتوفى عام 1987، مات إعداماً بسبب وشاية صديق كان يدرس معه في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وقد رُسمت مؤخراً على شاهدته أبيات للجواهري:
في ذمَّة الله ما ألقَى وما أجدُ
أهذه صَخرةٌ أمْ هذه كبدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقدوا؟
هناك لمحت امرأة خمسينية مكسورة الظهر رغم قوامها اللافت، عيناها شاحبتان وكأنها جفت من البكاء، لكن ثمة جمال يطفر من مبسمها الحزين. تزوره على ما يبدو كل يوم، هذا ما رأيته لمدة ثلاثة أيام على التوالي، قبل أن أغادر رأس صديقي العباسي! لم يتردد في خلدي أن تكون هي زوجة الفنان التشكيلي بشر الذي فطن لقرب موته فكان يكتب لها باستمرار من خنادق المعارك في الناصرية قبل أن ينتقل إلى الفرقة العاشرة المدرعة في السماوة، ومنها إلى سجن نقرة السلمان -النهاية المأساوية لأغلب المعتقلين الشيوعيين.
كنت أختلس النظر إليها متعجباً من صبرها، وهي ترش الماء على حشائش يابسة لا تنهض فيها الروح ثم تغادر.
أما أنا فعدت أدراجي لألحق بجنازته مطأطئاً رأسي، تمتمت ببعض الصلوات غير مكترث بحمل النعش على كتفي. كنت أفكر فقط في العراقي وقداسة أرضه، عن مولده وحياته المتجذرة في دمي. عن أوّل هواء ملأ رئتيه فراح يصيد الغزلان والوحوش، عن أوّل شعاع شمس أحرق سواعده، عن الركض خلف الأحلام، وصرت أحث خطاي، وعن أوّل ماء سقى كل هذا السواد. كنت أبحث عن أوّل الحب كيف يعاش ثم يموت هكذا كما تدهس خنفسانة تحت قدميك!
ها أنا أجلس على تلة بعيدة تطل على بغداد، لا أبكي ولا أصرخ، ولكنني أبتلع غصة كبيرة.