مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

على ضفة السين.. حكاية جنة القُرّاء في باريس

المكتبة جنة القُرّاء، لا يكاد يضاهيها مكان في سحرها وقدرتها على أسر حواس عشّاق الكتب.
ورغم تنوّع وسائل المعرفة الحديثة، تظلّ للمكتبة مكانة فريدة في نفوس مرتاديها؛ فهي مساحتهم الحرة للحلم والتأمل، وجسر عبور إلى عوالم جديدة ومبهرة، وملتقى حي يجمع الكُتّاب والمفكرين ومحبي القراءة تحت سقف واحد.
قبل أكثر من مئة عام، أسّست شابة أمريكية مكتبة صغيرة في باريس، تحوّلت سريعاً إلى (مزار ثقافي ووجهة رئيسة لكل الكُتّاب والنقّاد، حيث تلتقي العقول وتُعقد اللقاءات).* كانت، بالنسبة إليهم، مصنعاً لتلاقح الثقافات.
إنها مكتبة Shakespeare and Company (شكسبير آند كومباني) التي أسّستها سيلفيا بيتش عام 1919م.
تُعدّ حكاية هذه المكتبة فصلاً مهماً من تاريخ الأدب، ومصدر إلهام لكل شغوف بالمعرفة وسحر الكلمة.
كتاب (مكتبة شكسبير الباريسية) هو المذكرات التي كتبتها سيلفيا بيتش، لتسرد فيها حكايتها مع تأسيس المكتبة. لا يُصنّف كسيرة شخصية فحسب، بل هو سجل ذكريات أدبية، ومدونة توثق ملامح حقبة ثقافية متميزة ومزدهرة في باريس ما بين الحربين العالميتين.
تبدأ سيلفيا كتابها بالحديث عن طفولتها، ثم انتقال عائلتها للعيش في باريس، حيث اشتعلت في داخلها الشرارة التي أوقدت رغبتها في إنشاء المكتبة. ثم تحكي عن العصر الذهبي لفردوسها الصغير، والأحداث التي جرت خلال الحرب العالمية الثانية، وأجبرتها على إغلاق أبواب هذا الصرح الثقافي الفريد.
التأسيس.. من محل صغير إلى وطن للمهاجرين
وُلدت سيلفيا بيتش عام 1887م لعائلة مثقفة في الولايات المتحدة. ومنذ صغرها، حملت شغفاً بالقراءة وحبّاً لتعلم اللغات. أتيحت لها فرصة الانتقال إلى باريس في سن الرابعة عشرة، عندما كُلّف والدها بإدارة ملتقيات الطلبة الأمريكيين هناك. كانت هذه نقطة التحول في حياتها ومنها رست جذورها في هذه المدينة التي استقرت فيها عائلتها لفترة من الزمن. تقول إن والدتها كانت ترى في باريس جنّة، حيث بدت لها الحياة هناك كلوحة انطباعية ساحرة.
ذات مرة، بينما كانت سيلفيا تقرأ مراجعة نقدية، وجدت أن أحد المصادر يُباع في مكتبة أدريان مونييه بباريس. أثار ذلك فضولها، فقررت زيارتها. ثم وصفتها بقولها: (مكتبة رمادية صغيرة، ولوحة (أ. مونييه) معلقة فوق الباب. حدّقتُ في الكتب المشوّقة المصفوفة خلف النافذة، ثم دخلتُ المحل، وكانت نظراتي تحوم حول أرفف الحوائط التي احتوت على كتب بورق كريستالي لامع، بانتظار تغليفها الجلدي بعد وقت يطول عادة. كانت هناك أيضاً لوحات تجسّد كُتّاباً، معلقة هنا وهناك. جلست على الطاولة امرأة شابة، هي أدريان مونييه بلا شك. لاحظت تردّدي عند الباب، فنهضت سريعاً وفتحته، ثم جذبتني إلى الداخل ورحّبت بي ترحيباً دافئاً، وهو سلوك نادر في فرنسا، حيث التحفّظ تجاه الغرباء شائع. لكنني علمت أن هذا الترحاب من سمات أدريان).*
منذ تلك اللحظة، أصبحت سيلفيا زائرة دائمة لمكتبة أدريان، وتوثقت روابط صداقتهما. جمعهم الحديث عن الكتب وعبرت لها أدريان عن حبها للأدب الأمريكي، مثل سيرة بنجامين فرانكلين. أصبحت سيلفيا تقضي ساعات طويلة في المكتبة حتى مع اقتراب البنادق من باريس في الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الأولى. خلال تلك الفترة، كان الكثير من الكُتّاب الفرنسيين يترددون على متجر أدريان، بل إن بعضهم كان يأتي مباشرة من الجبهة بملابسه العسكرية.
