مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

في صمت الكلاموكلام الصمت

لاريب في أن الصمت والكلام يوجزان معنى يحمل على التضاد، ورغم ذلك لا يمكننا أن نفهم كلاً منهما باعتباره مضاداً للآخر بسبب من احتواء وتضمين كل منهما لنقيضه في معان تحتمل الإضمار والإشارة أكثر منها الثبات في مفهوم واحد، فغالباً ما يكون السكون معبأ ومشحوناً بكثافة انفعالية متوارية، فهناك معان تطفو ولم تجد كلمات تعبر عنها لذا يختزنها الصمت حتى تجد مستقراً لها في كلام ما، وبالمقابل هناك كلام يأخذ المرء إلى سكون مطبق في الأعماق والسريرة في نسبية المفاهيم.
وقد كان لسكوت شهرزاد عن الكلام المباح في ألف ليلة وليلة مرساة النجاة والهروب من الموت كوجه آخر للصمت، هذا الصمت المؤقت الذي اختزن طاقة تشويقية عالية بانتظار الأحداث التي لا تنتهي وتجعل شهريار يؤجل فعل الموت ترقباً لشغف السرد في تتالي الليل والنهار يقابله تعاقب الصمت والكلام، وهذا التناوب بين جناحي الصمت والكلام خلق الديمومة للحكاية العابرة للأزمان التي كانت من أهم تراثيات السرد والأكثر انتشاراً وتأثيراً، وكذلك نرى في القص القرآني بسورة مريم في (الآية 26) حيث كان الصمت نجاة إلى أن بانت الأمور وانجلى الضباب عن الحقائق في حالة مريم التي صمتت عندما جاءها قومها يسألون عن الطفل في حضنها بقوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرتُ لِلرَّحمنِ صَوماً فَلَن أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِياً).
فالكثير مما يختزنه الصمت من معان فيها تورية وكمون توزعت المواضيع التي يتفرع إليها بين الغزل والعشق والهيام، وفي موضع آخر عبرت عن الحلم والحكمة والتأني في النظر للأمور المستعصية والشائكة.
الصمت عند العاشقين
يأخذ الصمت بين المحبين كنوع من الكلام المضمر قوامه النظر والإيماء وتوفز الحواس، وقد ورد هذا التعبير في الغزل عند الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
أشارت بطرف العين خشية أهلها
إشـــــــارة محــــــــــزون ولــــــــــم تتكلــــم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحباً
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
وهنا قد وشى النظر بما يضمره السكوت ولكن في قول بشار بن برد تركته نهباً للحيرة والتساؤل بقوله:
لــــم يَطُـل لَيلـــــــي وَلَكِــــــن لَــــم أَنـــــَم
وَنَفـــى عَنّـــــي الكَــــرى طَيــــف أَلــــَم
وَإِذا قُلـــــــتُ لَهــــــا جــــــــودي لَنـــــــــا
خَرَجَــت بِالصَمــتِ عَــن لا وَنَعَــم
فالحيرة كانت وما زالت قدر العشاق في كل زمان ولكن للصمت كذلك وجه الحكمة عندما يميز المرء الوقت المناسب للإفصاح عما يبتغيه والسكوت عند الحاجة فقد قال الجاحظ: (واعلم أن الصمت في موضعه ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه وعند إصابة فرصته، وذاك صمتك عند من يعلم أنك لم تصمت عنه عيا ولا رهبة).
ففي الصمت حكمة ومعنى لا يدركها إلا من أوتي الفطنة والمعرفة ومن الجهل توجيه الكلام والحوار مع الحمقى والسفهاء في هذا المعنى يقول الشافعي:
قالوا سكتَّ وقد خُوصِمتَ قلتُ لهم
إنَّ الجواب لِبابِ الشرِّ مفتاحُ
والصَّمت عن جاهل أو أحمق شرف
وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح
أمَا ترَى الأُسود تُخشَى وهي صامتة
والكلب يُخسَى لعمري وهو نبَّاحُ
ومن الشعر الحديث أدلى أيمن معروف بمكابداته بين الصمت والكلام للمعنى المتأجج في كيانه:
أقسى من الصّمتِ
بلْ أقصى منَ اللّغةِ
تجتاحني النّارُ في تأويلِ أسئلتي
أُعَتِّقُ الصّوتَ
في الإعصارِ أشرعة
وأَنْهَرُ الموتَ في البلوى المعاصِرة
أُهَجِّئُ اللّيلَ
في ليلٍ وأُخبرُهُ
عنْ محنةِ الضّوءِ والحمَّى المُجَلجِلَةِ
علاقة الصمت والموت
كذلك العلاقة وثيقة الصلة بين الصمت والموت لأن هذا الأخير يتصالح مع الصمت بكل ما يوحيه من رهبة وتوجس وتوتر، فالموت كان ولا يزال أحجية غامضة يتوقف عندها الكائن حائراً ومصدوماً، إذ لم يرجع أحد من العالم الآخر ويخبرنا عما هناك وتلعب الشعائر الجنائزية دوراً كبيراً في تزجية موقف الفناء بالكثير من الصمت لرهبة وقدسية الموقف مثله مثل كل حالات عجز الإنسان عن فهم ومواجهة كل المواقف التي لا يستطيع ردها مثل الأمراض المستعصية التي تلجأ للصمت كملاذ غير آمن للتعبير عن العجز والموت والمرارة والانفصال عن الوجود فلا وجود للكلمات التي تستطيع المواساة وتغيير الإحساس فيها وهنا يكون الصمت أبلغ وأجدى تأثيراً، لأنه في اقتراب الموت يصاب الكلام بالاختناق، والصمت المرعب أمام جثة يصيب المرء بالذهول والوجل ومنه كانت دقيقة الصمت أثناء استذكار شهيد أو عزيز كنوع من التقديس لذكراه والتأمل في حضور الغائب بالذاكرة أو نوع من التماهي مع الصمت الأبدي للآخر في متاهة الغياب.
