مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

الدراسات الأدبية الإدراكية في الأسس النظرية والمسارات البحثية

شهدت العقود الأخيرة تحولاً جوهرياً في مسارات النقد الأدبي، حيث باتت الدراسات الأدبية الإدراكية (Cognitive Literary Studies) تمثل أحد الاتجاهات البارزة التي تعيد تشكيل فهمنا للنصوص الأدبية في ضوء المنجزات الحديثة لعلوم الإدراك. هذا الحقل البحثي الناشئ يتخذ موقعاً فريداً عند تقاطع علوم اللغة، والفلسفة، وعلم النفس المعرفي، وعلم الأعصاب، ساعياً إلى بناء مقاربات نقدية جديدة لا تستند فقط إلى التأويل الجمالي أو السياقات الثقافية، بل تمتد لتشمل العمليات الإدراكية التي تؤطر تفاعل القارئ مع النص الأدبي.
تكمن أهمية هذا الاتجاه في سعيه إلى الاستفادة من أدوات العلوم الإدراكية من دون الوقوع في الاختزالية العلموية التي قد تفرغ النص الأدبي من طابعه الجمالي والرمزي. فالنصوص الأدبية، بكونها أنساقاً دلالية معقدة، لا يمكن ردّها ببساطة إلى عمليات عصبية أو ميكانيزمات إدراكية محددة، بل إنها تمثل فضاءً حوارياً متعدد الطبقات تتداخل فيه البنية اللغوية مع التجربة الشعورية والسياق الثقافي. وفي هذا الصدد، تشير الباحثة ليزا زونشاين في دراساتها الرائدة إلى أن الدراسات الأدبية الإدراكية تتبنى رؤية لا مركزية، تعارض التفسيرات الكلية الحتمية وتقرّ بالطابع التفاعلي بين القارئ والنص، حيث يتموضع الفهم الأدبي في شبكة ديناميكية من العمليات الذهنية والسياقية.
من هذا المنطلق، تستدعي الدراسات الأدبية الإدراكية إعادة النظر في المفاهيم التقليدية للنقد الأدبي، مثل التأويل والتخييل والاستعارة وتفاعل القارئ-النص، عبر منظور يُراكم بين التحليل الأدبي والتصورات الإدراكية الحديثة. كيف يدرك القارئ البنى السردية؟ ما الدور الذي تلعبه الاستعارة الإدراكية في تشكيل دلالات النصوص؟ وكيف يمكننا فهم فعل التخييل باعتباره نشاطاً إدراكياً معقداً يتجاوز حدود اللغة؟
التأسيس النظري بين
الاستيعاب والتجاوز
إن المتتبع للمسار الإدراكي لهذا الحقل النقدي يلحظ أنه يتأسس على جدلية دقيقة تجمع بين استيعاب منجزات العلوم الإدراكية وتجاوز محدوديتها المنهجية، بما يضمن للنقد الأدبي استفادته من التطورات العلمية دون أن يفقد استقلاليته النظرية. هذا التوازن الدقيق يعكس طبيعة الدراسات الأدبية الإدراكية كحقل ديناميكي لا يهدف إلى إحلال التصورات العلمية محل المناهج النقدية التقليدية، إنما يسعى إلى إعادة تشكيل فهمنا للنصوص الأدبية عبر الاستفادة من أدوات الإدراك المعرفي ضمن إطار نقدي مرن ومتعدد المستويات.
إن جوهر الدراسات الأدبية الإدراكية يتمثل في كونه فضاءً مفتوحاً للتفاعل بين النقاد الأدبيين والمنظرين المهتمين بالعلوم الإدراكية، حيث يكون الحوار المتبادل بين الطرفين هو المحرك الأساسي لهذا المجال، بغض النظر عن اختلافاتهم المنهجية أو خلفياتهم المعرفية. هذه الرؤية تؤسس لمجال دراسي يرفض أن يكون منظومة مغلقة من المفاهيم أو تطبيقاً آلياً للنظريات العلمية على النصوص الأدبية، بل يسعى إلى خلق تفاعل معرفي حيوي يمكّن من مساءلة الأسس التقليدية للنقد الأدبي وإعادة صوغها في ضوء التطورات الإدراكية المعاصرة.
