مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

المداخل الكمية والكيفية لتحليل محتوى شبكات التواصل الاجتماعي

مع مطلع القرن الحادي والعشرين بدأت وسائل الإعلام الجديد في تخليق بيئة إعلامية مغايرة تماماً للبيئة الإعلامية التي ارتبطت بوسائل الإعلام التقليدي (الصحف والتليفزيون والراديو)، وهي البيئة التي أفرزتها أدوات الاتصال الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت. ومن الضرورة بمكان أن يستوعب الباحثون في مجال الإعلام الفروق الأساسية بين البيئتين التقليدية والافتراضية عند تطبيق المداخل والمنهجيات والأدوات البحثية على المحتوى المتدفق عبر كل منهما، والتنبه إلى طبيعة النموذج الاتصالي الأحادي السائد في البيئة التقليدية والنموذج التفاعلي المسيطر على البيئة الرقمية الجديدة، بما يترتب على ذلك من اختلاف في طبيعة المحتوى المتداول داخل البيئتين، وأساليب إنتاجه، وأدوار كل من المرسل والمستقبل في بلورته، وسمات وتعدد وتنوع الوسائط التي يعتمد عليها في نقل ما يحمله من معلومات وأفكار. كل هذه الجوانب وغيرها لابد من أخذها في الاعتبار عند التفكيك البحثي لعناصر محتوى شبكات التواصل الاجتماعي وأدواته. فلابد من التحديد الدقيق لسمات وخصائص البيانات التي يحملها المحتوى وأبعادها، وأهداف تحليله، وإشكالية البيانات الضخمة والمتنوعة والمتدفقة على مدار الوقت والتي تساهم في إنشاء وبلورة هذا المحتوى، بالإضافة إلى المداخل الكمية والكيفية التي يمكن الاعتماد عليها في تحليله.

أولاً: مسارات تحليل محتوى شبكات التواصل الاجتماعي:
أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي العديد من المساحات الجديدة للباحثين في مجال الإعلام للحصول على نوعين من البيانات، الأولى هي البيانات المصنوعة، والثانية هي البيانات الواقعية:
- البيانات المصنوعة (المنظمة): ويقصد بها البيانات التي يتم إنتاجها من جانب مستخدمي الإنترنت عبر أدوات منظمة (الاستقصاءات- المقابلات)، والمقيدة في بعض الأحوال بإجابات معينة، أو بالتفكير المسبق من جانب المبحوث فيما يقدمه من إجابات، أو بشروط تجريبية أو شبه تجريبية يتم التحكم فيها. وقد أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي على هذا المستوى إمكانية الوصول إلى العينات إلكترونياً بطريقة أسهل وتطبيق الاستقصاءات على مفرداتها والتحليل الكمي للبيانات والخروج بالاستخلاصات الأساسية.
- البيانات الواقعية (التلقائية): فالبيانات التي توفرها التدوينات والتغريدات والتعليقات والوسائط البصرية التي يدفع بها المستخدمون على مواقع التواصل الاجتماعي تعد بيانات واقعية، يتم إنتاجها في إطار تفاعلي مع الأحداث أو الأفكار التي يتعرض لها المستخدم، وتتميز بطبيعيتها وتلقائيتها وعدم نظاميتها، بالإضافة إلى انطلاقها لغوياً، وتنوع الوسائط التي يمكن أن يوظفها المستخدم في التعبير عن أفكاره أو وجهات نظره. فالبيانات التي يحملها محتوى شبكات التواصل الاجتماعي تتسم بعفويتها وأنها غير مرتبة، فالمستخدم ينتجها في سياق طبيعي غير مصنوع.
تأسيساً على ما سبق تمتد دلالة مصطلح (البحث في وسائل التواصل الاجتماعي) ليشمل البحوث التي تستخدم البيانات المستمدة من هذه الوسائل، سواء من خلال استخدامها كأدوات بحث (مثل استخدام الاستطلاعات والاستقصاءات على منصات وسائل التواصل الاجتماعي)، أو تحليل نشاط وتفاعلات ومحتوى وسائل التواصل الاجتماعي نفسها. ويشير (Ozdal، 2017) إلى أن العينات المفضلة لدى العديد من الباحثين على شبكات التواصل تتحدد في الطلاب الجامعيين، خصوصاً من المنتمين إلى الجيل Z. ويعد الجيل Z من أكثر الأجيال استخداماً لتطبيقات الجيل الرابع من شبكات التواصل الاجتماعي، عبر الهواتف الذكية. ويشمل الجيل Z أي شخص ولد خلال الفترة الممتدة من عام 1996 أو بعده حتى عام 2010. وهو الجيل الذي نشأ مع الهواتف الذكية، ويضم شباباً في جميع مراحل ومستويات التعليم. أما على مستوى البحوث التي تهتم بالبيانات المتاحة على مواقع التواصل الاجتماعي، فتبرز دراسات تحليل المحتوى التي تستهدف تحليل هذه البيانات لأهداف مختلفة، من بينها:
- التعرف على سمات المضمون: يؤدي تحليل المحتوى إلى التعرف على سمات المضمون، على مستوى الموضوعات، والاتجاه، وأنماط السرد، ومسارات البرهنة على الخطاب، وخصائص اللغة، ونوعية الوسائط التي يعتمد عليها المستخدمون في نقل المحتوى.
