مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

هل يصبح القتل رحمة في ظل انعدام الأمل؟

تسرد الفيلسوفة الفرنسية جاكلين روس في كتابها الفكر الأخلاقي المعاصر: (لقد أدت المشكلات الجديدة الناجمة عن تسارع التقدم البيولوجي إلى ظهور الحاجة لتنظيم أخلاقي، ومن هنا نشأت لجان الأخلاق النظرية منذ الستينات والسبعينات، أعقبها وضع تقرير بعنوان: (علوم الحياة: من الأخلاق النظرية إلى القانون) عام 1988، بعدها تم الاقتراع في مجلس الشيوخ، وبعد تردد وسباق برلماني طويل، على وضع تشريعات واضحة، أخيراً أقر المجلس الدستوري عام 1994 ثلاثة قوانين تحفظ الحياة والجسد البشري). يقول أحد هذه القوانين بشكل واضح: (تُمنع الإساءة إلى الجسد البشري إلا عند ضرورة معالجة الشخص)، من هنا تظهر أهمية الفلسفة، ففلسفة الأخلاق التي هي أحد تفرعات مبحث القيم، تفرّع عنها الأخلاق التطبيقية، وتفرّع عنها هي الأخرى الأخلاق البيولوجية الطبية، أو أخلاق البيوطبية اختصاراً، أو البيوتقيا، كما سمّاها العالم فان بوتر عام 1970، هذا السعي الفلسفي الطويل، كان هدفه في النهاية حفظ حياة الإنسان، والتأكد من أخلاقية الممارسات الطبية والعلمية الحديثة، وهو المدخل الأنسب لتناول هذا العمل.

يبدأ المسلسل بتاريخ لافت للغاية، 11 سبتمبر 2005، وهو تاريخ لم يوضع اعتباطاً، فهو إشارة مبكرة إلى أن ما سنشاهده هو كارثة الولايات المتحدة البيئية التي لا تقل عن نظيرتها الإرهابية شيئاً، 13 يوماً بعد إعصار كاترينا المدمر، وهو أكثر الأعاصير دموية، والأكثر ضرراً، وأحد أعنف خمسة أعاصير في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بلغ عدد وفياته نحو 1833 قتيلاً، وقُدرت الخسائر المالية الناتجة عنه بأكثر من 108 مليارات دولار أمريكي، عزز كل ذلك بصرياً استخدام لقطات وثائقية حقيقية من الإعصار في عدة مواضع، ليس فقط كمفتتح أو لوضع المشاهد في أجواء الكارثة، بل استخدمت أحياناً لشرح معلومات مباشرة وللتأثير العاطفي والدرامي في بعض المواضع بطريقة متوازنة ودقيقة دون إسراف.
يضع العمل علامة استفهام كبيرة منذ الحلقة الأولى، لماذا بلغ عدد الوفيات في مستشفى ميموريال 45 حالة وفاة، وهو رقم فاق كل أرقام وفيّات المستشفيات الأخرى التي تضررت من جراء الإعصار، هل حدثت جرائم قتل أثناء الفوضى الناجمة عن الفيضان؟ نعود للوراء لنتعرف على المستشفى وطاقم الأطباء والتمريض وعدد من الحالات المرضية، إضافة إلى المؤسسة الطبية المستقلة (لايڤ كير) التي تقع بأحد طوابق المستشفى، نعود إلى اليوم الأول من إعصار كاترينا، حيث نرى تشريحاً دقيقاً لكافة أوجه الكارثة.
الوجه الأول هو وجه إهمال وضع خطة طوارئ استباقية، بدءاً من إدارة المستشفى وحتى مؤسسة الرئاسة بقيادة جورج بوش في ذلك الوقت، فالمؤسسة الأم المالكة لمستشفى ميموريال، لم تختر بعناية من يشغل منصب مُنفذ خطة الطوارئ، لنجد أنها ليست على دراية بتاريخ المبنى ومتانته وتفاصيله الهندسية، كما لم تتلق أي تدريب يخص أي ملابسات مماثلة، مما يجعلها تلجأ إلى كتاب إدارة الأزمات الذي وضعته المؤسسة، لنكتشف أنه وضع سيناريوهات لأشد الكوارث تطرفاً وندرة مثل مواجهة حرب بيولوجية، ولكنها لم تضع خطة إخلاء واضحة في حالة الفيضان، وهو الاحتمال الأقرب والأكثر واقعية لوقوع الولاية في مدار الأعاصير، وهكذا نحن أمام سيدة غير مدربة دون خطة تسير على هداها، وحتى مع وجود منصة هبوط للمروحيات خاصة بالمستشفى، نكتشف أنها لم يتم اختبارها لقرابة عقدين من الزمن، إهمال واضح في كل تفصيلة من إدارة المستشفى، سواء كانت الإدارة المباشرة أو المركزية.
