مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

حقق شهرة واسعة في ظرف زمني وجيز.. الشاب حَسْنِي.. بلبل موسيقى الراي

تصنف المنطقة المغاربية واحدة من أبرز المجالات الجغرافية التي تزخر بتراث ثقافي ضارب في القدم، والذي يتميز بالغنى والتنوع، وتبرز ضمنه الفنون الغنائية بمختلف تلاوينها، لكن تبقى أغنية الرَّايْ وما يرافقها من كلمات وألحان وموسيقى من أهم هذه الفنون، فهذا النمط الغنائي ترعرع بين أحضان المجتمع المغاربي، وأوصله إلى العالمية ثلة من الفنانين الشباب الجزائريين والمغاربة بالخصوص، وفي طليعتهم بلبل أغنية الراي وملكها دون منازع (شَقْرُونْ حَسْنِي) المعروف في الأوساط الفنية بالشاب حَسْنِي.
ولد فناننا يوم (1 فبراير 1968م) بحي (قَمْبِيطَة) الشعبي في مدينة وهران، من أسرة بسيطة مكونة من خمسة أفراد، وكانت الأم ربة بيت، بينما الأب كان يشتغل حداداً، والذي طالما كان يحلم أن يصبح ابنه طبيباً أو محامياً، لكن حسني كان له رأي آخر حيث كان حلمه أن يصبح أحد نجوم كرة القدم، وهو ما جعله ينقطع عن الدراسة في سن مبكرة، وبدأ يحقق هدفه عندما انضم إلى أحد الفرق الشهيرة في مدينة وهران، حيث صقل موهبته هناك وتدرج في الفئات العمرية للفريق، لكن الإصابة الخطيرة التي تعرض لها في إحدى المباريات أرغمته على اعتزال كرة القدم.
وبعدما تخلى عن موهبته الأولى، هنا سيعرج نحو موهبته الثانية، حيث كان مولعاً بالمطربين العرب مثل فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ ووردة الجزائرية.. وهو ما دفعه لولوج عالم الغناء لأول مرة في مطلع الثمانينات ضمن فرقة (قَادَة نَاوِي)، التي كانت تحيي السهرات الفنية وحفلات الزفاف والعقيقة في وهران، وكان حسني حينها يتميز عن غيره في هذه المجموعة بعذوبة صوته وحسن أدائه لأغان خالدة من التراث الشعبي الجزائري القديم، وهو المنبع الذي ترعرع بين أحضانه فن الراي، واعتمده كبار الفنانين الجزائريين في هذا المجال كالشاب خالد والشاب مامي والشاب الصحراوي.
وانطلاقاً من سنة (1986م) سيتوصل الشاب حسني لاتفاق مع شركة إنتاج محلية لتسجيل أول ألبوم غنائي له رفقة مغنية كانت بدورها في بداياتها الأولى، والمعروفة في الأوساط الفنية بـ(الشابة الزَّهْوَانِيَّة)، حيث أديا أول أغنية لهما تحت عنوان (البَرَّاكَة)، التي اعتبرت آنذاك واحدة من أكثر أغاني الراي تأثيراً في صفوف الشباب بكلماتها ولحنها والأداء المتميز، وهنا اكتشف الجمهور مطرباً جديداً سيكون له شأن في سماء أغنية الراي.
وبعدها حاول الشاب حسني أن يرسم مساره الفني بنجاح، وفي مدة زمنية وجيزة جداً، وذلك بتخصصه في أغنية الراي العاطفي، الذي برع فيه بشهادة كتاب الكلمات والملحنين، فخلال ثمان سنوات فقط (1986-1994م)، خلف حسني ما يناهز (100) ألبوم، وأزيد من (600) أغنية، وهو ما لم يستطع أن يقدمه فنانون طيلة سنوات عديدة من الغناء.