- التعرف على سمات المستخدمين: يمكن استخدام البيانات من منصات الوسائط الاجتماعية للحصول على رؤى حول أنماط الاهتمامات والسلوك والاستخدام والتفاعل مع محتوى شبكات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى التعرف على السمات الأساسية للمستخدمين، حيث توفر وسائل التواصل الاجتماعي لمستخدمي الإنترنت الفرصة لتنظيم ملفاتهم التعريفية بحرية كما يحلو لهم، وتوفر لهم ضبط إعدادات سرية ملفاتهم الشخصية والوصول إليها، إذا أرادوا ذلك. ويفيد تحليل المحتوى على هذا المستوى في تحديد احتياجات الجمهور، وأنماط استخدامهم للمحتوى، واتجاهاتهم نحوه، وذلك في الإطار الإعلامي، ويفيد على المستوى التسويقي في معرفة اتجاهات العملاء واحتياجاتهم وتطوير إستراتيجيات الاتصال الخاصة بهم.
- الوصف الإثنوغرافي للجماعات والمجموعات: يوفر تحليل محتوى شبكات التواصل الاجتماعي أداة جيدة لفهم المشاعر الجماعية وسلوك المستخدم أثناء الأحداث المهمة ومراقبة الرأي العام وتحديد الموضوعات الرئيسة في المناقشات العامة واكتشاف الطرق الشعبية التي يتبعها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي.
- توفير معلومات مساندة في الأحداث الطارئة: في الأحداث الطارئة، مثل الكوارث الطبيعية أو الحوادث الخطيرة أو الهجمات الإرهابية، يصبح من الأهمية بمكان تحليل محتوى ما ينتجه مستخدمو وسائل التواصل من بيانات في شكل نصوص وصور ومقاطع فيديو، ويوفر هذا التحليل معلومات مفيدة لمحترفي إدارة معلومات الطوارئ، لتشخيص الأحداث وتحديد كيفية الاستجابة لها، بما في ذلك شدة الأضرار واحتياجات الإنقاذ أو الأشخاص المفقودين، ويمكن أن يساعد في تخصيص الموارد وتحسين كفاءة الإغاثة.
ثانياً: إشكالية البيانات الضخمة وتحليل محتوى شبكات التواصل:
بدأ مصطلح البيانات الضخمة Big Data في الظهور أوائل القرن الحادي والعشرين (2001) نتيجة البيانات الضخمة التي بدأت الشركات الكبرى، مثل شركة جوجل ولينكد إن وفيسبوك وغيرها، في توليدها وتوفيرها على الإنترنت، وثمة صعوبة في تحديد مفهوم البيانات الضخمة، ويعد التعريف الذي قدمه Doug Laney هو الأكثر قبولاً من جانب الباحثين وهو التعريف الذي يشير إلى أن البيانات الضخمة هي البيانات التي تعتمد على (الثلاثة V) المتمثلة في الحجم والسرعة والتنوع (‘three V’s’ of big data: volume، velocity and variety). فالبيانات الضخمة كبيرة الحجم سريعة التدفق وتمتاز بدرجة غير محدودة من التنوع.
تعد إشكالية البيانات الضخمة من أبرز الإشكاليات التي تواجه الباحثين عند تحليل محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، فالبيانات المتوافرة تتنوع وتتعاظم وتتدفق بشكل مستمر، الأمر الذي يخلق مشكلة في اختيار العينات الممثلة لها وإخضاعها للتحليل، ويؤدي إلى مشكلة أخرى عندما يكون الهدف التعرف على أكبر قدر من المعلومات والاستنتاجات حول منتجي المحتوى، كما تسعى الشركات الهادفة لترويج منتج أو علامة تجارية معينة، وبالتالي إخضاع مساحات أكبر من المضمون للتحليل.
