لم يكن للحاج بوعزة وقت ليستريح فيه أو يذهب فيه مع زوجته وأولاده إلى العطلة كما يفعل جل الناس الميسورين، أو ليتفقد فيه حصيلة أبنائه الدراسية، أو ليحضر فيه حفلات الأعراس، أو ليتبع فيه الجنائز فيتذكر الموت واليوم الآخر، بل لم يكن له حتى وقت ليمرض فيه ويخلد للراحة..
كان بالكاد يصلي مع الناس صلاة عيد الأضحى وعيد الفطر، ثم لا يلبث أن ينزع عنه ثيابه البيضاء ليذهب إلى مقر شركته من أجل متابعة إدارة أعماله التي لا تنتهي أبداً. أما الصلاة، فكان يجمعها إلى آخر النهار عندما يروح إلى بيته متعباً منهكاً، فيؤديها بلا روح ولا خشوع ولا حماس، إذ كان وهو يركع ويسجد، كثيراً ما يقوم في ذهنه بعمليات حسابية يطرح فيها ويضرب ويقسم ويجمع، فلا يدري بذلك هل صلى الظهر أم المغرب.
فكم من مرة ضبط فيها نفسه وهو يخلط آيات الفاتحة بأسماء بعض الملفات الحساسة، وكم من مرة تفوه باسم شركته عند السلام، فقال:
- العمران عليكم، بدل السلام عليكم..
وزعمت زوجته ذات مرة بغير قليل من المبالغة أنها ضبطته وهو يدعو لنفسه قائلاً:
«ربنا آتنا في الدنيا شركة وفي الآخرة شركة وقنا حسد الجار..». وفي أثناء نومه، عندما يتعالى شخيره ويصل إلى حدة صخب محرك الطيارة، ينقلب عقله إلى حاسوب رهيب يضبط الأرقام ويحلل المعطيات ويستخلص نسب الأرباح ويخصص المقادير التي سيدفعها رشوة للتملص من الضرائب. وبين الحين والحين، يستيقظ جزعاً مذعوراً وهو يرى في كوابيسه الدائمة أن ثروته كلها قد ذهبت أدراج الرياح في عملية خاسرة لم يحسب لها حسابها الدقيق..
لم يكن الحاج بوعزة ليرحم أحداً بصدقة أو زكاة أو مجرد التفاتة، فكل شيء عنده كان بمقابل. فإذا أعطى فإنه كان يحسب للعطية ألف حساب بحيث إنه يقدر لها أن تعود عليه بأضعاف ضعفها من الأرباح. وأما الأعمال الخيرية، فكان يرى فيها ضرباً من ضروب الجنون، وأنى له أن يفكر في المعروف وزوجته وأولاده كانوا بأنفسهم مطرودين من عطفه واهتمامه وحنانه. بل ذهبت بعض الألسنة السليطة إلى أبعد الحدود حين دفعها خبثها للتساؤل كيف وجد الرجل في غمرة انشغاله الدائم وقتاً ينجب فيه الأولاد؟ وبغض النظر عن تلك اللمزات السامة التي كانت تتعرض لها ذريته، فقد كانت وهي تعيش حياة الضيق والضنك تعد نفسها من أشقى خلق الله طراً..
فليس هنالك في الدنيا شقاء أشد وأنكى من شقاء أبناء يحسبهم الناس من الرافلين في ترف الغنى وبحبوحة النعيم بينما هم يكابدون شظف العيش وبؤس الحال في المأكل والمشرب والملبس.
فبماذا يحس الجائع العطشان حين يمنع قهراً من مائدة تنوء بما لذ وطاب من أصناف لا عد لها ولا حصر؟ لا شك أنه سيكره مانعه منها إلى حد المقت.. وكذلك كان.. فزوجة الحاج بوعزة وأولاده وبناته كانوا يمقتونه إلى حد بدؤوا فيه يستعجلون موته. بل كثيراً ما كان يرى بعضهم في نومه أنه أجهز عليه بحبل لفه حول عنقه بقوة إلى أن اختنق وتدلى لسانه من فمه.. ومرت الأيام على هذه الحال.. وذات يوم مرض الحاج بوعزة وهو الذي لم يمرض قط ولا عرف أبداً طعماً لعلة.. أحس ذات صباح بوهن شديد، ولكنه هز أكتافه غير مكترث كعادته، فتحامل على نفسه وقام يلبس سترته وسرواله البلدي (القندريسي)، ثم اعتمر طربوشه الوطني وانتعل بلغته الصفراء وغادر منزله والأرقام تشطح في عقله كما تشطح المكائد في عقل الشيطان. غير أنه ما أن اندفع في بداية الشارع حتى سقط منبطحاً على بطنه، فقام مستغرباً وقد ظن أنه عثر في شيء ما، إلا أنه سرعان ما اقتنع بالأمر الواقع لما فتح عينيه ووجد نفسه مسجى في فراشه وحوله زوجته وأبناؤه ينظرون إليه مفتعلين الجزع، بينما أعينهم تبرق فرحاً لبارقة الفرج. رفض الحاج بوعزة أن يذهب إلى الطبيب لاعتقاده أن تلك الوعكة الطارئة هي مجرد سحابة عابرة.. وفجأة، وبدون أن يقدر لذلك تقديراً، طرأ على باله أنه حسب لكل شيء دون أن يحسب سنوات عمره التي شارفت على الثمانين.. خمس وسبعون سنة بالتمام والكمال، مرت كأنها يوم أو بعض يوم..
