مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

(موزيس).. الموسيقى عصب الغناء.. والحياة

هل هناك أدنى شك في أن الإنسان الأول بحث عن وسيلة مُثلى للتخاطب والتفاهم مع بني جنسه، أو مع شتى الكائنات التي تقاسمت معه أكسجين الحياة على ظهر البسيطة؟
ذهب الباحثون وعلماء الاجتماع إلى القول بوجود نظرية مفادها: (إن اللغة نشأت من الصرخات غير المبينة للحيوانات)، وهي بتصرف نظرية محاكاة الأصوات الطبيعية، وهي تشير إلى نظريات أسسها العديد من العلماء عن أصل اللغة البشرية. وتشير إلى أن أول اللغات البشرية تطورت عن طريق المحاكاة الصوتية وتقليد الأصوات الطبيعية، ويقول الباحث مايكل كورباليس في كتابه (في نشأة اللغة): (إن البشر منحدرون إلى فئة الطيور مثبتاً بذلك أن الطيور تسعى على ساقين كالبشر، ولا نغفل عن الإيحاءات والأصوات التي تصدرها الطيور، فأصبح يقلدها الإنسان عندما وجد على الأرض كالبكاء والصراخ لرغبة الأشياء إلى أن خرجت لغة تفرد بها البشر بعيداً عن الطيور).
وأغلب الظن أنه بالفطرة تحول الصراخ والعواء والبكاء إلى دقاتٍ ذات إيقاع معين على الصخور أو النقر على قطع الخشب، فواحدة للتحذير من اقتراب عدو، وأخرى للنداء على الطعام، وثالثة للدعوة للحب وتلبية نداء الطبيعة، حتى تحولت تلك الدقات والنداءات إلى ما يشبه دقات ونغمات الموسيقى المعروفة في عصرنا، وتشير بعض المعتقدات الصينية القديمة إلى أن الموسيقى نشأت قبل وجود الإنسان على الأرض وهي أولى مخلوقات الآلهة وإبداعاتها، فيما يرى آخرون أن أصلها يعود إلى نشأة الحياة البشرية على الأرض عندما حاول الإنسان البدائي أن يستخدم أقدم آلة موسيقية عرفها العالم وهي (حنجرة الإنسان).
ومع دوران تروس (آلة الزمن)، دارت معها كل تروس المتطلبات الحياتية على الأرض من طقوس الأفراح والأحزان والميلاد والموت والحب والحرب ومشاعر وأحاسيس الانتصار والانكسار، بل صارت الأصوات الموسيقية مصبوغة بتراث البيئة لتلك الشعوب التي قامت بإنشاء آلاتها ومتابعة نموها وتطورها، وتفردت بنغمات محدودة ومعروفة بآلات وترية أو آلات نفخ من ابتكاراتها وصنع أيديها.
ثم تطورت المجتمعات الإنسانية تطوراً طبيعياً ومنطقياً عبر الزمن، ليتم تضفير الموسيقى ببعض الكلمات وتلحينها بألحانٍ تعبر عن الحالة المراد التعبير عنها في أغانٍ شعبية بمصاحبة الدفوف والكفوف والنغمات الصادرة على استحياء من الآلات الموسيقية المستحدثة، وتنطوي كلمات مناسبات الأفراح والأحزان والانتصارات والانكسارات، لتبقى فقط إيقاعات الموسيقى في الأذهان ولا تندثر، وربما يتم تركيب كلمات أخرى جديدة عليها، لتعطيها استمرارية البقاء والخلود، ربما لتجيب عن أسئلة أهل الفن في عصرنا الحالي: ما عناصر نجاح الأغنية؟ وأين يكمن السر في هذا الثالوث الذي يتشكل منه جسد الأغنية، وهل هو في (الكلمات) أم (اللحن) الذي يقوم بمحاولة التعبير عن مكنون ومضمون تلك الكلمات أم أن (الموسيقى) هي التي تحمل على عاتقها كل أسرار النجاح؟!
ومما لاشك فيه أن (الموسيقى) تمثل العمود الفقري لجسد وقوام الأغنية بكل أنواعها ومشاربها وفروعها التي تتراوح بين آفاق العاطفي والوطني والديني في كل العصور، ويُعتقد أن المصريين هم أول شعب ابتكر الأغنية منذ عهد الفراعنة الأولين، ولكننا في الوقت نفسه لا ننكر مدى تأثير الكلمة المنتقاة على التعبير بالموسيقى عن مضمون (الكلمة) وما تشير إليه من نبرة حزن أو فرح أو التعبير عن البهجة والانتصار، فتأتي النغمات الموسيقية لتقوم بالترجمة والتجسيد للمعاني والأهداف التي يهدف إليها الشاعر الذي صاغ أغنيته بلغة أهل وطنه وبلاده، ويجد (الموسيقار) أن موسيقاه مصبوغة تلقائياً بلون تراث شعبه وقبيلته ووطنه، وللوهلة الأولى نقول: تلك موسيقى أمازيغية أو تركية أو مصرية أو آتية من أعماق قارة آسيا أو شبه القارة الهندية.
ولعلنا نعرف أنه قد خرج من عباءة (الموسيقار) ما يُعرف بـ(التوزيع الموسيقي) والقائم على تنفيذه من يسمى في عصرنا الحالي بلقب (الموزِّع الموسيقي)، وهو التوزيع الذي يعد بحسب رأي المتخصصين (.. إحدى المحطات المهمة في تنفيذ الأغنية، حيث يرسم الموزع (خريطة طريق) للأغنية، تبدأ حدودها مع الكلمات، وتنتهي ألحاناً كاملة في آذان المستمعين، سواء كانت ألحاناً راقصة أو حزينة، أو طرباً أصيلاً، ومن أجل ذلك يرسم الموزع الموسيقي الخريطة التي يسير عليها المطرب والملحن وتحديد الآلات المصاحبة، ومعها يكتسب التوزيع الموسيقي أهميته في إعداد الأغنية..).