ويتم التعامل مع مشكلة اختيار العينات عبر التحديد الدقيق للمشكلة البحثية والأهداف، والحصر الدقيق لوحدات المحتوى المستهدف (مكانياً وزمنياً) واختيار العينة الممثلة لخصائص هذا المحتوى (المجتمع البحثي) بشكل دقيق، بالإضافة إلى الالتزام بتحليل قضايا أو أحداث محددة بدقة والابتعاد عن العناوين العريضة عند بلورة المشكلة البحثية. وفي حالة تحليل المعلومات الضخمة لأغراض تسويقية يتوجب اللجوء إلى خوارزميات التحليل التي تعتمد على مفاهيم التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، والتي تتولى عملية تحليل البيانات التي قد يقضي الباحثون العاديون شهوراً في تحليلها.
ثالثاً: المداخل الكمية والكيفية لتحليل محتوى التواصل الاجتماعي:
وفقاً لنتائج دراسة أجراها (Ozdal، 2017) وتصدت لتحليل محتوى شبكات التواصل الاجتماعي وجد أن المداخل الكمية هي الأكثر استخداماً في التحليل، في حين يقل عدد الدراسات التي تعتمد على المداخل الكيفية أو التي تجمع بين التحليلين الكمي والكيفي، فالدراسات الكمية هي الأكثر تفضيلاً من جانب باحثي الإعلام، بل وأيضاً داخل العديد من التخصصات الأخرى، مثل تكنولوجيا التعليم، والسياسة واللغة وغير ذلك.
المدخل الكمي لتحليل المحتوى
يعتمد المدخل الكمي على منهجية إحصائية في تحليل التصنيفات التي يتم استخلاصها من محتوى شبكات التواصل الاجتماعي، ويمكن الحصول على مجموعة واسعة من الاستنتاجات من خلال رصد تكرارات المتغيرات المستقلة، أو المتغيرات ذات العلاقة ببعضها البعض. وتتحدد أهم مداخل التحليل الكمي في:
- تحليل الحجم Volume Analysis: وهو أبسط مستويات التحليل الكمي، ويستهدف رصد أحجام البيانات، سواء كانت مرتبطة بمجموعات معينة (مثل مستخدمي المنصة من فئة معينة من فئات الجمهور) أو بتكرارات مؤشرات معينة داخل المحتوى خلال فترة زمنية معينة (مثل تكرارات كلمة رئيسية معينة).
- تحليل العلاقات Relationship Analysis: ويستهدف هذا النوع من التحليل رصد وتتبع التفاعلات بين المستخدمين، من ذلك على سبيل المثال تحليل العلاقة بين الأصدقاء والمتابعين على حساب فيسبوك والأصدقاء والمتابعين على حساب انستغرام لفرد أو مؤسسة معينة، أو العلاقة بين محتوى منشور معين وعدد الاستجابات المتعلقة به من جانب المستخدمين، بهدف رصد حجم المشاركة للمحتوى، مثل: إعادة التغريد/الاقتباسات على Twitter، والتعليقات على YouTube، وما إلى ذلك.
- الارتباطات Correlations: من خلال مقارنة مجموعة بيانات وسائل التواصل الاجتماعي عبر فترات زمنية مختلفة، أو مقارنتها طبقاً لعدد من المتغيرات المستقلة (مثل الموقع والعمر)، وتحليل الارتباطات يفيد الباحثين بمؤشرات استرشادية أو تنبؤية جيدة حول مسارات المحتوى في المستقبل.
- الانحدار/ التصنيف Regression- Classification: ويستهدف هذا التحليل رصد العلاقة السببية بين المتغيرات التي تم تحليلها، ويمكن من خلالها بناء نماذج وسيناريوهات للتنبؤ بظواهر معينة عبر تحليل محتوى التواصل الاجتماعي. فخلال انتشار فيروس كورنا كان يتم تحليل علاقات الانحدار بين تدوينات وتغريدات المستخدمين في مكان أو موقع معين وبين معدلات انتشار العدوى لديهم، ويستفاد من ذلك في وضع نماذج تنبئية حول انتشار الفيروس.
- التجميع Clustering: ويتم من خلاله تجميع البيانات المتماثلة أو ذات الخصائص المشتركة، وهذا التجميع مفيد عند النظر في السمات الديموغرافية للمستخدمين الذين يتناولون أو يهتمون بموضوعات معينة على شبكات التواصل الاجتماعي.
- أنظمة المعلومات الجغرافية Geographical information systems: فالعنصر المكاني من المؤشرات التي عادة ما تكون ظاهرة في سياق المحتوى الذي يتم بثه عبر مواقع التواصل الاجتماعي (عبر عناوين IP من أجهزة الكمبيوتر/ مواقع GPS عند النشر من الأجهزة المحمولة) وبالتالي يمكن توفير مؤشرات عن توقيتات وأماكن تدفق بيانات معينة عن حدث معين.
