مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

الأدب في مواجهة التاريخ..لماذا ينجو الأدباء من المحاسبة؟

عبر العصور خضع الملوك والقادة للمحاكمة، سواء في حياتهم أو بعد رحيلهم، لكن الأدباء ظلوا بمنأى عن ذلك، وكأنهم فوق المساءلة التاريخية، فحتى عندما تتغير الأزمنة وتتبدل المعايير، تبقى قصائدهم ورواياتهم ومسرحياتهم تقرأ وتؤول بطرق مختلفة، بعيداً عن ميزان العقاب والثواب الذي يطال الساسة والحكام. فكيف استطاع الأدب أن يفلت من قبضة التاريخ؟!
إن الفرق الأساسي بين الأدب من شعر وقصة ورواية ومسرح، وبين القرارات السياسية؛ هو أن السياسة تبنى على الفعل المباشر، بينما الأدب يعتمد على التأويل، ويتكئ على الوجدان. فعندما يتخذ الحاكم قراراً، فإن أثره ملموس وفوري، وقد يغير وجه التاريخ، ويعيد ترتيب موازين القوى في العالم بشكل قطعي لا رجعة فيه، أما عندما يكتب شاعر قصيدة أو الكاتب رواية أو مسرحية تمجد شخصية ما، أو تخدم أجندة معينة شخصية أو عامة؛ فإن الزمن قد يعيد تفسيرها، أو قد تفهم لاحقاً أنها نوع من المناورة أو التعبير عن لحظة عابرة تتبع مزاج الكاتب أو تعكس فهمه الخاص، فالنصوص تعيش في حالة متجددة، وتقرأ من زوايا مختلفة، في حين تبقى القرارات السياسية مثبتة بوثائق وسجلات لا تقبل التأويل الواسع. لا شك أن الأدب يخلق أثراً أيضاً، لكنه أثر غير مباشر وغير حتمي. من هنا، فالتاريخ قد يغير وجهة نظره في الحاكم، لكنه لا يستطيع تغيير بيت شعر خالد أو يدين قائله.
ولعل النصوص الأدبية كانت الشكل الأكثر شفافية لحفظ التاريخ، فعلى ما فيها من مبالغات وخيال؛ ظلت أقرب إلى الصدق من كثير من تدوينات المؤرخين، بما في الأخيرة من تدليس يتبع قوننة وتأثير الجهات الرسمية التي استخدمتهم لذلك الغرض، فضلاً عن سهولة وضمان حفظ الأدب لأحداث التاريخ بالتواتر؛ كون الأدب حاضنة لضمير ووجدان الشعوب، خلاف الوثائق الديوانية التي تعرّض كثير منها للتلف مع الزمن والحروب وتغير أنظمة الحكم.
في الواقع لطالما كان الأدباء شهوداً على العصر، ولكنهم لم يكونوا دائماً محايدين. فقد كانت لهم تجاوزاتهم الأخلاقية، فبعضهم مثلاً قام بخيانات كبيرة، وكثيرون كتبوا في المدح والهجاء، فامتدحوا ملوكاً ثم عادوا ليذموهم، أو غيروا مواقفهم مع تبدل الظروف، ومع ذلك فنادراً ما تمت مساءلتهم كما يساءل السياسيون؛ لأن الأدب لا ينظر إليه بأنه قرارات حاسمة، بل تعبيرات عن لحظات زمنية معينة.
ولا يخفى أيضاً دور الجمهور في إعادة تشكيل سيرة الأديب الذي يدخل وجدانه، فأحياناً يقرر مكافاة الأديب الذي يدغدغ مشاعره ويناصر قضاياه، بالاحتفاء بجانب معين من الأديب وإهمال أو تبرير الجوانب المثيرة للجدل.
ولنا في (امرئ القيس) مثال واضح، على كيف أن الأدب ينجو من المحاسبة، حتى عندما يكون صاحبه مداناً سياسياً وأخلاقياً. فتحالفه مع الروم ضد قومه -وهو يعتبر خيانة عظمى- لم يمنع قصائده من البقاء خالدة، بل إن الكثيرين يرونه (ملك الشعراء) على الرغم من مجونه وتجاوزاته الأخلاقية التي لو قام بها أي شخص غير شاعر، لطواه النسيان في حال كان شخصاً عادياً أو خضع للإدانة التاريخية إن كان سياسياً.
هذا يثبت أن الشاعر يحاسب بالشعر، لا بالسيف ولا بالقانون، فقيم المجتمعات قد تتغير، لكن النصوص العظيمة لا توقفها المساءلات في طريقها إلى الخلود.