تأثرت سيلفيا كثيراً بسحر هذا المكان، وكان هذا دافعها الأساسي لافتتاح مكتبتها، التي كانت فكرتها الأولى: مكتبة فرنسية في نيويورك لدعم الكُتّاب الفرنسيين ونشر أعمالهم. لكنها لم تستطع تحمّل تكلفة استئجار محل هناك، ولم تكن مدخرات والدتها كافية، فسرعان ما تغيّرت فكرتها إلى مكتبة أمريكية في باريس.
بالطبع كانت صديقتها أدريان خير عون لها، فهي من ساعدتها في البحث عن مكان مناسب. وجدت لها محلاً صغيراً كان بالأصل مصبغة، وقررت أنه يمكن استئجاره وتحسينه ليكون متجراً لبيع الكتب. وبناء عليه أرسلت سيلفيا برقية إلى والدتها تقول فيها: (سأفتتح مكتبة في باريس، أرسلي المال من فضلك).* فلبّت والدتها الطلب، وأرسلت كل مدخراتها.
ساعدها الفنان الإنجليزي تشارلز وينزر بتصميمه لافتة للمكتبة، حيث رسم بورتريهاً لشكسبير. ثم سافرت سيلفيا إلى لندن، وعادت بصندوقين من الكتب الإنجليزية.
تقول: (أدين بنجاح مكتبتي لكل الأصدقاء الفرنسيين الذين تعرّفت إليهم في مكتبة أدريان مونييه. فهناك، اختبرت تجارب متنوعة خارج إطار العالم الأدبي).*
وهكذا وُلد الحلم: غرفة صغيرة مكدّسة بالكتب الإنجليزية، تعجّ بروح المغامرة والأمل.
افتُتحت المكتبة رسمياً في 19 نوفمبر 1919م، وكانت منذ البداية تركز على نشاطين مهمين: أن تكون متجراً للكتب ومكتبة للاستعارة، بحيث يتمكن الزبائن من قراءة ما يريدون مقابل اشتراك زهيد.
تقول سيلفيا عن موضوع الإعارة: (كانت إعارة الكتب، كما توقعت، أسهل بكثير من بيعها في باريس. فإصدارات تاوشنيتز وأعمال جوزيف كونراد كانت الأرخص، بينما لم تُبع أعمال كيبلينغ وهاردي إلا قليلاً. أما الأدباء المحدثون، فاقتناء كتبهم كان ترفاً لا يقدر عليه الكثيرون، لذا اهتممت بقسم الإعارة، لأشرك الآخرين في باريس بما أحببته من كتب).*
سرعان ما ذاع صيت المكتبة، وأصبحت نقطة جذب للمهتمين بالأدب الإنجليزي والأمريكي. وبينما كانت سيلفيا تتابع أخبار ما يحدث في بلادها، لم تتوقع أن تتحول مكتبتها إلى ملجأ لمواطنيها من الكتّاب الباحثين عن أفق أوسع في وقت اشتد عليهم التضييق، ومُنعوا من حرية التعبير.
فاتخذوا من مكتبتها وجهة أولى لهم في باريس. حتى إنها وصفتهم بـ(الحُجّاج)، لأنهم عبروا المحيط وسكنوا الضفة الغربية من نهر السين، وكانوا يترددون على متجرها الصغير باستمرار، مثل روبرت مكالمون، وشيرود أندرسون، وغيرهم.
سيلفيا بيتش وجيمس جويس.. الرهان الذي غيّر مجرى الأدب
بعد عام من افتتاح مكتبتها، في صيف 1920م، التقت سيلفيا بجيمس جويس مصادفةً في حفل بمنزل أحد أصدقائها. تقول سيلفيا إنها لطالما قدّسته، لدرجة أنها فزعت عندما علمت بوجوده.
تصفه بأنه (كان متوسط القامة، نحيفاً، محدودب الظهر قليلاً، أنيقاً. عيناه الزرقاوان الغامقتان تشعّان بوميض عبقري).*
عندما تحدثت معه، أخبرها أنه انتقل للتو إلى باريس، وسألها عن عملها في هذه المدينة فأخبرته عن مكتبتها، فاستلطف اسمها، وأخذ منها العنوان.
ثم أصبح فرداً من عائلة (شكسبير آند كومباني)، وسعد هذا الكاتب الأيرلندي بصحبة أصدقائها الأمريكيين، فالتقى هناك إرنست همنغواي، وسكوت فيتزجيرالد، والموسيقي جورج أنتيل.