ويرتبط توظيف المدخل الكمي -في هذا السياق- بتطبيق منهج المسح في مستواه المتعلق بتحليل الرسالة المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي كشكل من أشكال الاتصال الوسيط، الذي يعتمد على التفاعل بين المرسل والمستقبل، ويستند التحليل البحثي -في هذا السياق- إلى الأدوات المتعارف عليها في تحليل المضمون، والمتمثلة في (فئات التصنيف) التي تشتمل عليها استمارة بحثية، وقد يستند إلى خوارزميات تعتمد على التصنيف الآلي للمضمون من خلال التعلم الذاتي، ويصح أن يتم بناء خوارزميات من هذا النوع تتعامل مع النصوص العربية، اعتماداً على مفهوم المعجم الدلالي الذي يتجه إلى تخزين المفردات الدالة على حقول موضوعية معينة (سياسة/ اقتصاد/ دين/ فن/ رياضة وغير ذلك) لتصنيف موضوع المحتوى، ويعتمد على تحليل الصفات لتحديد اتجاه المادة، وحقول الموقع الجغرافي لتصنيف المادة محلياً وإقليمياً ودولياً، وتحليل المفردات الرئيسة لتصنيف القوى الفاعلة وغير ذلك.
المدخل الكيفي لتحليل المحتوى
يستند المدخل الكيفي إلى مجموعة من الأدوات الهادفة إلى رصد الاتجاهات الأساسية داخل المحتوى والتعابير الكيفية عن هذه الاتجاهات، ويجتهد في استخلاص المشاعر الكامنة وراء المحتوى أو التي تحرك المحتوى، أو التوجهات الثقافية والفكرية التي تقف وراء محتوى معين وهكذا، ومن أبرز المداخل الكيفية لتحليل محتوى التواصل الاجتماعي:
- المداخل الإثنوجرافية الإيجابية والسلبيةActive/Passive Ethnographic Approaches: وهي الدراسات التي تعتمد على التحليل الثقافي للمحتوى المتداول بين مجموعات معينة، مثل مجموعات الدردشة أو المجموعات الاثنية التي تهتم بقضايا معينة مشتركة وهكذا.
- تحليل المشاعر Sentiment Analysis: يمكن من خلال التحليل الكيفي للمحتوى استخلاص المشاعر والاتجاهات المسيطرة على المضمون وإذا ما كان يعرض وجهة نظر سلبية أو إيجابية. ولا يزال هذا النهج محدوداً في قدرته على قياس المشاعر عند معالجة مواضيع معقدة أو مواد غامضة أو غير متسقة أو خاصة بالثقافة، مثل المحتوى المقدم باللغة العامية أو الذي يعتمد على السخرية.
- تحليل الموضوعات Thematic Analysis: فمن الممكن تحليل محتوى التواصل الاجتماعي إلى عدة موضوعات بهدف تحديد الطابع العاطفي أو المشاعري للمحتوى، وتصنيف البيانات تبعاً لدرجة أهميتها العاطفية.
- تحليل الوسائط البصرية Graphical Media Analysis: يعتمد محتوى شبكات التواصل بشكل متزايد على الأدوات البصرية مثل الصور والفيديوهات، ويساعد التحليل السيميائي لمحتوى هذه الأدوات في استخلاص العديد من المعلومات المهمة حول المحتوى.
وهناك مجموعة من الأدوات المنهجية التي يمكن أن تفيد في التحليل الكيفي لمحتوى شبكات التواصل الاجتماعي، يأتي على رأسها أداة التحليل الدلالي التي تتصدى لتحليل لغة المحتوى واستخلاص الخلفيات الفكرية والوجدانية التي تحكم إنتاجه، اعتماداً على منهجية تحليل حقول الدلالة، وهي الأداة التي تستند إلى جمع المفردات الرئيسة والفرعية التي يوظفها المحتوى في نقل المعلومات، ثم تصنيفها داخل مجموعة من الحقول الدالة، وتحليلها رأسياً (تحليلاً داخلياً) وأفقياً (في علاقتها بالحقول الأخرى)، وتخدم هذه الأداة في تحليل المشاعر وتحليل الموضوعات. وهناك أيضاً أداة التحليل السيميولوجي التي تتصدى لتحليل كل الرموز الدالة اللغوية التقليدية والبصرية والأيقونية، وتخدم هذه الأداة بشكل خاص في تحليل الوسائط البصرية، وتتساند مع أداة التحليل الدلالي مع أداة التحليل السيميولوجي في التحليل الإثنوجرافي للمحتوى.

ذو صلة