تناول المدى النقدي العربي بإسهاب المنجز الشعري عند الشاعر أبي نوّاس، اهتمام مردّه القيمة الفنيّة لهذا الشاعر، ومن ناحية أخرى الجانب الشخصي له، هذه المراوحة خلقت نوعاً من التباين والاختلاف بين النقّاد، حيث إنّه -وللأسف- في كثير من هذه الآراء غلب الطابع الشخصي والرؤى الجانبيّة بمعزل عن القيمة الشعريّة للقصائد.
ما بين القديم والمعاصر وقف أبو نواس في قفص الاتّهام مرات كثيرة، كانت خلاصة الأحكام متباينة منها المتعارض والمتضارب، ومنها المتوافق والمتآلف، ومنها ما كان في موقع الوسط يجمع بين الموقفين. من خلال هذا المقال نحاول سبر أغوار هذا التشكّل النقدي حول تجربة الشاعر من خلال التمرحل التاريخي بين الفترتين القديمة والمعاصرة. ومرادنا في هذا كشف التداخل بين النقد والانتقاد.
المرحلة القديمة
سمة هذه المرحلة هي كم التشهير والتلفيق الذي ناله الشاعر. لقي أبو نوّاس حيفاً كبيراً، وألصقت به التهم لأسباب متعدّدة، منها الدينيّة والدنيويّة والسياسيّة، وبدوافع أخرى سنحاول المرور بها في تحليلنا. يمكن حصر هذه الفترة في إطار اتجاهات أربعة كبرى:
- الاتجاه الأوّل:
هذا الاتّجاه تزعمه عدد من الشعراء المؤيّدين للسلطة الحاكمة آنذاك والمعادين له ولآل البيت، منهم: مروان بن أبي حفصة والرقاشي.. عمل هؤلاء على الحطّ من مكانة أبي نواس والنيل منه لأسباب عصبيّة وسياسيّة، وللحظوة التي كان الشاعر يلقاها من طرف الخليفة.
- الاتجاه الثاني:
قاده لفيف من الذين كان وضعهم الطبقي مرموقاً، إلى جانب مكانتهم السياسيّة. هؤلاء كان لهم طريقان في الحياة: طريق رسمي جاد، وطريق عابث ماجن. كانت تجود قرائحهم بالشعر الفاحش -في مجالس الأنس والطرب- وينسبونه إلى أبي نواس خوفاً من جريانه على ألسنتهم، فينتقص من قدرهم، وتهتزّ صورتهم لدى الناس، وكأنّ أبا نواس شمّاعة كلّ شيء مشين.
- الاتجاه الثالث:
هذا الجانب يتعلّق بشخصيته الظريفة العفويّة، بالرّغم من تواتر نوادره وحكاياه المضحكة، لكن لم تتعدّ نطاق الأدب والطرافة في ذلك العصر على حد تعبيره هو، يقول ابن منظور: كان العباس بن محمد يتشوّق أبا نواس ويميل إليه، فلمّا رآه وسمع منه ورأى ظرفه أقبل عليه وقال: يا أبا علي أريد أن أقول لك شيئاً فأستحييك، وأستحيي من نفسي في ترك نصحك، وقد بلغني أنك مكب على المعاصي مستهتر بالقبائح والمجون، فقال النواسي: أيّها الأمير أمّا المعاصي فإنّني أثق فيها بعفو الله عز وجل، وهو يقول: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. وإنّما المجون ظرف ولست أبعد فيه عن حد الأدب ولا أتجاوز مقداره.
هذه الرواية تدلّ على أنّ عبثه مجرّد علاقات لفظية كلامية يتطلّبها الأدب ولا تتجاوز حدوده. نحن هنا لا ننفي عنه بعض المجون، لكن لم يصل إلى حد الفجور الذي اتّهمه به البعض من قبل، وكان مردّه اختلافات نفسية وعقائدية وسياسية.
- الاتجاه الرابع:
هذا الاتجاه نجم عن لوم البعض لمنهجه الشعري الخارج على مناهج القدامى والمقوّض لمنهجهم الكلاسيكي في رسم القصيدة العربية، ولم يرضوا بالمنهج الجديد. يقول مهاجماً المتعصّبين للقديم:
عاجَ الشَقِيُّ عَلى دارٍ يُسائِلُها
وَعُدتُ أَسأَلُ عَن خَمّارَةِ البَلَدِ
لا يُرقِئُ اللَهُ عَينَي مَن بَكى حَجَراً
وَلا شَفى وَجدَ مَن يَصبو إِلى وَتَدِ
قالوا ذَكَرتَ دِيارَ الحَيِّ مِن أَسَدٍ
لا دَرَّ دَرُّكَ قُل لي مَن بَنو أَسَدِ
وَمَن تَميمٌ وَمَن قَيسٌ وَإِخوَتُهُم
لَيسَ الأَعاريبُ عِندَ اللَهِ مِن أَحَدِ
دَع ذا عَدِمتُكَ وَاشرَبها مُعَتَّقَةً
صَفراءَ تُعنِقُ بَينَ الماءِ وَالزَبَدِ
الدعوة للتجديد جعلته في محطّ سهام التجنّي من قبل الغاضبين، الذين تحاملوا عليه وألصقوا به التهم العديدة التي لا شأن له فيها.