عند النظر إلى البنى النظرية التي تحدد معالم هذا المجال، نجد أن هناك اتجاهين أساسيين يحكمان علاقته بالعلوم الإدراكية، الأول يتمثل في المقاربة القائمة على الاستعارة التصورية، والتي تستند إلى مفاهيم مثل نظرية العقل، والدمج التصوري، وعلم الأعصاب الجمالي، بهدف تحليل الظواهر الأدبية من منظور إدراكي. هذه المقاربة، وإن كانت تستفيد من الأدوات المفاهيمية التي توفرها العلوم الإدراكية، إلا أنها تحافظ على مسافة نقدية ضرورية بين الظاهرة الأدبية والتفسير العلمي، بما يضمن عدم اختزال التعقيد الجمالي للنصوص إلى مجرد آليات معرفية قابلة للقياس. أما الاتجاه الثاني، فهو النقد التأسيسي الذي ينطلق من مساءلة المسلمات الأنطولوجية والأبستمولوجية للنقد الأدبي في ضوء منجزات العلوم الإدراكية، دون السقوط في فخ تقليص الظاهرة الأدبية إلى مجرد نشاط معرفي يمكن تفسيره حصرياً عبر العمليات العصبية أو الميكانيزمات الإدراكية. هذا الاتجاه يسعى إلى التوفيق بين البعد الإنساني للنقد الأدبي والتفسيرات العلمية، في محاولة لإعادة تحديد موقع الأدب ضمن منظومة معرفية أوسع تتجاوز التقسيم التقليدي بين العلوم والإنسانيات.
إن ما يمنح هذا المجال أهميته الفكرية هو رفضه للثنائية التبسيطية التي تضع العلوم في مواجهة الإنسانيات، إذ لا يُنظر إلى التداخل بينهما بوصفه نوعاً من التعدي المفاهيمي أو التنافس المعرفي، وإنما باعتباره حواراً منتجاً يسمح لكل طرف بإعادة النظر في مفاهيمه وحدوده. تؤكد نانسي إيسترلين أن الانقسام بين العلوم والإنسانيات، رغم كونه ليس مثالياً من نواح عديدة، يعكس اختلافات جوهرية في طرائق التفكير حول العالم. هذا الإقرار بالاختلاف لا يعني القبول بتعارض مطلق بين المجالين، بل على العكس، يفتح المجال أمام إمكانيات جديدة للفهم والتأويل تتجاوز ثنائية الموضوعية العلمية مقابل الذاتية الأدبية. بهذا المعنى، فإن الدراسات الأدبية الإدراكية لا تسعى إلى استبدال مقاربات النقد الأدبي التقليدية، وإنما تعمل على إثرائها وتوسيع آفاقها عبر إدخال معطيات معرفية جديدة، تتيح فهماً أعمق للدور الإدراكي الذي تلعبه النصوص في تشكيل الوعي البشري وإعادة إنتاج التجربة الإنسانية.
تمثل الدراسات الأدبية الإدراكية مقاربة نقدية دقيقة تبتعد بوضوح عن الاتجاه المسمى بـ(الداروينية الأدبية)، التي تتبنى منظوراً اختزالياً يسعى إلى تفسير الأدب بوصفه مجرد ظاهرة تكيفية نشأت ضمن سياق التطور البيولوجي. يركز هذا التيار على الافتراض بأن الأدب، في جوهره، يخدم وظائف بيولوجية تطورية محددة، مثل تعزيز التعاون الاجتماعي أو توطيد البنية المعرفية لدى البشر. غير أن هذا الطرح، رغم وجاهته من منظور معين، يواجه إشكاليات جوهرية بسبب تجاهله للبناء الثقافي وتعقيداته. كما توضح إيلين سبولسكي، فإن الداروينيين الأدبيين يفشلون في إدراك مدى تأثير الأنظمة الرمزية والثقافية على تشكيل الوعي والسلوك، بل وحتى على المستوى الجيني نفسه، ما يجعل تفسيرهم للظاهرة الأدبية قاصراً وغير كاف لفهم تعقيداتها الجمالية والمعرفية.
