يتميز المكان في الفعل القصصي بوصفه الحيز أو الفضاء الثابت أو المتغير، الذي ينطلق فيه هذا الفعل من خلال إدراك أبعاده وتأثيرها في صناعة الحدث، ومن خلال العلاقة التبادلية التي يكون فيها المكان متعانقاً مع فترات زمنية تتراوح بين استحضار الماضي وتجسيد وتصوير الحاضر، وقد تسهم في استشراف المستقبل بكل ما تستند إليه من مقومات وإحداثيات، فالمكان هندسياً هو المستوى الأفقي الذي يتحرك عليه الفعل/ الحدث القصصي، ويتقاطع مع الزمان الذي يمثل المستوى الرأسي الذي ينمو من خلاله الحدث.
وفي قصص (نجيب محفوظ) يفرض المكان وجوده عبر نماذج متعددة أثيرة تمددت في أعماله من الحارة إلى الشارع إلى الميدان، تمثل فضاء واسعاً ورحباً وشاملاً، كما تتوغل في المكان المحدود المغلق على أسراره وعلى إحداثيات وجوده، وعلى ظرفية حالة تتسق مع حقب زمنية مختلفة عاصرها وعايشها بحسه الفلسفي المؤثر، ذلك التساوق المثير لجدل حكاية تتعدى معناها اللفظي والمحكي إلى أغوار فلسفية ومعادلات قابلة للتأويل والتفسير لما لها من عمق ويسر، وذلك عبر ثلاثة نماذج قصصية تنتمي بشكل كبير إلى النوع الثاني المغلق من المكان المتقوقع على أسراره وسحريته، هي: (خمارة القط الأسود)، (تحت المظلة)، (الظلام) حيث تتصاعد وتيرة سطوة المكان وترتقي حالة من التكامل تميز هذا الواقع الموازي ورؤيته المغايرة إبداعياً.
ففي (خمارة القط الأسود) يتآلف الحس الجمعي لشخوص النص المتوحدين في ضمير المتكلم بصيغة الجمع يتحرك به النص كتيمة أساسية وتقنية بناء درامي ولغوي يشمل فعالياته، فالمسرود عنه هنا هو المجموع وليس الفرد، اللهم إلا في شذرات قليلة على أساس هذه الوحدة أو محاولة التوحد الظاهري، الذي يلتقط الهم العام ويسقطه على هذه الثلة من (المغيبين) في خمَّارة الحياة، فالبداية دالة، موحية بالانسجام، وإن قلنا إنه ربما كان ظاهرياً، أو إمعاناً في الالتصاق بالهم بالاستغراق في الغيبوبة، بمشهد افتتاحي يعبر عن اندماج المجموعة في أغنية، تقحمهم في حيز التوحد: (كانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب).
اقتحام مشهدي لافت، يشعل حيرة ومتعة قارئ/ متلق، ربما تغيرت معها دلالات الرجل الغريب، طبقاً لتغيرات مناخ التعامل أو الصراع في النص، وليجد الوصف طريقاً ممهداً لتهيئة الجو المسرحي للأحداث، هو خمَّارة بما تعنيه على مستويي: المكان والدلالة، بما يفي بحاجة النص/ الكاتب إلى تأطير رؤية متقدمة لمعنى حياة موازية يمكن أن تكون خمَّارة، وليرسم الكاتب المكان أيضاً كمكان مائز يفرض إلقاء نظرة فاحصة عليه، لمعايشة الأحداث/ الحوارات/ الصراعات الدائرة فيه، دونما الحاجة إلى تفاصيل تأخذ بالطبع سمة الثبات بنسبة كبيرة كمكان مغلق:
(وهي عبارة عن حجرة مربعة تقوم في أسفل عمارة عتيقة بالية. تضاء نهاراً وليلاً لقتامة جوها المدفون. وتطل على حارة خلفية بنافذة وحيدة من خلال قضبان حديدية، طُليت جدرانها بلون أزرق فاتح يرشح رطوبة في مواضع شتى على هيئة بقع غامقة. ويُفتح بابها على ممشى ضيق طويل يمتد حتى الشارع، وعلى جانب منه تصطف براميل النبيذ الجهنمي).
يلقي المكان بظلاله القاتمة، ويتخذ مدلولاً على ضيق الحياة واحتباسها في بؤرة وضيعة/ خندق/ سجن يؤوي ثلة من الهاربين، أو راغبي الحياة على حد السواء.
(زبائنها أسرة واحدة تتوزع فروعها على الموائد الخشبية العارية، منهم من يرتبطون بأسباب الصداقة والزمالة، وجميعهم يتآخون بوحدة المكان والمعاشرة الروحية ليلة بعد أخرى، ويجمعهم جامع السمر والنبيذ الجهنمي).