هذا إلى جانب عوامل أخرى زادت من حملة التشهير به ألا وهي تلك الخصومات التي دارت بين الأخوين (الأمين والمأمون)، إذ إنّه كان من المقرّبين لدى الأمين، وعندما خلع المأمون أخاه الأمين قيل إنّه أوصى لبعض الناس أن يكتبوا كتاباً في عيوب الأمين، تلك العيوب أنّه كان قد استحلى رجلاً فاسقاً فاجراً كافراً يسمّى الحسن بن هانئ -أبو نوّاس-.
المرحلة المعاصرة
مثّلت هذه المرحلة مساحة للاعتدال في التعاطي مع المنجز النواسي. ولئن تعدّدت الأسماء التي اهتمّت بأعمال الشاعر وحياته؛ فإنّنا في هذا الإطار نركّز على أهمّ ما طرح في هذا السياق. أقطاب هذه المجموعة: (طه حسين)، (أدونيس)، (عباس محمود العقاد)، (محمد النويهي)، (أحلام الزعيم).
لنر بعض ما قاله عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في هذا الرجل:
ولكنّ أبا نواس كان يحب الخمرة حباً أشبه بالعبادة، ويقدّسها تقديساً، يقول أبو نواس:
أَثنِ عَلى الخَمرِ بِآلائِها
وَسَمِّها أَحسَنَ أَسمائِها
لا تَجعَلِ الماءَ لَها قاهِراً
وَلا تُسَلِّطها عَلى مائِها
كَرخِيَّةٌ قَد عُتِّقَت حقبَةً
حَتّى مَضى أَكثَرُ أَجزائِها
فَلَم يَكَد يُدرِكُ خَمّارُها
مِنها سِوى آخِرَ حَوبائِها
ثم يدعو طه حسين القارئ للنظر في البيت الأوّل في هذه القصيدة:
اثن على الخمر بآلائها
وسمها أحسن أسمائها بقوله:
أليس الشطر الأول منه تسبيحاً للخمر؟ أليس الشطر الثاني منه تقديساً للخمر؟ أليس يذكرك القرآن؟ أليس يذكرك قول الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).
ونحن إذ نضيف رأياً على رأي طه حسين، هذه العبادة للخمرة التي نراها واضحة في أبياته، أليس لأنّ للخمرة أبعاداً وآفاقاً نفسيّة تعتلج بداخله ولا يستطيع البوح بها خوفاً من البطش والقتل؟ نظن ذلك.
لقد كانت الخمرة لديه وسيلة من وسائل النزوع إلى المطلق والتواصل معه. كانت متنفّساً لإظهار ما في عالمه وواقعه الاجتماعي من غبن ومرض، يقول أدونيس: (إن كانت هذه ماهية الخمرة، فإنّ لوجودها الفعل الذي يليق بهذه الماهية، فهي تمنح الحياة، وتغيّر قيمتها، وتوالف بين الأشياء، وتبطل منطق الزمن العادي، وتهدم سجن الحياة العادية، وتضيء وتهدي، إنّها تشوه التآلف بين الذات والعالم).
كما يؤكّد أدونيس ويبيّن ملامح الشخصيّة النواسيّة الثورية إن صح التعبير، يقول:
(والإنسان النواسي هو الإنسان العائش مع ذاته، المتّخذ من العالم كلّه مجالاً لتأكيد ذاته الساخرة من القيم العامة النهائية ومن القائلين بها والقائمين عليها، إنّه الإنسان الذي لا يواجه الله بدين الجماعة وإنّما يواجهه بدينه هو، ببراءته هو وخطيئته هو).
تكتسب رؤية النقّاد المعاصرين مساحة أكبر من الصدقيّة في التعامل مع المنجز الشعري لأبي نوّاس، ويضحي البحث عن رمزيات الخمر في نصوصه ووضعها في نطاقها الصحيح هو النقطة الأهم.
تعامل أبو نواس مع الخمرة كان تعاملاً استثنائيّاً، بحيث كانت وسيلته الإبداعية في تجاوز العوالم الموضوعية المكانية نحو خلق عالم آخر شعري نفسي، يتوافق ونزوعه للتجديد وثورته على القيم والعادات التي وقع تشويهها، والدعوة لاستبدالها بقيم أخرى أكثر مرونة.
تقول الدكتورة أحلام الزعيم: (ولم تكن الخمرة عند شاعرنا وسيلة لتبديل الهموم فحسب، بل كانت كذلك وسيلة لكشف منابع الحسن والجمال في كل الأشياء، ففيها يجمل العالم، وتحلو الطبيعة، وفيها يقترن جمال الأنوثة، وحسن السقاة، وفيها يتجلّى جمال الدنيا وروعة الوجود).