حين انفض عنه أبناؤه، قام متهالكاً إلى مرآة وشرع يحدق في وجهه، فقال يخاطب نفسه وقد أدهشته سحنته الصفراء وعيناه الغائرتان:
- كل شيء إلا هذا يا بوعزة.. لا تقل إنك راحل.. إنك أقوى من المرض ومن الموت.. تذكر ثروتك الطائلة التي جمعتها بكد الأيام وسهر الليالي وسوف تشفى وتعود أشد قوة من الثور المعلف.. لا.. أمثالي لا يموتون..
ولم يتمم حديثه الباطني لأنه وجد نفسه للمرة الثانية في فراش إحدى العيادات وقد تجوق حوله أبناؤه وبناته.. وعندما استوعب ما جرى له، انخرط يعاتب ابنه البكر الذي نقله إلى تلك العيادة، فقال له بصوت ضعيف متهدج:
- ماذا ستقول لله أيها المسرف؟ لمن بُنيت مستشفيات الدولة إذن؟
وما هي إلا لحظة حتى دخل الطبيب، وبدون أن يلتفت إلى المريض، طلب من زوجته وأولاده بإيماءة من رأسه أن يتبعوه إلى مكتبه. هنالك أخبرهم بأن حالة الحاج ميئوس منها وأنه من الأجدى نقله إلى بيته ليموت بين أسرته.
أدرك الحاج بوعزة ذلك بحدسه، فقال للطبيب صارخاً مستجدياً لما شرع ابنه يدفع السرير المتحرك متجهاً به إلى خارج العيادة:
- سيدي الطبيب.. أنقذني وسأعطيك مليوني سنتيم.. أتسمع؟ مليوني سنتيم..
قال الطبيب مبتسماً:
- وهل أنا أملك لك موتاً أو حياة؟
صرخ الحاج بوعزة بأعلى ما يستطيع من صوت:
- أنا أعطيك أربعة ملايين سنتيم.. اشهدوا أيها الناس على ما أقول..
رد الطبيب وهو ينظر إلى المريض بكثير من الشفقة:
- الموت والحياة بيد الله يا رجل..
زاد الحاج بوعزة صراخاً فقال:
- أنا أعطيك ستة.. فلا يكن بطنك كبيراً.. إني أتوسل إليك..
مرة أخرى رددت جدران العيادة الهادئة صراخ الحاج وهو يهتف باكياً:
- العن الشيطان أيها الطبيب واقبل ثمانية.. والله لن أزيدك عليها سنتيماً واحداً.. ماذا تقول؟
لما أعرض الطبيب وهو يهز رأسه باسماً، عبس الحاج بوعزة عبوساً شديداً ثم خفض صوته وقال:
- هذا جهدي عليك يا طبيب.. والله لن أزيدك سنتيماً واحداً.
في مساء ذلك اليوم، جاء بعض المعارف يعودون المريض، ولما رأى أحدهم من وجه السقيم ما رأى، مد يده إلى سبابته المعروقة ورفعها إلى السماء قائلاً له:
- اجعل بالك مع الله وتشهد يا حاج..
حدق هذا بنظرة تقطر تشاؤماً ومقتاً وقال له مستقبحاً:
- إيخ.. فألك على رأسك أيها الغراب..
بعدها مباشرة أسلم الروح إلى بارئها وعلى وجهه علامات الامتعاض.
تعانق الأبناء فرحاً، لكنهم سرعان ما افتعلوا الحزن لما بدأ المعزون يتقاطرون على المنزل..