مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

قارض الكتب

قارض الكتب.. لم يأتِ هذا اللقب الممنوح لي من فراغ. كذلك ليس هو التعبير المجازي المتداول حالياً عن القارئ الجاد نهم المعرفة. إنما لأني حرفياً أستطيب رائحة أوراق الكتب الصفراء القديمة، واستطعم قضمها.
أما الكتب الحديثة ذات الأوراق المصقولة اللماعة، أو الأوراق البيضاء العادية الملمس، فهي لا تجذبني، حتى وكأن حروف كلماتها تعوم على زبد الماء.
كان هذا بداية بوح صديقي أحمد، وما تداعى له من ذكريات ونحن متوجهون إلى معرض كتاب الرياض. يجلس مسترخياً على مقعده، تاركاً لي مهمة مناورة السيارات الأخرى المتجهة صوب المدخل الرئيسي. جزء من انتباهي ناحيته، والأهم كان تركيزي، بمحاولة الإفلات من (عنق الزجاجة) الذي تم حشرنا فيه. يكمل أحمد بوحه، وكأن كل ما هو خارج السيارة من سباق (الفورمولا) لا يهمه، فيردف قائلاً: بعد وضوح هذه الظاهرة عليَّ في صغري، كف والدي عن السماح لي بدخول مكتبته. وأفرد لي بعض الكتب التي لا تستثير شهيتي على قضمها. صديق والدي، أَوَّلَ هذه العادة على أنها نتيجة ترتبت على كوني، وفي عمر مبكر جداً، قمت بتمزيق صفحات من كتاب (شمس المعارف الكبرى) للبوني. ويقسم العم (عباس) على أن والدي أرجع له الكتاب عندما أعاره إياه وآثار تمزق بعض الوريقات بادياً، ويمكن ملاحظته بوضوح. والدي يقول إنه لا يتذكر هذه الحادثة -وبالطبع- لا يمكنهما سؤالي لأن هذه الواقعة حدثت، كما يقول العم، وأنا بعمر السنتين.
ما يهم في نقاشهما، ليس حفظ الكتب الصفراء بعيداً عني فحسب. إنما لإيجاد الحلول لفك عقدة القول لدي. فأنا، وكان عمري حينها، ينوف على العشرين، ما زال عسر النطق و(التأتأة) تعطل انطلاقة لساني.
بالطبع، جرب والدي العديد من الحلول: كالعرض على الأطباء، وتتبع ما قاله الحكماء في كتب الطب الشعبي، وواحدة منها ما زلت أذكرها. تلك كانت نصيحة من صديق والدي (السوري)، بأن المشهور لديهم، في مثل حالتي، هو أن يُبَيّتْ الماء في قارورة عند قبر أبي العلاء في المعرة، ثم يشربه الصبي الذي به حبسة في لسانه، فيُشفى منه ببركة أبي العلاء! شربت الماء، بالإضافة إلى محاليل أخرى ولم تجدِ نفعاً.
أجمعا الرأي -والدي والعم عباس- على أن يحاولا البحث عن ذلك الكتاب، الذي بحسب قول العم، إنه قام بحفظه في كيس (بلاستيكي) داخل صندوق خشبي، وطمره في حفرة أسفل شجرة (أثل) في مزرعته. الشجرة التي تقع في الطرف الشمالي، بجانب السور، حيث ترتفع عن رطوبة الماء، ونجاسة الأسمدة.
بدأت مهمة البحث، وتطوعت بأعمال الحفر. وما كدت أزيل طبقة بسيطة من التراب، حتى لامست أطراف المسحاة هذه (الدفينة). توضأ العم عباس وأمسك بالكتاب ولفه في قماش أخضر أعده لذلك.
حينها، لاحت مني ابتسامة وترنمت ببيت شعري لأبي العلاء:
إن التوابيت أجداث مكررة
فجنب القوم سجناً في التوابيت
زجرني والدي، وعدها علامة شؤم، فلا يجب استنقاص ما في الكتاب من آيات قرآنية وظفها البوني في شعوذته. فقد كان همهما، أن يصلا إلى الجزء الناقص من الكتاب لمعرفته، ومن ثم استشارة من يفهم في هذا (العلم) حتى يمنحهما النصيحة.
حددا الورقتين الممزق جزء كبير منهما، وكانت الأسطر العلوية الباقية من الصفحة الأولى عبارة عن هذه الجمل المبهمة:
«السبعة أحرف حرفان وثلث، وهي (اعه) وللأسد (هطح) وللقوس (حفق)، وللثور من الرتبة (جمز) وللسنبلة (زنح) وللجدي…»، وبقية الصفحة مفقودة، وكذلك الصفحة المجاورة لها، والتي لم يتبقَّ منها سوى نصف مستطيل مقسوم إلى مربعات، وداخل كل مربع كلمات مبهمة أو حروف، وبعضها أرقام فقط. وجميع محتوى ما تبقى من المستطيل، لا تعني شيئاً. وحتى لو كان موجوداً بكامله، فلم يكن بمقدورنا فهمه، كما هي الصفحة المقابلة والممزقة أيضاً.