تعددية المناهج والمقاربات
إحدى السمات المميزة للدراسات الأدبية الإدراكية هي غناها المنهجي وتعدد مساراتها البحثية، حيث تتداخل فيها مناهج معرفية مختلفة، تمتد من علم النفس الإدراكي إلى علم الأعصاب واللسانيات الإدراكية. هذه التعددية المنهجية تعكس الطبيعة المفتوحة لهذا الحقل، الذي لا يفرض نموذجاً تأويلياً أحادياً، بل يسعى إلى استكشاف تفاعل الأدب مع آليات الإدراك البشري من زوايا متعددة.
المحور السردي-الإدراكي يشكل أحد أبرز المسارات البحثية، حيث يركز على دراسة الآليات الإدراكية التي تحكم إنتاج السرد واستقباله. يبرز في هذا السياق أعمال ديفيد هيرمان، ومونيكا فلودرنيك، وماركو برنيني، الذين يوظفون نظريات من علم النفس الإدراكي مثل نظرية العقل، والأطر الإدراكية، ونماذج معالجة المعلومات لفهم كيفية بناء القارئ للعوالم السردية وإدراكه للوعي المتضمن في النصوص. توفر هذه المقاربة أدوات تحليلية دقيقة تتيح استكشاف كيفية تأثير البنية السردية على آليات الفهم الإدراكي، ما يسهم في إعادة تعريف العلاقة بين التخييل والسرد والإدراك.
أما المحور العاطفي-التعاطفي، فيتناول العلاقة بين الأدب والعواطف الإنسانية، حيث يستكشف باحثون مثل سوزان كين، وويليام فليش، كيف تؤثر التجربة الأدبية على تنمية التعاطف البشري. تذهب كين، على سبيل المثال، إلى ما هو أبعد من الفكرة التقليدية التي ترى التعاطف كنتيجة عرضية للقراءة، لتطرح تصوراً أكثر تعقيداً يفترض أن التعاطف السردي هو عملية ادراكية-عاطفية مركبة ذات أبعاد أخلاقية وسياسية. بهذا المعنى، تصبح التجربة الأدبية أداة لإعادة تشكيل المفاهيم العاطفية لدى القارئ، بل وحتى لإعادة تعريف الفضاءات الأخلاقية التي يتحرك فيها الوعي الإنساني.
بينما يسعى المحور التاريخي-الإدراكي، الذي يتبناه باحثون مثل آلان ريتشاردسون وآنا هينشمان، إلى استكشاف الكيفية التي يساهم بها الأدب في تشكيل المعرفة الإنسانية عبر التاريخ. لا يُنظر إلى النصوص الأدبية هنا بوصفها مجرد انعكاس لنماذج معرفية سائدة، بل باعتبارها قوة فاعلة في إعادة تشكيل هذه النماذج وتحويلها. يمكننا أن نتأمل، على سبيل المثال، في كيفية مساهمة أدب الحداثة في إعادة تشكيل مفهوم الذات والوعي، حيث تجاوز النموذج الديكارتي التقليدي الذي يقوم على ثنائية العقل والجسد، ليقدم تصورات جديدة أكثر تعقيداً للهوية والذاتية.
أحد المحاور الأكثر إثارة في هذا المجال هو دراسات الإعاقة الإدراكية، التي يقودها باحثون مثل رالف جيمس سافاريز ونيكولا شوغنيسي. يمثل هذا المسار تحدياً جذرياً للنظرة التقليدية إلى الاضطرابات العصبية، حيث يتم تجاوز الفكرة التي ترى التوحد، مثلاً، بوصفه عمى عقلياً يعوق فهم الآخر، إلى تصور أكثر انفتاحاً يقترح أن الأفراد ذوي التباين العصبي يملكون أنماطاً بديلة للإدراك والتفاعل مع العالم. في هذا السياق، تصبح النصوص الأدبية مساحة لاختبار كيف يمكن للتباين العصبي أن يعيد تعريف مفاهيم مثل الفهم والتخييل والتواصل.
