حينما رأيت ذلك الشال الأزرق الملتف حول ذراعها ليخفف ألم عظامها القادم مع نسمات الهواء الباردة.. علمت حينها بأن الوقت سريع جداً!! سريع لدرجة تمنعنا فيها من رؤية أو بالأصح من ملاحظة الزمن وتدرج الأحداث حتى وصولنا لمرحلة الشال الأزرق!!
كانت والدتي امرأة كسائر النساء، تعمل فوق طاقتها، تصنع من الصوف أجساداً متراكمة لا تسكنها روح!! تصنعها لمجرد الاعتياد على صنعها فقط!!
تتألم بصمت وحينما تصرح بألمها يكون ذلك عبر تأوهات صغيرة تتخللها عبارات شكوى متوارثة بين كبيرات السن.. لم أنتبه ولا لمرة بأن أمي النشيطة هي إحدى كبيرات السن!! كانت صدمة كبيرة لي! صدمة مؤلمة! صدمة واقعية ومنطقية جداً مسببها ذلك الشال ذاته!!
أثناء هذه اللحظات المتألمة لامسني صوتها قائلاً:
- بني..أعطني نظارتي.. إنها بجانبك على الطاولة.
كان هذا الطلب عبارة عن نكتة ساخرة موجهة لي، فلطالما أعطيتها نظارتها، ولكن هذه المرة الأولى التي أنتبه فيها لشكل إطار النظارة الطبية، لأول مرة أرى زجاجات عدساتها الشفافة والسحرية، فهي بالنسبة لي تغير صورة الواقع أمامي بمجرد مقاربتها لعينيّ.. رغم هذا فوالدتي لا تستغني عنها أبداً.. بالفعل هي سحرية!!
صرخت بي قائلة:
- بني.. ما بك؟! لماذا تقف هناك؟! أحضرها لي بسرعة!!
اقتربت منها مسرعاً وأعطيتها إياها.. وكم صُعقْت حينما
رأيت كفيّها ترتجفان باتجاهي لتمسكا بالنظارة!!
ما هذا؟! ما الذي يحدث؟! كيف لجميع هذه الأدلة الانولاد معاً الآن؟! وكم هي شبيهة بالتوائم السيامية، حيث يصعب علي فصلها أو إبعاد أحدها بأي عذر وهمي.. من أجلي أنا فقط!!
رفعتُ رأسي متنهداً نحو الساعة على الجدار وهي مشيرة بسبّابتها إلى الحادية عشرة ليلاً.. كان قد مضى على سرحاني الحزين، بل المفجوع، نصف ساعة.. كيف لذلك أن يحدث؟! كيف للوقت أن يهرب منّا وبكل هدوء خارج عن إرادتنا بإرادتنا؟!
حينما عبرتُ بصوت مرتفع عن الساعة تفاجأتْ والدتي كثيراً ورمت بكتابها مسرعة للداخل حتى تنام وهي تتمتم قلقة بأن الوقت تأخر كثيراً، وكأنها باستعجالها قد تأخرت على أحد أحلامها الذي اتفقت معه على موعد مسبق.. إنها تنام لأنها يجب أن تنام في زمن محدد فقط، فلا مكان لديها للنعاس..
رأيت الشال الأزرق يتدلى فوق الأريكة ينتظر ذراع والدتي غداً، ابتسمت له.. لا أعلم لمَ، ولكن شعرت بأنه يشبهني تماماً، فهو يلاقيها يومياً، يجالسها ويصاحبها ولكن كل ذلك بصمت شديد وبجهل أشد وبقلّة ملاحظة من كلينا بعبور الزمن وبجميع أحداثه.. أمسكته بقوة ولففته حول عنقي هامساً.. (أرجوكَ لا تنم، وشاهد جميع ما يحدث حولي.. معي).