ومع تتابع الأحداث ينكشف النقاب عن وجه إهمال الحكومة الأمريكية، التي أولاً قد بنت مصدات للفيضان غير مطابقة للمقاييس، وعلى تربة سهلة التفكك، أدت في النهاية إلى ارتفاع منسوب المياه وغرق مدينة نيو أورلينز بالكامل، وبالتبعية مستشفى ميموريال التي تقع في قلبها، متابعة مشاهد الغرق، بينما يحاول طاقم المستشفى إنقاذ الطعام والشراب والمرضى إلى الأدوار العليا، ومن ثم غرق مولدات الكهرباء الاحتياطية في القبو وانقطاع الكهرباء، مع درجة حرارة مرتفعة ورطوبة قاسية، تلك المشاهد ستعجلك تتذكر غرق السفينة تيتانيك، خصوصاً مع متابعة ارتفاع منسوب المياه المستمر الذي يهدد بانهيار مبنى المستشفى نفسه. يلي كل ذلك إهمال أجهزة الدولة، التي تأخرت في مد يد العون بإرسال المروحيات وقوارب الإنقاذ لإخلاء المستشفى من رواده، واكتفاء جورج بوش بالتحليق بطائرته الرئاسية فوق منطقة الإعصار بعد انتهائه لمتابعة حجم الأضرار، لكن دون تدخل حقيقي وسريع لإنقاذ حياة المواطنين.
الوجه الثاني هو الجشع غير الآدمي للاستفادة من الأزمة، ففي حين يكابد أطباء ومرضى مستشفى ميموريال الفيضان، يفكر رؤساء المؤسسة الأم في الأرباح التي من الممكن تحصيلها من جراء ما يحدث، ومع ذلك لا يقدمون يد العون، بل يُغرقون المستغيثين بهم ببيروقراطية لا تتناسب أبداً مع ما يمرون به، ولولا وجود شخص لديه بقية يقظة ضمير ربما لتركوهم للمجهول، فتولى هو الاتصال بخفر السواحل وبقية الجهات المنوطة لإنقاذهم، فالمسؤولون إما مشغولون أو من غير الممكن الوصول لهم لأنهم في فترة إجازة.
الوجه الثالث هو ما الذي يبقى من إنسانيتنا وتحضرنا إن كنا نواجه الموت المحتوم! من البديهي أن تتفكك المبادئ والأخلاق أمام غريزة البقاء، ولذلك فور وقوع الأزمة، لجأ المواطنون إلى سرقة محلات البقالة لأنهم لم يعد لديهم أي مؤونة غذائية، وداخل المستشفى المنغلق على نفسه حدثت حالات سرقة! وتأهب الطاقم الإداري بالأسلحة لمنع الوافدين من الخارج الذين يريدون أن يحتموا بالمستشفى، تنتشر الإشاعات التي تثير الرعب، إشاعات عن وجود وحوش بشرية في الخارج وقناصة وحالات قتل جماعي، ويظهر درس التحضر الإنساني من الطاقم الطبي نفسه، فمن رغب في النجاة الفردية هلك، أما التكاتف من أجل النجاة الجماعية، ومحاولة توزيع الماء والعلاج والاهتمام بأكثر الطرق العادلة الممكنة، والتضامن يداً بيد لتخفيف الكارثة هو الذي يصنع الفارق بين البدائيين والمتحضرين، حتى في ظل نفس الظروف القاسية.
فكيف إذن على الرغم من كل ذلك التكاتف بين جميع قاطني المستشفى، حدثت حالات الوفاة المرتفعة، وهنا نعود لأول مرة ظهرت فيها فكرة (النساء والأطفال أولاً) عام 1852 أثناء إخلاء سفينة القوات البحرية الملكية (بيركينهيد)، بعدما تم تدميرها، ولم تكن هناك قوارب نجاة لجميع الركاب، وقرر الجنود البقاء على متنها، مما سمح للنساء والأطفال بالصعود إلى القوارب بأمان والهروب من الغرق. نجا 193 فقط من بين 643 شخصاً كانوا على متنها، وكانت نبل وشهامة وفروسية الجنود هو ما أدى إلى ظهور هذا البروتوكول غير الرسمي عند إخلاء السفن، وقد تم استخدامه لاحقاً أثناء غرق السفينة تيتانيك.
ذلك الموقف كان مُلهماً للفلسفة الأخلاقية التطبيقية، خصوصاً البيوطبية منها، فكيف يتم ترتيب الأشخاص الأكثر احتياجاً للمساعدة الطبية أياً كان نوعها، سواءً كانت عناية مركزة أو نقل أعضاء أو جهاز حضانة للرضع خصوصاً في ظل الندرة، هل الترتيب يخضع للعمر؟ أم لصاحب فرص النجاة الأكبر؟ أم الأقل؟ هل للأعزب أم المسؤول عن الأسرة؟ هل للمواطن العادي أم العالم الفذ أو صاحب المنصب رفيع المستوى؟ هل للرضع أم المسنين؟ معضلة ترتيب أصاحب الأولويات هي ما أدت في النهاية إلى ذلك المأزق.