كما تميز حسني عن غيره أيضاً في كون معظم أعماله كانت من كلماته وألحانه المستوحاة من عمق فن الراي المغاربي، إلا أن هذا لم يمنعه من الانفتاح على ألحان مختلفة عربية وغربية، كما يظهر ذلك في بعض أغانيه، حيث تأثر بعدة فنانين أعاد توزيع ألحانهم في أغانيه وأخرجها بشكل رائع ومميز وأداء خاص، وهو ما أعطى لإنتاجه تنوعاً كسب من خلاله الإعجاب والمتابعة، وكانت ألبوماته تحقق في مبيعاتها أرقاماً قياسية تفوق في بعض الأحيان مبيعات الكثير من الفنانين المشهورين.
وقد لامست أغاني الشاب حسني العديد من المواضيع التي استلهمها من الواقع المعاش ومن تجاربه ومشاعره العاطفية، وهو ما جعله يتقرب بشكل كبير للجمهور أكثر من غيره، حيث عالجت أعماله قضايا الشباب بدقة عالية وبالكثير من الغوص في التفاصيل، فقد غنى للحب وللحزن وللفراق وللهجرة وللوطن، ولم تكن إنتاجاته معزولة عن حياته الشخصية، فقد أعاد غناء وقائع من حياته الشخصية، كما غنى عن علاقته بزوجته (مَلِيكَة) وبابنه الوحيد (عبدالله).
ومن أشهر ما أداه حسني نذكر أغاني (رَانِي نَادم على لِيَّامْ)، (مَازَال كَايَن ليسْبوَار)، (مَتَبْكِيش دا مَكْتوبي)، (مازال سوفونير عندي)، (طال غْيابك يا غزالي)، (شوفو عَشقها ما دار فيا)، (أعطوني الفيزا).. وكانت هذه الأخيرة قد بيع منها أزيد من 250 ألف نسخة، أما رائعته (البيضاء حبيبتي) فقد بيع منها ملايين النسخ، إضافة لأغان كثيرة ترسخت عند جيل الثمانينات والتسعينات، ومازالت منتشرة إلى يومنا هذا، كما أحيا الشاب حسني العديد من السهرات الفنية داخل الجزائر وخارجها، لعل أبرزها السهرة التي كانت في سنة (1993م) بملعب (5 يوليوز) بالجزائر العاصمة، والتي حضرها رقم قياسي من الجمهور بلغ 150 ألف مشاهد، حيث مكثوا في الملعب من غروب الشمس إلى بزوغها.
كما أدى حسني العديد من الأغاني الشرقية بلحنه الخاص، وهو ما أعطاها جمالية كبيرة، ومن المطربين الذين غنى لهم: (جورج وسوف)، (وردة الجزائرية)، (لطيفة العرفاوي)...، كما أحيا مجموعة من السهرات الفنية في مجموعة من البلدان كالولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، بلجيكا، هولندا، ألمانيا، كندا، والمغرب..
وعلى الرغم من هذا الإنجاز الحافل إلا أن الساحة الفنية العربية ستفقد بلبل الراي في ريعان شبابه، وذلك عندما تم اغتياله يوم 29 سبتمبر 1994م، مخلفاً وراءه إرثاً فنياً غزيراً، جعله يتبوأ عالم فن الراي، ورغم رحيله إلا أن الشاب حسني لا يزال حياً في قلوب عشاقه بصوته وكلماته وألحانه.
وفي إطار ثقافة الاعتراف، فالمؤسسات الثقافية في مدينة وهران تنظم كل سنة تظاهرات فنية تستعيد من خلالها أمجاد هذا المطرب، بمشاركة عشرات الفنانين الذين يعيدون تأدية إحدى أغانيه في المسارح والساحات العمومية، تكريماً له ولما قدمه لفن الراي، وحتى يبقى اسم شقرون حسني محفوراً في الذاكرة الشعبية، فقد تم إنجاز فيلم طويل حوله تحت عنوان (آخر أغنية) سنة 2010 للمخرج مَسْعود العايِب، كما احتفى أيضاً بشخصية حسني وأعماله المخرج محمد مَيْهُوبِي في مسرحية (حَسْني يُغني هذا الخميس) أما الكاتب (سعيد خطيبي) فقد ألف كتاباً حول سيرة الشاب حسني تحت عنوان (حسني كوكب عشق يتدلى).

ذو صلة