يجسد النص حياة موازية، في ظل سجنين: الخمر، وأسوار حياة ضاقت بهم وضاقوا بها، فالتمسوه، ليتخذ الخمر هنا دلالة جديدة، وتوظيفاً جديداً لمعنى من معانيه المتعددة، فالخمر هنا ملاذ للهروب من وطأة الحياة خارج الخمَّارة، ونسيانها إلى حين، وهي أنس كامل ناتج عن التحامها بعملية الغناء والشجن لطرح الهموم بعيداً، وكملمح من ملامح الصفاء الكاذب، وسط تنقلات القط الأسود من مائدة إلى مائدة من موائد الخمَّارة.. يبعث الحياة فيها بتلكئه عند الأقدام وتمسحه بالسيقان، كرمز للمكان، وكمعادل للبهجة والأنس والملاطفة التي ينشدونها معه، فضلاً عن جو الخمَّارة العائلي الحميم، ورخص خمرها، ونسيانهم فيها هم العيال وقلة المال، وضجر الحياة، ونسيان العالم خارج هذه القضبان، بما يشي بهذا الحس المتغلغل بالظلم والغبن تحت وطأة ما يعانون، لتأكيد كون الخمَّارة مسرحاً لحياة أخرى.
(في ساعات اللقاء تصفو نفوسهم، تفيض بالحب لكل شيء، يتحررون من التعصب والخوف، يتطهرون من أشباح المرض والكبر والموت، يتصورون في صورة منشودة، يسبقون الزمن بقرون كاملة. وكانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب).
يأتي نص (تحت المظلة) مواكباً لجملة أعمال سردية تشبعت بحس فترة النكسة، أو ما بين الحربين، التي اسودَّت فيها الصور وتاهت المعالم، وتحولت القدرة الإبداعية للمجتمع إلى قوة مهيضة تمثل انكساراً وهزيمة، وغيبوبة جماعية أخذت على عاتقها مسؤولية تغييب الروح، وتكبيل الذات بأصفاد الهزيمة، فربما كان من يستظلون بالمظلة، أو يختبئون بها، أو يطلون منها هم من خرجوا من أسر الخمَّارة بحثاً عن مساحة تتنفس فيها صدورهم المنقبضة من أثر سجنها (الخمَّارة)، لتفك أسر شجونهم، لكنهم يفاجؤون بوقع جديد، قافز بغيبوبتهم المستمرة بواقعهم الجديد المستمر.
ولا شك أن انفتاح المكان على مصراعيه، وتحوله من (مكان ضيق/ خمَّارة تحمل سمات السجن بتحرر الجالسين فيه من المسؤولية كالسجين تماماً) إلى مكان مفتوح/ فضاء واسع، يطل عليه النص من تحت مظلة، والتي ربما رمزت إلى الحماية الزائفة، أو ربما كعنصر من عناصر المشاهدة والترقب، أو التقوقع، (فالمكان هنا، عام، يتجاوز الحدود الضيقة، وله دلالاته الرمزية البعيدة من مفردات ترمز إلى واقع تحطمت حواجزه، فانفتح على الواقع الإنساني العام)، فيستهل الكاتب، النص، بهذه المشهدية المعبرة، الممهدة لشحن جو النص، كلوحة/ خلفية، وكعنصر إيهام موفق يسبغ على جوه بسمات نفسية ما تلبث أن تتشعب لتفرز أحداث النص: (انعقد السحاب وتكاثف كليل هابط، ثم تساقط الرذاذ، اجتاح الطريق هواء مفعم بشذا الرطوبة. حث المارة خطاهم غير نفر تجمعوا تحت المظلة).
يختص النص، مجموعة غير محدودي الملامح/ المستظلين بالمظلة، بسمات مطلقة لهم إسقاطاً على تعميم رؤية الكاتب، بإبرازه لمدى تفاعلهم اللفظي مع المشاهد اللامعقولة التي بدأت تترى على فضاء النص المفتوح، باقتحامه، باندفاع رجل كالمجنون واختفائه في شارع جانبي، وملاحقة جماعة من الناس له، وصياحهم عليه باعتباره لصاً، مع تتابع سقوط المطر كخلفية وجو عام، حتى ظهرت تلك الجماعة وهي تقبض على (اللص)، وتوسعه ضرباً، لتصير المحطة/ المظلة، التي لزموها، هي آخر ما يربطهم بالحياة، ولو على المستوى الرمزي التجريدي بعبثيته وعدميته على حد السواء.
بهذه النهاية الدالة للنص، بإفضاء الصمت المطبق والتخاذل، إلى التساؤل الحار عن مجريات الواقع، إلى كارثة، تكون الرؤية التي أراد الكاتب طرحها من خلال بعض نصوصه/ شهاداته التي تناثرت في متن أكثر من مجموعة قصصية، كان المصير الجمعي هو المعول عليه في إبراز مأساة الواقع المحيط، قد اكتملت، برموزه ودلالاته وأسبابها، التي غاب فيها عنصر الزمن -بالرغم من حضور تأثيره- لحساب سطوة المكان أو الفضاء المتسع/ الأرض.