الأسس النظرية للدراسات الأدبية الإدراكية
إن فهم الدراسات الأدبية الإدراكية يظل ناقصاً ما لم يتم التعمق في أسسها النظرية العميقة، والتي تميز هذا المجال عن غيره من المناهج النقدية. فهذه الدراسات لا تتعامل مع الأدب كمجرد ظاهرة نصية معزولة، ولا تنظر إلى الإدراك البشري بوصفه مجرد معالجة معلوماتية خطية، بل تسعى إلى بلورة مقاربة تتجاوز التصنيفات التقليدية، وتعتمد على رؤية ديناميكية تدمج بين الجوانب العصبية، النفسية، والثقافية للأدب. يمكن تلخيص هذه الأسس النظرية في عدة محاور رئيسة:
التعقيد المتأصل للظاهرة الأدبية والإدراكية
تنطلق الدراسات الأدبية الإدراكية من الإقرار بأن كلاً من العقل البشري والنص الأدبي يمثلان أنظمة معقدة تتجاوز الفهم المبسط أو الاختزالي. فالعقل ليس مجرد «آلة» لمعالجة المعلومات، بل هو شبكة متعددة المستويات من العمليات الواعية واللاواعية، الإدراكية والعاطفية، الفردية والاجتماعية. يعتمد الإدراك البشري على التفاعل المستمر بين المثيرات الحسية، الاستجابات العاطفية، والسياقات الثقافية التي تُشكِّل فهمنا للعالم. وبالمثل، فإن النص الأدبي ليس مجرد تمثيل بسيط للواقع، بل هو بنية معرفية مُركّبة تنطوي على عمليات إنتاج وتأويل معقدة. كما يوضح بعض الباحثين، فإن العمل الأدبي ليس انعكاساً للواقع فحسب، وإنما تشكله بالكامل عملية إدراكية تتضمن التأويل والتفاعل العاطفي والانخراط التخييلي. هذا التصور يجعل من الأدب تجربة دينامية، لا يمكن اختزالها إلى مجرد مجموعة من القواعد السردية أو البُنى الدلالية.
رفض الثنائيات المتعارضة
من أهم الملامح المميزة لهذا المجال هي رفضه للثنائيات الاختزالية التي طالما سيطرت على الفكر الغربي، مثل: الطبيعة مقابل الثقافة، والعقل مقابل الجسد، والإدراكي مقابل العاطفي، والفردي مقابل الاجتماعي. وبدلاً من ذلك، يتبنى هذا التوجه رؤية تكاملية ترى هذه الأقطاب ليس كمتناقضات، وإنما كعناصر متفاعلة داخل نظام معقد. فكما يوضح مارك برون، فإن الزمنية المتجسدة في الأدب لا يمكن حصرها في مفهوم زمني موضوعي خطي، بل هي خبرة إدراكية متعددة الطبقات، تتداخل فيها الأزمنة الذاتية والموضوعية ضمن تجربة معقدة للقارئ. إن هذه المقاربة تُعيد التفكير في كيفية تفاعل الإنسان مع الأدب، إذ لا ينفصل الإدراك عن التجربة العاطفية، ولا يمكن فهم النصوص الأدبية بمعزل عن التكوين العصبي والثقافي للقراء.
الالتزام بمبدأ التأويل
على عكس النزعة الوضعية التي تسعى إلى استخلاص (حقائق موضوعية) من النصوص الأدبية عبر أساليب تحليلية صارمة، تتبنى الدراسات الأدبية الإدراكية مقاربة تأويلية تعترف بأن كل قراءة للنص هي بالضرورة تأويل وليس مجرد استخراج للمعنى. تشير إيلين سبولسكي إلى أن (النتائج المستخلصة من البيانات التجريبية ليست أبداً حقائق بديهية، بل هي دائماً نتيجة عملية تأويلية)، ما يعني أن المعرفة الأدبية لا تتكون من معطيات ثابتة، بل هي بناء معرفي متغير يعتمد على تفاعل القارئ مع النص. لا يعني هذا رفض المنهج التجريبي، بل هو موقف نقدي يعترف بحدود التفسير العلمي للظواهر الأدبية، ويؤكد أن الإدراك الأدبي يتضمن دائماً عنصراً تأويلياً لا يمكن تجاوزه.