وفي لغة الحياة لغة الموسيقى تلعب درجات الصوت والوقف، القرار والجواب في تناوب فترات الصمت والصوت أهمية كبيرة في منح النغم انسيابية الروح المشبعة بأحاسيس فياضة موحية لما يقتضيه السماع من وقفات توحي بالتأمل في صدى اللحن وما يتركه بالنفس من مشاعر وشجون، فالصمت مثلاً بين نقرتين على البيانو هو إكمال للمعزوفة واللحن فالموسيقى فن الجمال الصوتي كلغة كونية يتشارك بها كل الناس، وقد درس الفارابي هذا الموضوع وربطه بين المبدأ الطبيعي لحدوث الصوت وكيفية حدوث الكلام، ففي الصمت إبهام وإغلاق، أي السكوت وعدم النطق بالكلام معنى مضمر مثل الإشارة والنصبة كأشكال ناطقة للصمت أو من سمات الصمت فالنُّصْبَة هي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد.
فالصوت كل ما وقر بأذن السامع، والكلام هو تعبير صوتي بلغة ما يجتمع على التفاهم بها مجموعة بشرية في مكان محدد أي هي اللفظ الدال على المعنى ويذهب دي سوسير في تعريف اللغة إلى القول بأنها: (اللغة نظام من العلامات أو الإشارات للتعبير عن الأفكار).
يقول باسم سليمان في دراسته عن الموضوع: (إن علو الحركة على السكون، والكلمة على الصمت في الأساطير القديمة تؤكده الديانات التوحيدية، حيث تمنح الكلمة قوة الخلق والدليل الحاسم في المحاجة بين الأنبياء والكفار. فالنبي إبراهيم بعد أن كسر الأصنام خاطب قومه، بأن يسألوا آلهتهم إن كانوا ينطقون! إن عدم قدرة الأصنام على النبس ببنت شفة، وصمتهم المطبق دليل على أنهم ليسوا آلهة. إن تفضيل الصوت/ الكلمة على الصمت في الأساطير والديانات التوحيدية يعود لأن كلمة الإله مطلوب سماعها، لذلك نجد الحض على إصمات كلمة الإنسان، كي يتحقق الإنصات للكلمة الإلهية) ومن هنا كانت الكلمة بداية الوجود الإنساني (في البدء كانت الكلمة).
في حالات كثيرة يكون الصمت جبناً وخوفاً من مجابهة جبروت الطغيان ولكن أساليب التواصل في الزمن الحديث لا مكان فيه للصمت فسيلان الكلام المستمر عبر الشبكات الاجتماعية يصل بالمرء إلى عدم السماع ويعلن الوصول إلى نقيضه وهو الصمت نتيجة للأصوات الجوفاء التي لا تعبر عن أي معنى.
بقول دافيد لوطريون في كتابه الصمت لغة المعنى والوجود: (تسحق الدكتاتورية الكلام في أصله والحداثة تنشره في اللامبالاة بعد أن تفرغه من معناه وإذا كنا نناضل دوماً ضد الأطياف المنبعثة من الدكتاتورية، فإننا بالمقابل منغمسون في أجواء الحداثة، وبالتأكيد أن المخرج الأولي أي المؤسس هو التشارك بين الصمت والكلام) فدلالة هذه التشاركية لا تمنح نفسها إلا من خلال الظروف التي تخاطر بها أي أن يكون الحوار متناوباً، أن نتكلم مرة وننصت مرة أخرى فالصمت والكلام ليسا ضدين في حقيقة الأمر وإنما معان محتشدة في نشاطهما ومدلولاتهما.
فحتى الصمت المحمل بالمعنى يحتاج وجوداً اجتماعياً ضمن الجماعة لتوقع مراميه، أما الصمت المعزول فلا يوحي بأي معنى لعدم وجود الوسط الاجتماعي الذي يقوم فهمه وتأويله أي ضرورة وجود من يشهد الصمت وهنا وجود الجماعة مهم وإلا كان العدم، فنشوء الكلام أتى نتيجة وجود المجتمع والعلاقات الاجتماعية في حاجة البشر للتواصل والتفاهم وهنا نلحظ موضوعين مهمين أولهما نشأة اللغة في الفصيلة الإنسانية، وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني لأن العالم ينكشف من خلال اللغة حيث الفكر مادة الكلام، وهذا الاشتغال على منشأ اللغة لدى الفصيلة الإنسانية والأسس التي قام عليها عبر التخاطب بالأصوات كان محط اهتمام علماء اللغات، وقد تعددت النظريات القائلة بنشوئها والتي ظهرت في البداية كنوع من محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة وكيف أن اللغة استحدثت بالتواضع والاتفاق. ولكن ما يهمنا هنا أن الكلمة هي النسغ الذي نقل إلينا الإرث الفكري لمجمل التاريخ الإنساني وكان وسيلة تواصل ونقل للمعرفة بكافة أشكالها، والصمت والكلام يتجاوران ويتبادلان التعبير عن الأفكار في ثنائية مترابطة تتنوع بين التدرج والتضاد في وضوح المعنى وغموضه.

ذو صلة