مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

القرية.. قصيدة ضوء ومطر

يقول الروائي أحمد أبو دهمان صاحب رواية (الحزام): هكذا بنى أجدادنا القرية. كل حجر، كل بئر، كل قصيدة، كل ورقة، وكل خطوة تحمل أنفاسهم وعشقهم، آمالهم وشقاءهم، انكساراتهم وانتصاراتهم. أولئك الذين كانوا كل صباح يشيّدون قريتهم، وكأن ليس أمامهم إلا نهار واحد لتخليدها.
ويضيف بقوله: قريتنا كانت في البدء أغنية فريدة تماماً كالشمس والقمر، وإن الكلمات التي يمنحها الناس طاقة شعرية: تطير كالفراشات، بعضها الأكثر غنى لونياً والأكثر جمالاً تطير بخفة لا مثيل لها، ولأن قريتنا هي بالتأكيد الأقرب إلى السماء، فإن هذه الكلمات الشعرية تجد فيها أفضل مكان لتباهي بمكنوناتها، لكي تضيء العالم.

أما الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح يقول عن القرية: جميلة تتباهى بفقرها وبمعمارها المتقشف.. ليل هادئ، عامر بالنجوم، ونهار راقص مترع بالضوء، وبموسيقى الجداول والشجر. بيوتها الحجرية المطلية النوافذ بالنور. تلوح لعيني المسافر من بعيد كقناديل هابطة من السماء، طين تراوده شهوة العزلة، وحنين الابتكار يتذكرها. يتذكر التلال والأودية والمنحدرات الصخرية المغطاة بأعشاب لا تعرف الذبول.. هي الأمل في أعتى درجات اليأس. والضوء في آخر الرحلة الخائبة. هي بقعة في جسد الوطن. وأحياناً هي الكلمة التي تختزل الوطن.
وهنا أقول: لا أدري لماذا تشتعل القرية بناسها، وأحجارها، ونباتاتها، وجبالها، وغيومها، وجدرانها، وطيورها، وهوائها، ومساريبها، وأبوابها، ونوافذها؟ لماذا تشتعل في ذاكرة الروائيين والشعراء؟ فهذا أحمد أبو دهمان الذي يعيش في أكناف عاصمة الضوء باريس - وجه أوروبا - حيث بانوراما الحضارة يتفتق بما هو مدهش.. المباني الزجاجية الثقيلة، والشوارع الضاجة بكل مثير، والميادين التي تنتصب بها عشرات المجسّمات، والتي تحكي تراث وثقافات الأمم وغيرها، إلا أن ذاكرته القروية ثنت ريشة قلمه ليكتب عن القرية، يسعفه في هذا الجانب المخزون الثقافي، والتراث الاجتماعي القروي، ليصدر أجمل الروايات التي نشرتها (دار غاليمار)، إحدى أشهر دور النشر في فرنسا، وترجمت إلى معظم اللغات الحيَّة. تلك القرية الصغيرة التي اسمها (آل خلف)، هي مصدر إلهام الروائي أبو دهمان. تلك القرية كما يصفها الروائي بأن المطر يصعد إليها، إذ القرية هي الضوء والعطر والشعر والحياة.
ولم يكن الروائي المحضري عبدالعزيز المشري -يرحمه الله- بعيداً عن نبض القرية وجمالياتها، إذ احتوت رواياته ريح الكادي، الحصون، صالحة، الوسمية، الغيوم، ومنابت الشجر وغيرها مخزوناً ثقافياً، وشعبياً، واجتماعياً، وفسيولوجياً محمّلاً بعبق القرية الملهمة، المشري استل مراسم قلبه ليكتب عن القرية. قال في مكاشفات السيف والوردة: لا أجد نفسي حميمياً مع الحياة في المدينة كثيراً، ولم أتعاطف مع إيقاعاتها الذائبة، الخرسانية، فمنذ البدايات القصصية الأولى كانت الأعمال وهي في المدينة والغربة الثقافية.. تجعل أبطالها قرويين يتعاملون بالمنطق القروي، والهيئة القروية.
ويضيف المشري متحدثاً عن روايته الوسمية إذ يقول: جاءت بولادة مختلفة، وبطرح مختلف، وعالم مختلف، لأمر رأيته وقتها مقنعاً ومعبراً عن المفهوم لدور الكتابة القصصية، والتحاور معها بحميمية بالغة التعاطف، وعالية الحساسية في تفاعلي مع عالمها.
وشعوري بتأدية القيمة الأمانية، والخلق الإنساني لعالم القرية بعفويته، وصدق تعابيره المعيشية اليومية، ودلالات لغته، ونحت حياته التي أقامها مع إنتاجه وطبيعة علاقاته الجماعية بها. ويضيف بكلمات صادقة ومؤثرة: كان الحنين القروي المشتعل في الذاكرة هو حمايتي الوحيدة في الإقامة الطويلة والجبرية.
والدكتور المقالح يحمل دهشة العبارة، وجمال الوصف، وعمق الفكرة، وتجليات النص في كتابه (القرية)، إذ غمس قلمه في وريد جبل (غيمان) لينثر حبر إبداعه عصافير وفراشات ملونة من الكلمات الشاعرية الباذخة الجمال. كتب عن نجوم القرية، ووشوشات الفلاحين والطيور، وذاكرة الحجارة، ونبض الجدران.
وتراتيل الأودية، والربوات المغطاة بالمسك والورود المختالة في مرح. كتب عن المساءات المعطّرة، ورقصة الريح، ونشوة الحقول، وموسيقى الينابيع. عن الشمس التي تغمر المكان بضوئها.
أظن أن من الواجب الكتابة عن وجنتي القرية الضاجتين كالتفاح، عن جداولها المتثّنية في غنج بين أرداف الجبال كحبل الفضة، عن نبضها الراعف واختلاجات فرحها وحزنها. الكتابة عن أهداب عيني القرية، وهي تظلل ناسها، وترأف بهم، وتمنحهم قميصها وشالها لتقيهم من لسعات البرد. وتعطيهم بوح أسرارها لينثروا قصائدهم الشعرية، لتشنف الأسماع. وتطهرهم من أدران الحياة بماء الطهر. وتشاطرهم أحزانهم ومواويلهم. ويبتل قلبها حزناً لموت أحدهم وتنتشي فرحاً في أعيادهم وزيجاتهم ورقصاتهم، القرية هي التي تسبقهم إلى ساحة العرضة، وتلقي القصيد، وتغسل قلوبهم وأجسادهم. وتوقظ العصافير لتغني لهم. وتهمس للنجوم كي تسامرهم، وتزف أنسام الصباح لترطب نهارهم، وتسمح للعشاق أن يتطهروا بضوء الحب العفيف. القرية تسمح فقط للقمر والنجوم لأن تكون قناديل مدلاة من السماء. تسمح لملاءة السحاب أن تنام على سفوح جبالها لتومض بلوراتها الشفيفة حجارتها بلمعان أخاذ. القرية يتسع صدرها لتحمل هموم أهلها، وتقذفه للفضاء الفسيح، لتتبرأ من كل ما يسبب لسكانها النكد. تمنحهم فيض كرمها.
سنابل قمح، وأكواز ذرة، وعناقيد شهية من العنب.
أيها الأحبة: للنهار والماء والجبل والقمر والمطر والطير معنى آخر في القرية.

ذو صلة