مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

رؤية جديدة للتاريخ

منذ اجتمع العرب في مجموعات بشرية لها اهتمامات اجتماعية واقتصادية وسياسية، باتت الضرورة ملحة للتأريخ وإعادة كتابة التاريخ. وأصبحت المطالبة بإعادة كتابة التاريخ، بما في ذلك مراجعته والتدقيق فيه من الملفات الأكثر طرحاً وتسليطاً للضوء. خصوصاً على مستوى نقل الأحداث وإعادة بناء المشهد العام لحدث أو حقبة معينة. وتعدّ في هذا المجال المصداقية من أكثر المصطلحات طرحاً بعيداً عن الأهواء والانحياز في الكتابة التاريخية وضيق الأفق التحليلي وانعدام الدقة.
يؤكد الدكتور عبداللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن بالجامعة التونسية اعتراضه على مصطلح إعادة كتابة التاريخ. واعتبره من المصطلحات غير الدقيقة علمياً إذ من الصواب القول رؤية جديدة للتاريخ، لأن كتابة التاريخ في رأيه هي نوع من الاجتهادات والمقاربات لرؤية حقبة تاريخية معينة من قبل مؤرخين بمناهج مختلفة يعتمدونها. أما إذا استخدمنا مصطلح إعادة كتابة التاريخ فكأننا نعتبر أن كل ما كتب هو غير دقيق وغير سليم وهذا أمر أيضاً غير علمي. هذا ما يدعو في رأيه إلى اعتماد مصطلح رؤية جديدة لكتابة التاريخ العربي. يعد حقل التاريخ سواء بإعادة كتابته أو تفسيره مهماً بالنسبة للعرب لأنه يعبر عن ماضي الشعوب وعن تجربة صاغها الإنسان في زمن محدد. كما يشمل التاريخ في عمقه الحاضر والمستقبل فلا يمكن صياغة رؤية للتاريخ مستقبلية دون الاستفادة من الانتكاسات والنجاحات بعد تمحيصها ونقدها وتناول إيجابياتها وسلبياتها. إلى جانب القراءة الموضوعية للفعل التاريخي بوضعه في ظرفيته الحقيقية وإطاره المكاني والزماني دون إسقاطه على الحاضر. فالحقيقة في تمثّل التاريخ العربي في حقبه المختلفة تكمن في الوثائق والشهادات الحية والحجج الدقيقة، وليس في الأهواء والمصالح والانتماءات وما من شأنه أن يطعن في مصداقية المؤرخين. غير أنّ هذا التمثّل من شأنه أن يصطدم بكثير من الصعوبات تحول دون تحقيق النتائج المرجوة في إعادة كتابة التاريخ القديم على أسس علمية، من ذلك تأثير الأيديولوجيا التي من شأنها أن تعيد تشكيل الماضي وتركيبه على طريقة الإملاء والتوجيه وغياب المصداقية. وفي هذا الإطار يوضح الباحث في التاريخ المعاصر عبداللطيف الحناشي أننا نشهد منذ -تقريباً- أواسط الستينات من القرن الماضي، ثورة في مناهج كتابة التاريخ بجميع حقوله. أمر استفاد منه في رأيه عدد كبير من المؤرخين العرب. وبخاصة في بلدان المغرب العربي وتحديداً المغرب الأقصى وتونس، وبعض المؤرخين العرب الذين يقيمون في بعض البلدان الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية. لكن العديد من المؤسسات البحثية العربية ساهمت بقدر أو بآخر في صياغة مثل هذه الرؤية باستخدام مناهج علمية غير متحزبة ولا مؤدلجة. في حين ساهمت بعض الأنظمة العربية، خصوصاً التي اعتمدت الأيديولوجية القومية، في كتابة تاريخ يتماهى وفكرها وإستراتيجيتها السياسية، وهو ما حصل زمن عبدالناصر وكذلك نظام البعث في كل من العراق وسوريا. وهذا التوظيف حسب تعبيره يبتعد عن المفهوم الدقيق للكتابة التاريخية العلمية، وهو أمر أيضاً عرفته أوروبا في فترات محددة من تاريخها السياسي، من هنا يفتح المجال للحديث عن المعوقات في كتابة التاريخ سواء القُطري أو العربي، إذ يتطلب ذلك بشكل عام حسب قوله (جهداً كبيراً من قبل المؤرخين وهذا بدوره يتطلب مشروعاً تتكفل به الجامعات ومراكز البحث التي من المفترض أن تكون مستقلة معرفياً ومادياً أيضاً). وأضاف الحناشي: كم نحن بحاجة لبعض من الدعم النزيه من قبل بعض المؤسسات المالية والاقتصادية العربية وحتى بعض الدول لدعم هذا المشروع دون أن تتدخل في مضامينه العلمية والمعرفية. مؤكداً أن بعض مؤسسات البحث العربية استفادت في الواقع من مثل هذا الدعم وإن جزئياً مثل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) التي كان بإمكانها أن تلعب مثل هذا الدور -والذي قامت به في الواقع في فترة ما- لكنها لم تواصل تحقيق هذا المشروع نتيجة توقف الدعم المالي. واعتبر بلورة رؤية جديدة لكتابة التاريخ العربي ليست صعبة عند توافر الدعم المادي والمؤسسات البحثية الجادّة خصوصاً وأنّ هذه الفكرة كانت موجودة ومازالت في أوروبا ويمكن (أن تنتقل هذه العدوى الإيجابية في منطقتنا العربية).
