تناول محمود الصحيفة المحببة إليه، ثم بدأ يتصفحها كعادته كل يوم عند تناوله طعام إفطاره، قبل أن يخرج لعمله، وقف عند إحدى الصفحات يقرأ إعلاناً كُتب بالخط العريض عن صدور رواية جديدة للروائية المعروفة نجلاء محمد، ابتسم في سعادة وهو يشعر بفرح شديد.. قال محدثاً نفسه: لابد من شرائها اليوم ولن أنام هذه الليلة حتى أتم قراءتها، لاشك أنها أبدعت فيها كما تبدع في كل رواية أو كتاب تصدره، شرد بفكره قليلاً.. تارة يبتسم في حبور.. وتارة يتألم في حسرة وضيق، رن هاتفه المحمول فأيقظه من شروده: ألو أهلاً سليمان، وتابع: ما بك؟ جاءه صوت زميله المرح يقول: أسعد الله صباحك يا عزيزي محمود آسف لإزعاجك في هذا الصباح المبكر، لكن يبدو أن دابتي اليوم تعاني من حرارة شديدة ولا تقدر على المشي، ضحك من قلبه، وضحك سليمان على إثره، حيث كان يهوى النكت والجميع يداعبونه بـ(أبو المرح)، قال: محمود هل تريدني أن أوصلك لعملك؟ رد سليمان: هذا المطلوب، محمود: عشر دقائق وسأكون أمام منزلك، أقفل الخط وعاد يكمل تصفح جريدته، وفكره مشغول برواية نجلاء الجديدة التي يعشق كل ما تكتبه.
عندما عاد من عمله، حاول أن ينام بعض الوقت، لكن النوم جافاه ومضى يحلم ويحلم ويتمنى بينه وبين نفسه، ارتفع أذان العصر، وهو مازال يتقلب على جنبيه، تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونهض من سريره، ثم دلف إلى الحمام ليتوضأ للصلاة. غادر المنزل، ما إن فتحت المكتبات أبوابها حتى كان هو أول الزبائن القادمين. سار بخطى سريعة بين ممرات المكتبة، باحثاً بين الكتب عن (رواية الظلم والحرمان لنجلاء محمد) وما إن وقعت عيناه عليها حتى أسرع باقتناء نسخة له ولزميله سليمان الذي يهوى الأدب مثله، واتجه إلى موظف (الكاشير) ليحاسبه.
عاد إلى منزله ليستمتع بقراءة الرواية الجديدة، وما إن دخل البيت حتى تناهى إلى سمعه أصوات كثيرة وصراخ، وفوجئ بأطفاله في حالة عراك مع بعضهم البعض، وقد قلبوا أثاث الصالة رأساً على عقب، سألهم: أين أمكم؟ قالوا بصوت واحد: عند الجيران أو في المجلس مع ضيفاتها، تنهد في أسى ثم قال لنفسه: أمكم لا تعرف غير ذلك ليتها تحس بي وتدرك مشاعري، رد عليهم أعيدوا ترتيب الصالة كما كانت ولا أريد أن يزعجني أحد منكم، سأدخل مكتبتي، أبدى الصغار أسفهم ووعدوه بألا يزعجوه، أخرج الرواية من الكيس واستلقى على كرسيه، مضى يفحص الكتاب من الغلاف للغلاف، وكأنه يبحث عن شيء مفقود، أعجبه تصميم الغلاف والمقدمة، وشد انتباهه الإهداء الرائع الذي خطته أنامل الكاتبة، وراح يلتهم سطور الرواية التهام الجائع وقد شدته بأسلوبها وأحداثها الشيقة.. كان يقف عند بعض السطور ليعيد قراءتها مرة واثنتين، كانت القصة تتحدث عن قصة حب بين البطلة والبطل الذي أحبها بكل صدق ونقاء وإخلاص لذاتها، وتزوجها رغم الفوارق الاجتماعية التي بينه وبينها، مؤكداً لها ولغيرها أن الإنسان مهما ارتفع قدره وقوي سلطان وثقل وزنه، فإن ذلك لن يقربه من الله، ولن يدخله الجنة إلا