الأبعاد النفسية للخمرة أكبر من التصوّرات التي وضعها الذين رموه بالزندقة وغيرها من الأبعاد المرضيّة التي حلّلها كل من الناقدين: (عباس محمود العقاد)، والدكتور (محمد النويهي) اللذين اعتبرا أنّ الخمرة لديه تعويض عن حرمانه عاطفة الأم أو نرجسية طافحة تنتج آفات مرضية ونفسيّة متعدّدة.
على المستوى الاجتماعي، أراد أبو نواس -من خلال خمرته- أن يفضح عيوب عصره، بكشفه النقاب عن تلك الجماعة التي كانت تتستّر بالدين وتدّعي المحافظة على الأخلاق، من خلال كشف ممارساتها خلال الخلوات الخمريّة بأسلوبه الفنّي البارع وسخريته المبطنة ودعابته المبعدة للشك، راح يصوّر هذه الخلوات وذلك المجتمع المنحدر إلى أدنى مصاف القيم الخلقية، لنستمع إليه في قصيدة يمدح الأمين:
فَاِسقِني كَأساً عَلى عَذَلٍ
كَرِهَت مَسموعَهُ أُذُني
مِن كُمَيتِ اللَونِ صافِيَةٍ
خَيرِ ما سَلسَلتَ في بَدَنِ
ما استَقَرَّت في فُؤادِ فَتىً
فَدَرى ما لَوعَةُ الحَزَنِ
مُزِجَت مِن صَوبِ غادِيَةٍ
حَمَلَتها الريحُ مِن مُزُنِ
تَضحَكُ الدُنيا إِلى مَلِكٍ
قامَ بِالأَحكامِ وَالسُنَنِ
يا أَمينَ اللَهِ عِش أَبَداً
فَإِذا أَفنَيتَنا فَكُنِ
كَيفَ تَسخو النَفسُ عَنكَ وَقَد
قُمتَ بِالغالي مِنَ الثَمَنِ
إذا أمعنا النظر في قوله تضحك الدنيا إلى ملك نرى إلى أي حد بلغت سخريته المبطنة بالأمين، وذلك حين ينعته بأنّه قام بالأحكام والسنن، وهو المعروف بتحلّله من الكثير من الأحكام والسنن. أليس في سخريته هذه بعد سياسي واضح يريد خلاله أن يفضح أمر الخليفة ويظهره بعريه الكامل أمام الناس.
إلى جانب الأبعاد النفسيّة والاجتماعيّة والسياسية للخمرة كانت لها مناحٍ فنيّة، من أهمّ النقاد الذين اهتموا بها وقاموا بشرحها: الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء، وأدونيس في (الثابت والمتحول)، وأحلام الزعيم في كتابها (أبو نواس بين العبث والاغتراب والتمرّد)، أراد الشاعر أن يتخذ مبدأ يعبّر عن اتجاهاته الفنيّة والفكريّة، ويحرص على التجديد وتحطيم الأسس القديمة للقصيدة العربية حتى تغدو هذه القصيدة صورة للواقع الاجتماعي والنفسي المعاش، لقد هاجم بعنف وضراوة طرائق القدامى في التعبير وافتتاحيات القصائد، يقول:
لا تَبكِ لَيلى وَلا تَطرَب إِلى هِندِ
وَاِشرَب عَلى الوَردِ مِن صهباء كَالوَردِ
لقد حاول أن يطرح قيماً اجتماعية جديدة، وأن يخلق أعرافاً من وحي الحياة المعاشة، فثورته على القوالب والأعراف القديمة كانت تصل به أحياناً إلى حد التمرّد حتى على أهم القيم الأخلاقية، ليس إلّا ليثبت مبدأه في عرض مذهبه الشعري الذي تفانى من أجله.
تجربة النواسي الشعريّة قابلة للبحث والحفر في خبايا مدلولاتها حتى لحظتنا الراهنة من حيث أبعادها ومضامينها، وقد أتينا على البعض منها ولكن مازال الشيء الكثير في حاجة للبحث والتقصي، وبخاصّة في الأبعاد والرمزيات، ومنها الأبعاد الروحيّة والدينيّة والتمثّلات الحياتيّة في المعنى الشعري.
المقال ليس انتصاراً لأبي نوّاس أو إتيان المختلف بدون حجّة، ولكن الإضاءة الأهمّ هي إيضاح المسافة بين النقد والاتّهام، ومحاولة إعادة الاعتبار للمنجز الإبداعي بعيداً عن الحشو والمزاجيّة بمنطلقات غير أكاديميّة وغير أدبيّة. المسافة بين النقد والانتقاد تحدّدها الرؤية الماوراء شخصيّة والمنبعثة من دلالات الأثر الفني وليس من حياة صاحبه، ولئن كانت مهمّة متى كان توظيفها دالّاً على بناء فكرة في الموضوع النقدي.