مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

مكتبة المخيلة

وانكشفت الريح عن أهوالها، وبدت مؤلفة من ذرات الماء المضاءة ببطء، ومن غاز الهيدروجين الأحادي النواة، ومن أبجدية رمزية لا يعلمها إلاّ الله، ومع ذلك، حاولتُ أن لا أكتب كلّ ما يُبصرهُ حدسي، كي لا أصاب بغيبوبة الوجود وأدخل في صحوة اللا وجود، تلك الغيبوبة التي تداهمني مرة كل سنوات، فأشعر بأن عرقاً من عروق دمي، وحزمة من روحي، تصاب بالموت المؤقت على فقدان شخص من أحبّتي.
وبالفعل، صافحتُ نفسي لأقرأها خلسةً منها، شاكرة الله على نعمه الكثيرة، ومنها بصيرتي التي تستشفّ احتمالات الناس وأعماقهم وتفكيرهم بطريقة لا أعلم كيف تتمّ تفكيكاً وتركيباً، لكنها تشفّ عن كل ذلك من حيث أجهل.
وطبعاً، لا يحدث ذلك دائماً معي، بل ربما، غالباً، وأتمتّع بأعراض الحالة التي لن يكتشفها الأطباء إن لم أكتبها لهم الآن، ومنها سخونة معنوية محايثة لحرارة في الرؤيا لا الجسد، وقد يشملها ارتفاع حرارة يتمركز بين المخيخ والدماع والأعصاب، فتسري حالة أقرب إلى لا توازن ضغط الدم، ونسبة السكّري، وتبدأ النفس دخولها في عالم غير هذا العالم، قد يصل إلى فقدان الوعي لمدة أقلّها 5 دقائق وأطولها 7 ساعات متواصلة.
وكان أن ظهرت نفسي وصافحتني لتخبرني بأننا لا نعلم من ينطق بدلاً منا ونحن نكتب أو نعمل أو نحيا أو ننام أو نستيقظ، ليس الصوت صوتنا، لكننا تآلفنا معه لدرجة نشعر وكأنه صوتنا الذي نمتلكه، ونحن لا نملك الصوت وحتى الصمت، لكننا تآلفنا مع حركات كتلتنا الجسدية وكأنها لنا، لكن، أين تذهب ظلالنا التي تأفل مع كل شمس وقمر؟ وكيف تنقص منا ونحن لا ننتبه لذلك؟ وكيف نستعيدنا بعد مرض ما؟ أو أزمة ما؟ أو تعب ما؟ أو إرهاق ما؟
كيف يعود الآفل منا ليشرق مجدداً مثل هلال مرّ إلى طور البدر ثم أصبح محاقاً؟
وكيف سنستعيد ما غاب منا مع رائحة الورد التي احتفظت بظلّ عبورنا ومعانينا وأنفاسنا؟ وكيف تختزن الأشجار والطرقات والبيوت والجدران ظلال أفكارنا؟ كيف لكل مكان أو نبات أو كائن أن يحتفظ بآثارنا المتنوعة؟ وكيف لنا أن لا نرسّخ صوره ومفاهيمه التي امتزجت معنا، بيننا، ودخلنا معاً في مرحلة التحولات اللا شعورية التي تُنتج منا أطيافاً جديدة متجذّرة بالأطياف القديمة؟
تقرأني روحي بلمح البصر، وأحاول أن أقرأ روحي طوال عمري الذي كتبه الله عليّ، لعلي أصل إلى ذرّة من المعرفة، لأعود صافية نقية كما الفطرة التي أوصلتني إلى هذه الحياة المنسوجة بوجودكم المعلوم ووجود الوجود اللا معلوم.
في كل لحظة، نعبر بين حيوات لا مفهومة، لا تدركها الغالبية، إلاّ تلك الأرواح التي امتلكت حساسية كونية وبصيرة متغيرة تتطابق مع المتحولات الكلية فتترادف وتتصارع وتتأمّل وتتناغم وتلتحم وتنفصل وتكتب وتمحو وتنتقد وتشذّب السلبيات من ذاتها لتنطلق بجمالية متجددة إلى دواخلها والعالم مع كل شروق جديد حتى لو كانت في قبرها الأخير المغروز في رحم الأرض.
لا أعرف، تماماً، كيف دخلت نفسي إلى مكتبة مخيلتي، وسحبت من رفوفها المكتظة بالكتب والمخطوطات مخطوطتي (قارئة الأرواح)، ووضعتها أمامي، على الطاولة، كما تغرس الريح لغة أخرى في باطن الأرض، أو كما حافة من حواف الكون تتمدد وهي تحضن جوهرها الأكثر غموضاً.
يا نفسي البيضاء، أيتها الراحلة الأزلية، كيف تدخلين موشور الأبجدية وتخرجين بألوان الطيف؟ أي ضوء تطاردينه مثل فراشات تأبى النزوح حتى الموت؟
يا طفولتي المتسلسلة معي، وفيّ، حتى حفرتي الأخيرة، يا من ترابطين بيني، كيف نتغلّب على كل هذا الوهم الخارجي؟

ذو صلة