بدأ كلُّ شيء بأن استحوذت عليه حسرةٌ من أن يفوته شيء، حفلة موسيقية أو لقاء صديق أو مجرد الحلول في لحظة ومكان محددين، وهي حسرة دفينة عمياء لا علاقة لها بالظفر بمغنم ولا بما إذا كان المتحسَّر على فواته أمراً يهمّه أم لا. ثم تفاقمت حسرة الفوات هذه حتى غدت خوفاً، خصوصاً حين غدا كل شيء يتحرك بسرعة أكبر من ذي قبل، وصار الإنسان الذي يمشي متقدماً داخل طائرة تطير أسرع بالفعل من الطائرة التي تقلّه.
أدرك الرجل أنّ ما الوقت سوى سيل لا ينقطع من صُدف ضائعة لا يعرف أحدٌ بين مَن كانت ستكون، وقليل جداً من الصدف المستوفاة، تلك التي يسميها الناس مواعيد. وأزمع على أن يستوفي، بمعونة حيلة بسيطة لكنها مستحيلة تقريباً، ملايين الصدف غير المتحققة، وأن يزيد فرص الصدف المستوفاة على حساب الفرص المهدورة حتى يقضي على الأخيرة تماماً. أي إنه قرر أن يحوّل ما استطاع من الصدف المحتملة إلى مواعيد يضربها بنفسه. فأفسحت بفضل دأبه الصدفُ العشوائية مجالاً هائلاً للمواعيد التي تكاثرت حتى ابتلعت كل شيء.
طالما بدا له فيما مضى أن الصدفة، الحلوة بالطبع، تقوم على حظوة للمرء من حيث لا يحتسب. إنها بمثابة هدايا مادّتُها الوقت، ولذا فرُبّ صدفة خير من ألف ميعاد. أما المواعيد فلا بد أنها تنطوي على ضرب خفيّ من المذلة يأتي من ترتيب مواعيد طوعية في الغالب ومن تفويتها. وكانت آيته القرآنية الأثيرة: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد). ومع ذلك فإن مشروعه الجديد لا يتناقض مع تصوراته السابقة.
هكذا راح يسبق الصدف قبل أن تحدث، ساحقاً إياها بقدميه اللتين تطويان المسافات. صار يظهر فجأة مثل ماردٍ في الطرقات وصالات الانتظار والممرات، يبرز أمام الناس في المنعطفات والزوايا كما تفعل بهم أقدارهم المتربصة. ولمّا كان عليه أن يتعامل مع دهشتهم درّب قسماتِ وجهه على تصنّع المفاجأة في كل مرةٍ مثل عاشق مبتدئ يفتعل المصادفات. ولأنه نذر نفسه لهذه المهمة فقد صار أهل بيته يجدونه في مواعيده أكثر مما يجدونه في البيت.
تدريجياً أصبح يمسك بزمام الأمور، يَعثر ولا يُعثَر عليه إلا في ظنون الآخرين. ولئن كانت (هنا) و(هناك) نقطتين واقعتين على طرفي نقيض، فإن بينهما عدداً لا يحصى من النقاط يسافر فوقها صاحبنا كيما يكون في المواعيد. ولن يستعسر على أحد تصوّره ممتطياً صهوة فرس أدهم مثل فارس عربيّ في سيطرة وخيلاء حتى لا يعود للهُناك وجود وتصبح كل الأماكن هنا. لقد أفنى المسافات حتى صار موجوداً في كل مكان يمكن أن يوجد فيه، كأنه ربّ. إنه، على ما في هذه العبارة وسابقتها من تجديف، أسرعُ من الوقت نفسه وأسبقُ إلى الحدوث.
ولكنه حين جعل يحُول دون الصدف أن تقع، أدرك أيضاً أنه يخلقها. فكلّ من لقيهم على هذا النحو -ولا نحوَ غيره- حسبوا أنهم يلقونه مصادفة فرَوَوا المواجهات التي جمعتهم به من دون أن يعلموا أنها من تدبيره. لقيه بعضهم أكثر من مرة في أكثر من مكان، في الحديقة والمطعم والدائرة الحكومية. بل من شدة أنه متعدد الوجود أوشك أن يصادف نفسه، ولو وقع هذا لكانت ورطة حقيقية من قبيل انقلاب السحر على الساحر. وحدث ضربٌ من اللبْس حين زعم غيرُ واحدٍ أنه رأى الرجل في الوقت نفسه الذي كان غيره قد رآه فيه، بالطبع في مكان ثان. في البدء تحدث الناس عن تلك اللقاءات بتعجّب، ثم ما لبثت الشكوكُ أن ساورتهم في تقديراتهم الزمنية، أشوهد قبل صلاة الظهر أم بعدها؟ وتضاربت شهاداتهم بحيث استعصى التوفيق بينها، وتوقفوا عن تصديق روايات بعضهم بعضاً. ولولا أنهم يتحدثون إلى الرجل حين يلقونه لقالوا إنهم إنما يقابلون أشباهاً له متفرقين في المدينة. وانتهى بهم الحال إلى أن سئموا من التفكير في الموضوع وهجروه برمّته حفاظاً على سلامة أذهانهم.
أما هو فقد انطوى وجوده السرطاني المستحيل على مفارقة عجيبة، فسطوه على الوقت وإفناؤه إياه لم يمنعه من أن يفنى هو أيضاً في الوقت. لا فناء واحداً بل فناء مضاعفاً جديراً بحالته. وبدلاً من أن تزعجه هذه الحقيقة فإنه وجد فيها سلواه، لأنه وإن تفرّد بهذه القدرة فوق البشرية، وأصيب بهذه الجرثومة المهلكة النادرة، فسيموت في نهاية المطاف مرحوماً برحمة الجماعة الفانية في الوقت.