ولئن كان (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) في أجزائه السبعة للعلامة عبدالرحمن بن خلدون ومنها بالخصوص مقدمته الشهيرة محاولة إسلامية لفهم التاريخ العالمي. وقد تفرّد العلامة عن باقي المؤرخين العرب بتقديم نظرية علمية متكاملة، لفهم التاريخ العربي والإسلامي عبر مقولات نقدية، وبلور فلسفة على درجة عالية من الأهمية في كتابة التاريخ، بيّن فيها مغالطات المؤرخين، ودور العصبية في بناء الدولة، وأطوار الدولة، وغائية التاريخ، إلا أن الأجيال المتعاقبة لم تتعظ من دروسه وعبره لذلك نجد قلة من المؤرخين العرب ممن استفادوا من مقولاته النقدية. بل ذهب الدكتور حناشي إلى اعتبار ابن خلدون عالم اجتماع وممارس للسياسة أيضاً، خصوصاً أنه تقلد بعض المناصب والتصق بكثير من الأنظمة السائدة آنذالك، وهو ما من شأنه أن يكون عنصراً مؤثراً في نظرياته النقدية. وأكد أنه (من بعد صاحب المقدمة لم يبرز مؤرخون عرب كانت لهم إضافات في مجال المنهج)، وأن العرب بصفة عامة (لم يستفيدوا من المؤرخين الأوائل، وإن كانت هناك استفادة فهي جزئية تنحصر في اسمين أو ثلاثة فقط). بل نلاحظ أن أغلب المؤرخين العرب اعتمدوا في غالب الوقت الرؤى الغربية للتاريخ العربي الإسلامي، كما وظفوا المنهجيات الحديثة في تفسير التاريخ العربي الإسلامي وأسقطوا بعض المفاهيم على الواقع التاريخي العربي لذلك (لم يتمكن المؤرخون العرب من إبداع نظريات جديدة في حقول التاريخ وإنما استخدموا ومازالوا يستخدمون وسوف يستخدمون للأسف المناهج الجديدة التي يستنبطها علماء التاريخ في الغرب) ذلك أنّ أغلب البحوث والدراسات المنجزة بخصوص التاريخ العربي اعتمدت على تلك المناهج. وهو ما يعتبر عملية إسقاط ما لم تتم عملية نقد تلك المنهجيات والعمل على تجاوزها.
وسواء تعلق الأمر برؤية جديدة لكتابة التاريخ القديم أو الحديث فهما لا ينفصلان باعتبارهما يكونان التاريخ الإنساني العام. غير أن كل مرحلة تاريخية في رأي الأستاذ الباحث لها خصوصياتها تتحكم فيها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. مثلاً تاريخ أوروبا هو في جزء منه تحكمت فيه الأيديولوجية الاستعمارية التي نظرت لتاريخ الشعوب غير الأوروبية نظرة استعلائية لتحقيق أغراض وأهداف محددة، ولذلك نحن بحاجة إلى كتابة تاريخ برؤية جديدة تستفيد بالضرورة من المناهج الحديثة لكن دون عملية إسقاط. لأن تلك النظريات والمناهج هي وليدة ظرفية وخصوصية محددة تتحكم فيها بالضرورة خلفيات متعددة. وهو ما يدحض فكرة أن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ، إذ هناك من يكتبه وهو منهزم بنظرة نقدية علمية للبحث في أسباب الهزيمة ونتائجها. كما أن جزءاً كبيراً من المؤرخين تحرروا من النظرة الاستعلائية أحادية الجانب ويحاولون اليوم فهم تاريخ الشعوب الأخرى بأكثر موضوعية وحيادية وذلك في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات والثورات العلمية والتكنولوجية والقيمية ومنظمات حقوق الإنسان. وبالتالي فإن التاريخ لا تكتبه الحكومات والدول المنتصرة أو المنهزمة، فذلك يسمى تاريخاً موجهاً ومؤدلجاً في حين يتولى الأمر المؤرخ وعادة ما يستند إلى مناهج صارمة لا علاقة لها بالتوجيهات والإملاءات.
ورغم عدد من المحاولات، تبدو كتابة التاريخ العربي الموحد فردية، ولم تنخرط في إطار مشروع عام لكتابة تاريخ العرب الشامل، وفق مخطط متكامل يقدم تاريخ كل دولة عربية بشكل واضح، وبمنهج علمي مبتكر ومستقل عن الدول الأوروبية، من شأنه أن يقيم التوازن بين التاريخ الوطني والتاريخ القومي في إطار التاريخ العالمي الشامل أو الجامع.

ذو صلة