ففي حالة إجلاء المستشفى، رأى الأطباء أن حالة المرضى الخطيرة هي الأولى بالإجلاء، وظل ذلك البرتوكول المُتبع في حالات الإجلاء الأولى، رغم أنها تستنزف الوقت والجهد الأكبر، فأنت بحاجة لنقل مريض لا يتحرك على سلالم المستشفى في ظل انقطاع التيار الكهربائي، وبعدها سلالم منصة هبوط المروحيات الضيق وغير المُجهز لهكذا حالات، عملية تستغرق أربعين دقيقة لنقل حالة واحدة فقط، ثم تعيد الكرة من جديد، في ظل وقت ضيق وحالة إجهاد بدني أحلت بالجميع، إلى أن توقف إمداد الطائرات، وأصبحت القوارب هي طريقة الإخلاء الأكثر فاعلية، ولكنها جلبت معها معضلة جديدة.
فالمسؤول عن قوارب النجاة رأى أن الأولوية هي لأصحاب فرص النجاة الأكبر، وهكذا طلب من الطاقم الطبي أن يكون الترتيب أولاً لمن يستطيع التحرك بشكل طبيعي، وثانياً لمن يحتاج إلى مساعدة بسيطة، وثالثاً لمن يحتاج إلى فريق لنقله، ورابعاً وأخيراً الحالات الميؤوس منها أصحاب الأمراض القاتلة والوزن الزائد ممن لن يكون نقلهم عملية ممكنة وغيرهم، وهكذا انقلبت الآية ليصبح أول من كان يتم إجلاؤه في ذيل القائمة، مما يعني أنه أصبح في مواجهة حتمية مع الموت، وهذا يعني أنهم سيتركون في معاناة وألم لا يُحتمل حتى يفقدوا حياتهم بأكثر الطرق ألماً ووحدة، مع ملاحظة أنه لم يذهب إليهم أحد سوى بعد أسبوع كامل، وهو ما أدركته الطبيبة (آن بو) وقررت أن تمنح مرضاها السكينة بدلاً من مواجهة هذا المصير الموحش بمفردهم.
آن بو وجدت نفسها أمام معضلة أخلاقية قاتلة، فوظيفتها كطبيبة هو العناية بمرضاها ومحاولة تقديم أفضل مساعدة ممكنة لهم للشفاء، خصوصاً أنها طبيبة مرموقة متخصصة في أورام الأنف والأذن والحنجرة، وفي المقابل وضعت في موقف يتحتم عليها أن تترك مرضاها يواجهوا الألم والموت بلا أنيس، لذلك اتخذت قرار قتلهم قتلاً رحيماً وتحملت مسؤولية قرارها كاملاً، فهي من كتبت الوصفات الطبية لمجموعة الأدوية التي عندما تختلط سوياً تؤدي للموت، وهي من حقنت جميع المرضى بتلك الأدوية بنفسها، وتأكدت أن كل مرضاها قد رحلوا في سلام وهدوء، ولم ترد أن يتحمل أحد آخر ذلك القرار، أو حتى يراها وهي تفعله حتى لا يكون شريكاً بالسلب، وهكذا قامت بسلب تسعة مرضى حياتهم.
ومن الواضح أن صُنّاع العمل لا يؤيدون قرارها ولا هم ضده بالكامل، فمن خلال سير التحقيقات التي تتبعتها الأجهزة القضائية، رأينا كيف انقسمت حولها الآراء، بين كونها الطبيبة الرحيمة صاحبة المسؤولية التي لم تخلف وراءها مريضاً بمصير مظلم، وبين أنها المجرمة القاتلة التي لعبت دور الإله الذي يحدد من له الحق في الموت ومن له الحق في الحياة، رغم أن وجود أحياء بعد كل تلك المدة أمر مستبعد، بعض الآراء وجدت أن المرضى استراحوا بين يدي أمينة، وبعضهم رأى أنهم قُتلوا دون موافقة منهم وهم ضعفاء غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، وهكذا يكون القتل الرحيم مثار جدل كبير داخل وخارج الأوساط الطبية والفلسفية نفسها، والأمر متروك للمشاهد ليحدد وجهة نظره فيما حدث، هل تتحمل آن بو المسؤولية وحدها، أم أن الحكومة التي لم تمد لهم يد العون بشكل كاف، وإدارة المستشفى التي لم تضع أي خطة لإخلاء المستشفى، هما من وضع آن بو أمام هذا الاختيار الأخلاقي الصعب؟
ويظل السؤال الصعب في هذه الملابسات التي هي فوق طاقة أي بشري على تحمّلها: هل يمكن اعتبار القتل فعلاً أخلاقياً رحيماً في ظل انعدام كافة سبل الأمل في النجاة؟!

ذو صلة