على حافَة جبال قريتنا الهانئة، حين كنا عائدين إلى البيت، رمى جارنا السلام كما يفعل عادة. وقبل أن يكمل والدي رده: (وعليكم السـ...)، رفع نظره إلى الجار -وتحديداً- لعينيه. كتم صوته، وباستنكار مقيت، حشرجت الكلمات. أسرع الخطو دون أن يكمل الحديث الذي كان عادةً ما يدار بينهما. تمتم: (أعوذ بالله من شر خلقه أجمعين). نظرت إلى جارنا، فلمحت حراشف قد نمت على طرف عينه اليسرى، غامت كعين حرباء تكابد محاولة النظر حولها.
وصلنا إلى البيت، حكى والدي لوالدتي هامساً بما آل إليه حال جارنا، في حين امتقع وجهه خوفاً أو ريبة. تعوذا من شرور الدنيا. لم نعد نرى ذلك الجار، صرنا نسلك طريقاً أكثر ضيقاً، شديد الوعورة. ذاع الخبر عن الجار، قيل إن الحراشف غطت عينيه، ولم يعد يرى شيئاً، صار يتخبط في مشيه، يتهادى في المسير. ولكنه في ذات الوقت رفع جدار بيته، وسع فِنَاء المنزل، وزاد ضيوفه، وذاع صيته حتى القرى الأخرى.
كانت حكايته عن الشبع، عن الموائد، عن أطعمة لم نعرف لها اسماً من قبل، عن مأكل لم نختبره في قريتنا قط، عن خبز محشو بالجن، وحلوى مليئة بالمربى تثير الشهية وتخبط العقل، عن مشروبات يتعدى مذاقها السكّر. وطعم شديد الحلاوة ليس كالدبس الذي نعرفه، ولا كالعسل الذي يُحكى عنه. كان حديثه عن طعام مزخرف، عن المتع، الذهب، الثراء، وأنه زينة الدنيا، وعليه أن يملأ جيوبه وجوفه منه كيفما اتفق الحال.
تحدث عن امتلاك أرض مفروشة بالريحان، وعن ملذات أخرى لم تخطر على عقل والدي، والدي الذي مات جائعاً، ولكن هالة من نور أضاءت حوله، بعد أن بنى حائطاً رقيقاً بيننا وبين جيراننا الذين أصابتهم العدوى وعرفوا الشبع، عندما فتحوا قلوبهم وآذانهم لجارنا. ما هي إلا شهور قلائل حتى انتشرت الحراشف بين الجيران، حراشف لا تُرى إلا إذا دخل جوفك ذات الخبز الطيب الذي تحدثوا عنه بشهوة خبيثة، تدعوك لأخذ قطعة منه.
اغتمت والدتي: (يا الله، اكفنا شر الحرام، والمال الحرام). جعت ليالي كثيرة، نمنا دون عشاء، لكننا كنا نضحك كثيراً، أقصد ضحكات من القلب، بل كنا ندمع لشدة الضحك. وعلى الرغم من الفاقة والجوع والبرد والعطش، كان وجه أمي يتهلل ضياء، وصوت دعواتها يطرق أبواب السماء: (الستر يا الله، الستر).
تفشى بين الدور غبش الرؤية والعمى من كثرة الحراشف النابتة على الجفون. ساد القبح على الوجوه. تصيح أمي باكية: (ضاعت الأخلاق)! صرت أشاهدهم في الطرقات، يمد أحدهم يده لتفاحة معلقة بشجرة، ويقضمها دون الشعور بعار السرقة. يقطفون من التينة القديمة، يحشون أفواههم، ويكنزون جيوبهم. يخطفون من كروم العنب ثم يعودون محملين بما جابوه، دون أدنى شعور بأنهم يأخذون ما ليس لهم. ينزحون من ماء العين ويشربون شرب الهيم، ينصرفون وقد تركوا على جوانب الطرقات قذارتهم وبقايا فضلاتهم، حتى وصل للأنوف رائحة عفنهم وبولهم النتن. وحين يزحف الليل إلى القرية، يعودون لمنازلهم للنوم كما تفعل البهائم، وهناك يغطون في سبات عميق.
تركت القرية، غادرتها إلى المدينة، وصار لي أسرة وأربعة أفواه تنتظر عودتي محملة بما يشبع بطونهم. كثرت ديوني، وأحكم الجوع قبضته على عنقي، وشدد خناقه على فلذات كبدي. ضاقت بي الأرض بما رحبت. وتحت وطأة الجوع وتكالب الأحمال على كتفيّ المرهقتين، امتدت يدي للمال الذي أؤتمنت عليه.
في الأيام التالية، هرشت عيني. أعلم ذلك، قد بدأت الحراشف تنمو على أعلى الجَفْن. هل جرحت الحراشف ظاهر كفي؟ هل سال بعض الدَّم؟ بدأ العمى يتسلل إليّ، قريباً لن أرى. لم أعد أكترث لذلك.
بدأت بحشو جوفي في محاولة للشبع، لم أشبع.