تطوع أحد أصدقاء والدي -يكمل أحمد مغامرته مع حادثة الكتاب- بعد أن أخذ تصوراً كاملاً عن الحادثة، فتواصل ذلك الصديق مع أحد (العارفين) في قريته. ردة فعله -ذلك العارف- كانت أن احمر وجهه ولوى بشفتيه مشفقاً. أبتدأ لحظتها مرافعة طويلة عن شناعة ما فعلته. ما أتذكره منها: ما قضمه وابتلعه (الولد) حينها، هو مزيج سحري بين العدد والحروف. العدد الذي رأى فيه فيثاغورس أنه لغة الكون السحرية وهو من أسرار الأقوال، والحرف الذي يعتبره (البوني) من أسرار الآثار والأفعال. وبهذا، ليس هناك من علاج له سوى الرجوع إلى نفس الكتاب. فبدلالة اسم المريض (أحمد)، يُكتب حرف الألف (111) مرة، ثم يتم نقع الورقة في إناء نحاسي مملوء بماء وزعفران. ويفضل شرب هذا النقيع مباشرة، وبمجرد اصطباغ الماء بالحبر. فهذا الحرف النوراني الشريف -الألف- ستتضاعف فوائده بتكراره العددي، وبضربه في نفسه. ذلك لما يحتويه من قوة تصريف دون سائر الحروف، فسيزيل أي أثر (سحري) سابق قد ابتلعه.
رحم الله العم عباس، فقد انقضى على تلك الحادثة عشرون عاماً أخرى، وما زلت أتذكر حماسه، الذي برد فجأة، وكذلك والدي، عندما أخبرهما شيخ الجامع، أن تلك مجرد هرطقات لا تضر مع إرادة الله شيئاً.
إلى هنا وأنا منشطر بتنقلي بين سمعي الذي يصلني بعالم غارق في بدائيته، عندما كان إنساننا الأول يماهي بين نفسه والطبيعة، فتتعزز لديه قوة الكلمة وسحرها. وبين ناظري الذي يشاهد الآن مظاهر حداثة القرن الحادي والعشرين في شوارع الرياض. أرجعني أحمد إلى كامل وعيي، وتوحدت حواسي من جديد، عندما تبدلت لغة القول لديه في ختام حكايته: أما أنا، فقد عَلِقَ اسم أبي العلاء في ذهني منذ الصغر، ورافقتني أفكاره وشعره في كبري. أما البوني وسحره. انفصالنا عن الواقع بوهم معالجة مشاكلنا. تأثيره على حرف بوصلتنا لغير العلم والمنطق. ذلك ما تجاوزته سريعاً. فما يعطبه البوني يصلحه شيخ المعرة. فقد تحولت خشيتي من الرعب (الميتافيزيقي)، بسحره وألغازه، إلى هم آخر واقعي (أنطولوجي)، بمواجهة سؤال الوجود واستحقاقاته. كان فيه الشفاء. وكان أيضاً، أبو العلاء هو الطبيب، والمطمئن، بالمضي في هذا الطريق رغم مشقته:
إذا كان رُعبي يورثُ الأمنَ، فهو لي
أسَرُّ من الأمنِ، الذي يورث الرّعبا
ما كاد ينتهي صديقي من بوحه (الغرائبي)، وتنظيراته الفلسفية، حتى دخلنا مجدداً في (مارثون) آخر. طابور بشري طويل وممتد. يتلوى كثعبان أسطوري حاجب عن نواظرنا بعض دور النشر المهمة داخل المعرض، ويعيق تبضعنا الكتب. في نهايته وقف أحد مشاهير كُتاب (الفانتازيا) وروايات السحر والجن والشياطين! ألمح فتاة أجهدها طول الوقوف بانتظار دورها في الحصول على توقيعه. تتناوب قدماها على حمل جسدها في تململ واضح من التعب. تترنم بأغنية لا تتضح كلماتها. تخيلتها للحظة وهي ملتفة بعباءتها (البنية). وكأن شبح (أبي حمزة الفقيه) -صديق أبي العلاء المعري الذي قال فيه مرثيته الشهيرة (غيرُ مُجْدٍ في مِلَّتي واعتِقادي…)- قد حل بجسدها. وتارة يُخيل إليَّ أن بها طيف صديقي أحمد الذي فقدته وسط الزحام. أيهما كان، فقد سمعت جازماً صوت أحدهما وهو يترنم بهذه المناجاة:
سيدي أبا العلاء:
هذه آنيتنا خبأناها تحت الجسر، وهذه آمالنا برحناها وسطرناها في رق وسط قارورة. دفعنا بها مع تيار نهر المعرفة الخالد. يقول لنا هرقليطس: «إنك لا تعبر النهر مرتين»، لكن غاب عن فطنته، أنك الماء الزلال الرقراق الذي ينهر كل حين، فيسقي جداولنا العطشى.

ذو صلة