وتأتي المرحلة التالية من مهام الموزع الموسيقي بتصرف بتوليف وتطبيع اللحن الأساسي ليتم عزفه بواسطة مجموعة آلات موسيقية بعيدة عن الآلات التي استخدمت في التوزيع، حيث يتم تقسيم اللحن في البداية على العود أو الجيتار وعمل توليفة بعد إجراء التعديلات الخاصة على النوتة لنقلها إلى أجهزة أخرى مثل البيانو أو الكمان أو القانون مع كتابة كل ذلك فيما يشبه تحويل القصة إلى سيناريو وحوار في لغة التأليف.
أما المرحلة الأخيرة من مهمة الموزع الموسيقي فتنتهي بالتوزيع النهائي للحن وإعداده من خلال نوتة موسيقية مكتوبة ومدوَّن بها المقامات والجُمَل اللحنية، وتتوقف جودتها على مدى تفوق الموزع الموسيقي، وخبرته في العمل بهذا المجال وتوصيف اللحن وكتابة هارموني يتضمن التركيبات والتعبيرات لتعريف كل عازف تكنيك وديناميكية العزف ونقل إحساس الموزع أو مؤلف الجملة الموسيقية إلى العازف، ووضع تصوير لحني مناسب لكل آلة على حدة.
إذن.. في كل مراحل (الأغنية) منذ عصر (زرياب) و(ولاَّدة بنت المستكفي) حبيبة الشاعر (ابن زيدون) وهي التي كانت تنشد الشعر وتلعب ببراعة منقطعة النظير على الآلات الموسيقية، من يومها أصبحت (الموسيقى) هي العصب المحرِّك لكل العازفين على آلاتهم بشتى صنوفها وأنواعها ومشاربها واتجاهاتها، لتترك الأثر الفعال على جدران الروح والقلب والوجدان لكل من يستمع إليها في ساعات الصفاء الروحي، ومحاولة الهروب من ضجيج الحياة وآلاتها الميكانيكية الصاخبة.
ولعل ما يؤكد ويدعم رأيي في الانحياز إلى (الموسيقى) كعامل أساس ومؤثر في عصب الأغنية الشعبية الوطنية والدينية والعاطفية، هو أن الموسيقى والغناء هما من أقدم الفنون عهداً في تاريخ الإنسان، وقد قيل إن الإنسان قام بـ(الغناء) قبل أن يتكلم، فكان يقلّد العاصفة في صخبها والجدول في انسيابه وهدوئه، كما كان يعبّر عن عواطف القلب بالألحان الغزليَّة وعن وَرَعِه بالتراتيل الدينية وعن قوّته بالأناشيد الحماسية، ولعلنا نستند إلى ما ذكره علماء الاجتماع ومؤرخو حقبة الفنون. إن هذه اللفظة مشتقة من أصل يوناني: (موزيس) وترجع هذه اللفظة بالأصل إلى (ميز) وهو إله من آلهة الفنون عند الإغريق. ولعل السبق عن الإغريق ما جاء في سفر التكوين على لسان الأب (جورج بيروتي) في مقالاته عن الطقس القبطي (صفحة كنيسة الإسكندرية للأقباط الكاثوليك بمصر) يقول: (.. إن (يوبال) وهو من سلالة قايين ابن آدم الذي عاش قبل الطوفان أي نحو أكثر من أربعة آلاف سنة ق.م. إنه أول من عزف على العود والمزمار. وكانت الموسيقى عند العبرانيين مزيجاً من الغناء والرقص والمرافقة الآلية، وسُمي الشعر الغنائي عندهم بالمزامير وهي مجموعة أناشيد وقصائد وتسابيح كتبت بوحي من الله. وكان للشعب العبراني ملك يُدعى داود وكان ذا صوت جميل وعازفاً على العود والقيثارة..).
إذن.. لا صوت يعلو فوق صوت الموسيقى التي تتبع الأصول والأعراف الشعبية المتوارثة عبر الأحقاب الطويلة من الزمن، وترك الأجداد العديد من الصور والتماثيل على جدران المعابد بقيثاراتهم وأرغولهم ومزاميرهم، ليؤكدوا على الحقيقة الراسخة أن الموسيقى هي الشفاء والدواء الناجع لكل أمراض الجسد والروح، وعصب التغني والغناء حيث تضفي على الحياة ما يلزم من البهجة والسرور فتعيننا على المضي قدماً في حياتنا لما نستمده من طاقة إيجابية تخرج من الصدور زفرات الارتياح وتشحن الروح بالأشجان والمشاعر حتى في غياب الكلمة فالموسيقى المحضة وحدها تستطيع.
لذلك ستظل الموسيقى قادرة على التعبير عمَّا يختلج في قلوبنا من عواطف، وما يعتري عقولنا من خيالات، وما تستشعره نفوسنا من انفعالات، ويتم كل هذا بسلاسة تختص بها أداء وقدرة ومهارة دون منازع ولا منافس تضاهيها فيه مهارة أي لغة إلاّها! فهي بحق أنقى لغة تفيض الروح الإنسانية هياماً بها، وألصق الفنون بأعماق الذات الإنسانية.

ذو صلة