الانفتاح المستمر والتجدد المنهجي
السمة الأخيرة، وربما الأكثر جوهرية، هي الطبيعة الانفتاحية لهذا الحقل المعرفي، الذي يرفض أي شكل من أشكال الدوغمائية المنهجية. لا تقدم الدراسات الأدبية الإدراكية نموذجاً ثابتاً للتحليل، بل تظل في حالة تطور وتجدد مستمرين، حيث تستوعب باستمرار المستجدات في علم النفس الإدراكي، علم الأعصاب، واللغويات المعرفية. كما تشير ليزا زونشاين، فإن (الانفتاح وعدم القدرة على التنبؤ ليسا نقصاً في المجال، بل هما تجسيد لإستراتيجية معرفية واعية تقر بحدود المعرفة البشرية وتسعى باستمرار إلى تجاوزها). هذا الطابع الدينامي يجعل الدراسات الأدبية الإدراكية قادرة على التعامل مع تعقيدات الظاهرة الأدبية بشكل أكثر مرونة، حيث تدمج بين المنظورات العلمية والتفسيرية دون أن تسقط في فخ الاختزال العلمي أو التعالي النظري.
بهذه الأسس، تطرح الدراسات الأدبية الإدراكية رؤية جديدة للنقد الأدبي تتجاوز الحدود التقليدية بين العلوم والإنسانيات، وتعيد التفكير في العلاقة بين الأدب والعقل والإدراك. إن هذا المجال لا يسعى فقط إلى تحليل الأدب باستخدام أدوات معرفية جديدة، بل يعمل على إعادة تعريف طبيعة القراءة والتفاعل الأدبي بواسطة فهم أعمق للكيفية التي يعمل بها الدماغ البشري في استجابته للنصوص.
إن التحليل الإدراكي للنصوص الأدبية لا يقتصر على تطبيق المفاهيم الإدراكية عليها، بل يسعى إلى الكشف عن الديناميات المعرفية المتضمنة في النص، وكيفية تفاعلها مع الأبعاد الثقافية والتاريخية والجمالية. فالمقاربة الإدراكية للأدب تتجاوز التحليل التقليدي للنصوص بوصفها كيانات لغوية مغلقة، تنظر إليها كأنظمة دينامية تعكس تفاعل العقل البشري مع العالم.
إن الدراسة الإدراكية للأدب ليست مجرد تطبيق (علم جديد) على (موضوع قديم)، بل هي حوار معرفي متبادل يمكن للنص الأدبي من خلاله أن يُسهم في تطوير فهمنا للعمليات الإدراكية ذاتها. وكما يشير جوشوا لاندي في مناقشته للانعكاسية الذاتية في الأدب، فإن العمل الأدبي قد يوفر نموذجاً لمستويات متعددة من الوعي لا تستطيع النماذج الإدراكية التقليدية استيعابها بسهولة.
خاتمة
تمثل الدراسات الأدبية الإدراكية لحظة تاريخية فارقة في تطور النقد الأدبي، لحظة تتجاوز فيها الانقسام التقليدي بين العلوم والإنسانيات نحو فهم أكثر تعقيداً وشمولاً للعلاقة بين العقل البشري والنص الأدبي. إن مقاومتها للنظريات الموحدة ليست دليلاً على قصور منهجي، بل هي انعكاس لوعي عميق بتعقيد الظاهرة الأدبية والإدراكية وبحدود المعرفة البشرية. كما يشير ريتشاردسون، فإن (الطبيعة الحوارية واللامركزية) للمجال هي التي شكلت مساره خلال العقد الماضي. وهي ميزة ينبغي الحفاظ عليها وتطويرها، حيث تتيح للمجال المرونة اللازمة لاستيعاب المفاهيم والنماذج الجديدة دون الانغلاق في إطار نظري جامد.
مستقبل المجال مفتوح على احتمالات متعددة، لكنه سيظل متمركزاً في سؤال أساسي: كيف يمكن للعلاقة بين العقل البشري والنص الأدبي أن تفتح أمامنا آفاقاً جديدة لفهم الظاهرة الإنسانية في تعقيدها وثرائها؟ هذا السؤال يتجاوز الحدود التقليدية للمعرفة، مؤسساً لحوار معرفي غير مسبوق بين العلوم والإنسانيات، حوار لا يسعى إلى (الحقيقة) النهائية بل إلى فهم أعمق وأكثر تعقيداً للظاهرة الإنسانية.

ذو صلة