في نص (الظلام) ثمة توجه آخر يحمل سمات شعور جمعي يتحرك في فضائه، ولكن الفضاء هذه المرة مغلق، بعكس ما جاء به نص (تحت المظلة) حيث يرتحل أصحاب الفضاء المفتوح الذي ضاق بهم بغرائبيته وعبثيته، لينتقلوا إلى حيز أقل اتساعاً/ أكثر ضيقاً، في حيثية جديدة يفرضها النص، ليختلط مع ما سبق بغيبوبية تضاف إلى الموقف، لتعمق من المأساة، وتضع لها عنواناً آخر يحمل هذه السمات الجديدة، فمن الظلمة التي عمت في (تحت المظلة) إلى الظلمة التي لاحقت الجمع في المكان المغيب المتمثل في (الغرزة)، التي ربما تماهت مع (الخمارة) في نص (خمارة القط الأسود)، والتي يستهل بها النص فعالياته، حيث يتجسد الظلام في مشهدية دالة على هذا النحو: (كثيف الظلام كأنه جدار غليظ لا يمكن أن تخترقه عين. لا شيء يرى ألبتة. إنهم يجتمعون في عدم).
حيث يفرض المكان وجوده كدال على الغياب عن الحياة، والحضور في حضرة مغيِّب وهو معاقرة المخدر، كأداة تغييب وعدم، وإخراج هذه الثلة من ركب الحياة، ليعانقوا حياة أخرى/ عدم تحتويهم، وتسقط فيها ظلال النص السابق على أجواء منغلقة ينحصر فيها هذا النص وينحسر، كما تنعدم الرؤية.. إلا أن الرجل الغامض/ ركيزة المكان المتكررة المتواجد به والمتوحد به كملازم، يقتحم فضاء النص بكلامه، وسط صمت الجميع وغيبوبتهم، وإبصاره لما لا يبصرونه، كمن يقود عمياناً، لدال على سلطة منحتها له غيبوبة المخدر التي تعيش فيها المجموعة، ليصبح الفاعل الرئيس والمحرك الأكبر للمشاعر والأقدار. كما يمثل دور الواعز الرئيس في تحويلهم/ احتوائهم في هذا الجحر، ليفرض النص سمات الرجل ووصفه الذي يتوزع على مراحل النص، لتظهر إلى جانب ذلك سماتهم، وعلائقهم المبتورة..
(وبسبب الظلام يعيش كل منهم في عالم خاص به مغلق الأبواب عليه. يجيؤون من أماكن مختلفة، متباعدة ومتقاربة، لا يدري أحد عن الآخر شيئاً، يشدهم إلى هذه الحجرة داء واحد، والمعلم يدعوهم واعداً إياهم بالأمان والستر.. أجل، ها هم معلقون في الهواء، غائصون في الظلام، كأنما يعيشون في الزمن الذي لم تكن الأعين قد خلقت فيه بعد).
يؤسس النص للنزعة العبثية الجارفة بجنون، لترمز إلى كل ما يمحو ذكر الإنسان انطلاقاً من غيبوبته وتمسكه بحياة أخرى موازية، لا تصل أبداً به إلى بر أمانه وسلامته، فتسير الأمور على وتيرة الانحدار التي تمسك بتلابيب المصير المستسلم، الذي أفاق بعد فوات الأوان، حيث يصل مسلسل الانتهاك حد تلاشي كرامة عنصر بشري بلغ ذروة امتهانه.. ولا تقف عند هذا الحد، ليتلاقى المصير العبثي ببعد فلسفي يطرحه النص في نهايته الدالة، المؤدية إلى تشبعه بعدمية تكتمل أركانها، بالتسليم لسنة الحياة، ولكن بعبثية ساخرة، فيقول الرجل/ الرمز، الذي تحول إلى فيلسوف تنبض كلماته بالحكمة، وإن بلغها على أنقاض هؤلاء المجموع/ الكل، في إحداثية جديدة للمكان التي يبرز فيها الخلاء:
(.... غداً سيستقبلكم الخلاء أجساداً فتية مبللة بندى الحقول. وساد الصمت. لم ينبس أحدهم بكلمة. وترددت أنفاس نوم عميق).
يفرض الخلاء وجوده كمكان مفتوح، ويتناقض مع المكان المغلق المظلم، كنوع من بداية الخلاص الذي تتغياه رؤية الكتابة، وهو ما يلقي بظلاله على المستوى السياسي والقومي في حقبة زمنية توازت فيها الإبداعات القصصية لنجيب محفوظ مع الروائية أو كانت الأولى منبعاً خصباً للثانية، كحالة التزامن والتماهي بين (الخمارة) في (خمارة القط الأسود)، و( ) في (ثرثرة فوق النيل)، وغيرها.