تعمّقت علاقة سيلفيا بجويس وعائلته، وأخبرها عن عدم قدرته على نشر روايته (يوليسيس) من قبل ناشرته الآنسة هارييت ويفر، حيث واجه عمله حظراً بسبب اتهامات بالجرأة الفجّة ومخالفة الآداب. على إثر ذلك، قررت سيلفيا أن تتولى النشر بنفسها، رغم أن مكتبتها لم تكن دار نشر، ولم تملك خبرة كافية بالطباعة. لكنها آمنت بقيمة العمل، وأرادت دعمه.
تقول: (وطرأ في بالي أن شيئاً يمكن القيام به، وسألت: هل ستمنح (شكسبير أند كومباني) شرف إصدار روايتك (يوليسيس)؟)*
وبالفعل، نُفذت فكرتها بدعم من أصدقائها. تقول: (بدأت طلبات المشتركين تصل سريعاً، وكُدّست حسب جنسياتهم. من بينهم زبائني، وزبائن أدريان. بعض الفرنسيين طلبوا الرواية رغم ضعفهم في الإنجليزية، بدافع الدعم أو الفضول أو الإيمان بحرية التعبير).*
أبرز الداعمين كان أندريه جيد، الذي لم يكن يطلب الرواية لقراءتها فقط، بل ليعبّر عن الود والتقدير لمشروع سيلفيا بيتش الثقافي، وظل صديقاً داعماً على مرّ السنوات.
استمرّ تعاون سيلفيا وجويس لفترة طويلة؛ فنشرت له (قصائد الواحدة ببنس) عام 1927، وهي مجموعة من ثلاث عشرة قصيدة. ثم نشرت له عملاً بعنوان طويل كما وصفته، (استقراؤنا حول موثوقيته في التجسيد لعمل قيد التحضير)، الذي اختصر في الطبعات اللاحقة إلى (العمل قيد التحضير) (work in progress).
بفضل مكتبة (شكسبير آند كومباني) تعاظم اهتمام القراء الفرنسيين بالكُتّاب الأمريكيين بحلول منتصف العشرينات، وبذلت أدريان، صديقة سيلفيا، جهوداً كبيرة في تعزيز هذا الاهتمام. حيث قامت هي وسيلفيا بترجمة قصيدة (بروفروك) لـ ت. س. إليوت إلى الفرنسية، ونشرتها أدريان في مجلتها عام 1925م.
أما بحلول الثلاثينات، فقد تغيّرت ضفة السين، عندما نضج (الجيل الضائع) كما وصفتهم سيلفيا وأصبحوا من مشاهير الأدب، وعاد الكثير منهم إلى الوطن، في الوقت الذي أصبحت فيه مكتبتها معروفة جداً ومزدحمة بالزبائن، وكُتب الكثير عنها.
لكنها لم تكن محصنة ضد طوفان الكساد العظيم، فكان الوضع مقلقاً في منتصف الثلاثينات، حتى إن صديقها أندريه جيد جاء إليها وسألها عن الأوضاع، فأخبرته أنها ربما تغلق المكتبة.
ذُعر وقال لها: (لا يمكننا التخلي عن شكسبير أند كومباني!)*
وكان أول ما فعله هو جمع عدد من الكُتّاب وكتابة عريضة إلى الحكومة الفرنسية لدعم المكتبة، لكن التمويل كان ضئيلاً، باعتبارها مؤسسة أجنبية. ثم قام هؤلاء الأصدقاء بالاشتراك لمدة عامين في خدمات الإعارة، ودأبوا على إقامة أمسياتهم الثقافية فيها دعماً لها.
استمرت الحرب، وبقيت (شكسبير آند كومباني) مفتوحة، حتى اجتاح الألمان باريس فجأة. فهرب الكثير من السكان، وبقيت سيلفيا مع أصدقائها رافضة جهود سفارة بلدها في إقناعها بالعودة إلى الولايات المتحدة. وفي بداية الأربعينات، دخل النازيون إلى مكتبتها بأمر لمصادرتها. وبناء على ذلك، تم إغلاقها رسمياً في عام 1941م. وكانت قبل ذلك قد أخفت معظم الكتب وتمكنت من تفريغ المكتبة من محتوياتها خلال يوم واحد.
ورغم بقائها في باريس، لم تُعد سيلفيا افتتاح مكتبتها بعد الحرب، لكن ذكراها لم تتلاشَ من أذهان مرتاديها من القراء، وبقيت خالدة كشاهد على لقاءات رموز الأدب والفن من أوروبا والولايات المتحدة. ولا يزال أثر دورها المحوري في دعم الأدب الإنجليزي الحديث ممتداً إلى عصرنا هذا.


*جميع الاقتباسات من كتاب (مكتبة شكسبير الباريسية) -سيلفيا بيتش-منشورات جدل-ترجمة عبدالوهاب سليمان

ذو صلة