بأخلاقه وأعماله وصدقه وتعامله مع الآخرين، وأن الناس عند الله سواسية لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، لكن كان للحسد دور كبير، وللمبادئ والقيم دور أكبر عندما تتغير، وللوعود الجميلة عندما تنقض نهاية مؤلمة، فحينما وقف أهله في وجهه بعد فترة من الزواج، وبعد أن عاش أعذب الأيام وأحلى الليالي، وحقق حلم حياته، وتوج الحلم الذى تحول إلى حقيقة معاشة، بعد معاناة طويلة من الأحلام الوردية الجميلة، بطفلة حلوة، طلبوا منه أن ينفصل عنها وأن يأخذ طفلتها لتعيش في كنفهم، صدمة كبيرة لم تكن تحسب لها أي حساب وظلم لم تتوقع أن يصدر من حبيب كانت تعتبره كل دنيتها، وابنة حرمت منها لتعيش مرارة الفراق مرارتين، مرارة الفراق، ومرارة الحرمان والظلم، قرأ محمود أبياتها الشعرية التي نظمتها في فراق حبيبها وفلذة كبدها، فبكى، بكى كثيراً، وازداد إعجاباً بقدرة الروائية على تصوير أحداث هذه القصة المحزنة بكل براعة وإبداع، وتمنى بينه وبين نفسه لو يتحقق حلمه، وقال محدثاً نفسه: لماذا لا تكون لي زوجة مبدعة كهذه المبدعة، تعرف قيمتي، وتقدر موهبتي، وتحس بمشاعري، وتدرك ما في نفسي، لو تحدث معجزة لكنت أسعد إنسان في هذه الدنيا، لو أستطيع الوصول إليها؟ لو أعرف ظروفها أحدثها عن إعجابي بها، أقص لها معاناتي لعلها تكتبها.. لكن هل تقرأ زوجتي وتفهم ما أريد قوله لها؟ وهل..؟ وهل...؟ إنها لن تقرأ أي شيء لأنها لا تحب القراءة بل ستضحك مني إذا قلت: اقرئي. مضى ينقب عن عنوان الروائية أسفل الكتاب لعله يجد عنواناً يصله إليها، في آخر صفحة الغلاف الداخلي من الخلف للرواية وجد بريدها الإلكتروني، فرح كثيراً، جلس وكتب رسالة يطلب منها أن تسمح بمحادثتها ليناقشها بأمر الرواية، بعد أن شرح لها معاناته، وأضاف شدة إعجابه بها وبما تكتبه، بعد فترة وجد بريده يحمل رسالة منها تقول: فيها: قارئي الكريم: سعدت كثيراً بما جاء في رسالتك، ولا مانع لديّ من مناقشتي في الرواية، كما أنه لا مانع لديّ من المساعدة في حل مشكلتك، فأنا قد جندت قلمي لحل مشاكل الآخرين.
حدثها ذات يوم وأخبرها عن مشكلته، أعطته حلاً مريحاً، ثم ناقشها في روايتها قائلاً: إنكم معشر الكاتبات دائماً تظلمون الرجل، وتقفون إلى جانب المرأة لأنها من بنات جنسكن، وطال النقاش باتهامه لها بأنها ضد الرجال قالت له مهدئة: يبدو أنك تحمل الكثير من المعاناة المختلفة في حياتك الأسرية، لذا تراني من وجهة نظرك أنني ضد الرجال، أنا لست ضد كل الرجال، رغم أنني واحدة ممن ظلمهن الرجال، باستغراب قال: أنتِ؟ أجل أنا.. إنني صاحبة القصة الحقيقية التي أثارت شجونك، وأبكت عيونك وأفاضت مشاعرك، وحركت أحاسيسك.. أنت يا سيدى تظن أن كل كاتبة كما يظن غيرك تعيش في عالم رحب من السعادة والراحة، وأن جميع أمنياتها تتحقق بلا معاناة، نحن بشر نعاني كما يعاني غيرنا، لكن الفرق أننا نجسد آلامنا ونصوّر آلام غيرنا لأننا نعيش المعاناة بأنواعها معهم، صمت على مضض وأطلق لفكره العنان وكأنه يعيش في أحلام... ومع مرور الأيام وطدت المعرفة بين محمود ونجلاء، تقدم لخطبتها، كانت مجروحة تائهة محرومة مقهورة ومظلومة، تعيش مرارة الوحدة وعذاب الفراق، ولوعة الحرمان، وقلة الأمان، وجدت في محمود النصف الحلو الذي كانت تحلم به منذ زمن، النصف الذي يدرك ما يمور في نفسها دون أن تتكلم، يحس بمشاعرها ويمعن بقوة أحاسيسها، يفهمها، يقدر قيمتها وقيمة رسالة حروفها، تقدم لخطبتها وافقت وحدد يوم اللقاء الشرعي ليراها وتراه، رغم رضى الطرفين مبدئياً لكن محمود رغم إعجابه بها وما يكن من مودة لها واحترام وتقدير، كان يؤمن رغم ذلك كما تؤمن هي بأن للنظرة الأولى فعل السحر في القلب الذي يوقع في النفس المحبة والراحة للإنسان الذي سيتم الارتباط به، وهما لا ينسيان حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيما معناه بأن ينظر كلا الخاطبين لبعضهما أحرى أن يؤدما، بينهما قلب ينبض، مشاعر متوهجة ممزوجة بين فرحة عارمة، وبين خوف من المجهول القادم، أعصاب مشدودة، توتر وقلق مخلوط بسعادة مغمورة، واضطراب ظاهر، فكر مشتت، وأحاسيس متداخلة بين أمل في فرحة قادمة ما بعدها حزن، وسعادة ما بعدها شقاء، وبين خوف من صدمة قوية تكسر النفس، وتخيب الأمل، وتحطم القلب، جسد يهتز من الداخل، لكنه يبدو للناظر قوياً متماسكاً، هذه كانت مشاعر وأحاسيس نجلاء قبيل لحظات من لقائها الأول بمحمود الذي سيتم الارتباط به إذا شاء الله، أو لا يتم بعد أن تكون قد عرضت نفسها أمامه فلا يكون بينهما نصيب، فتشعر بما لا يشعر به أي رجل في العالم من أنواع الأحاسيس المميتة المذلة حين ذاك، بل إنها ستظل تنتظر كلمته، وكأنها تقف على باب للشحاذة! وحيث ستكون الدموع رفيقتها التي تخفف آلامها، وتطفئ نيران فؤادها.
دخلت نجلاء بقلب خافق، حيث كان محمود ينتظرها، ألقت السلام عليه على بعد خطوات، استقبلها بابتسامة مشرقة قائلاً: أهلاً وسهلاً بأديبتنا المبدعة، وقفت للحظات تاركة له المجال لينظر لها بإمعان، كانت عيناه مركزة على قسمات وجهها، أحست أنه يتفحصها كمن يتفحص بضاعة غالية قبل أن يقتنيها، جلست قبالته لدقائق كان يتأملها بإعجاب وفرح شديد، لكنها لا تدري سبب هذا الفرح هل هو نتيجة إعجاب بشكلها؟ أم أنه نتيجة سعادة شعر بها لأنه حقق حلماً كان يراوده منذ سنوات؟ وقفت سألها بفزع: إلى أين؟ قالت بهدوء: أظن أنك حفظت شكلي بما يجعلك تقرر ما تريد! وبالطبع سيكون لي رأي أنا الأخرى إذا كان بيننا نصيب، قال: ولكن يا عزيزتي لم نتحدث معاً؟ قالت: سنتحدث عندما نتفق، ابتسم على مضض، ثم قال: صدقت، لكني أود أن أخبرك بأنني لن أتنازل عنك أبداً، وعندما أنقل رغبتي لوالدك، سأستأذن منه لأتحدث معك بكل حرية ونتفق، قالت: إذا كان فيه نصيب؟ قال: هل تشكين؟ أجابته بأسى: الأيام علمتني ألا أثق بكل ما يقال! وألا أثق بما يقوله كل الرجال؛ لأن قلوبهم سرعان ما تتغير، وآراءهم كثيراً ما تتبدل أستاذن يا أستاذ محمود، قال: بل قولي إلى اللقاء.. إذن إلى اللقاء، وغادرت المكان.