وكذلك كان حال (المتنبي) الذي مدح (سيف الدولة الحمداني) و(كافور الإخشيدي) وغيرهما من رجالات عصره، ثم هجاهم تبعاً لمصلحته الشخصية أو تغير في رؤيته لأي منهم؛ لم يمنع هذا التناقض من بقاء شعره خالداً، ولم يجرؤ أحد على محاكمته تاريخياً كما حاكم ممدوحيه.
وفي مثال أقرب من تاريخ الأدب المعاصر؛ يحضر (محمد مهدي الجواهري) الذي مدح العديد من الشخصيات السياسية والفكرية والأدبية في قصائده، كالملك فيصل الأول والملك الحسين بن طلال وجمال عبدالناصر ومصطفى البارازاني وعبدالكريم القاسم وحافظ الأسد وصدام حسين ومحمد رضا الشبيبي وأحمد شوقي.. وغيرهم، وما يثير الجدل ليس فقط كل هذا التناقض بين هذه الشخصيات؛ وإنما أيضاً في انقلابه على بعضهم عندما اقتضت الحاجة لذلك، فقد كان حاد الرأي، فلم يمدح شخصية إلا إذا رأى فيها ما يستحق ذلك، لكنه أيضاً لم يتردد في هجاء من خيب ظنه.
كل هذا التخبط السياسي وإن جعله يعيش في المنفى لسنوات طويلة، لكنه ترك له مهربه الخاص به، حيث بقيت قصائده خالدة وقابلة للنمو الدلالي مع تغيرات مواقفه مع الزمن.
على العكس منه كان (نزار قباني)، الشاعر الذي حارب الأنظمة السياسية العربية، فوجه لها انتقاداته اللاذعة، مهاجماً قمعها السياسي واستبدادها وتسلطها، دون أن تستطيع هذه الأنظمة قمع قصيدته التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم، لتتركه حياً في ذاكرة الجمهور وخالداً في الأدب العربي، وفي الوقت نفسه لم تقف بعض نصوصه الماجنة على اختلاف تأويلها من الحد من انتشاره في مختلف الأوساط الشعبية التي يخضع الكثير منها لتأثيرات المجتمع المحافظ وتابوهاته العتيدة التي كانت تحظر مثل ذلك التناول السافر في نصوصه، لكنه بغنائيته وسلاسته وقربه من العامة استطاع اختراق تلك التابوهات، بل ربما عزز بها من شهرته وجاذبيته الأدبية.
ربما يكمن السر في خلوده الأدبي وتحصينه ضد المحاكمة والإقصاء، هو أن شعره لم يكن مجرد اعتراض على الأنظمة بقدر ما كان تمثيلاً للحالة الثقافية والاجتماعية للشعب. فهو لم يهاجم الأنظمة فقط، بل انتقد أيضاً الواقع الثقافي والاجتماعي الذي سمح لهذه الأنظمة بالبقاء، وبذلك تحول إلى أيقونة تحمل الأمل والإنسانية والحرية، وبقيت قصائده خالدة، وشعبيته تزداد؛ لأن الأدب لا يحاكم بالقرارات السياسية، بل يقيم بالمعايير الفنية والجمالية وقدرته على التأثير في المجتمع.
وهذه الظاهرة لا تقتصر على الأدب العربي فحسب، بل تمتد في الأدب العالمي، حيث نجد شخصيات تركت أدباً خالداً رغم مواقفها السياسية أو سلوكياتها المثيرة للجدل. من أبرزهم: الفرنسي (فولتير) الذي كان فيلسوفاً وكاتباً ساخراً، دافع عن الحرية والتسامح، لكنه في بعض الأحيان تحالف مع السلطة، بل استفاد من دعم بعض الملوك والأمراء. ورغم ذلك بقيت أعماله الفلسفية والأدبية، مثل (كانديد) تدرس حتى اليوم، ولم يحاسب أدبياً على تناقضاته السياسية.
أما (جان بول سارتر) فقد واجه هجوماً سياسياً عنيفاً بسبب مواقفه الصريحة والمباشرة، وبخاصة دعمه للحركات اليسارية والشيوعية وانتقاده للرأسمالية والاستعمار. بينما (فولتير) ورغم أنه انتقد السلطات، إلا أنه كان فيلسوفاً ساخراً يجيد غواية اللغة واللعب بالكلمات، دون أن يدخل في صدام سياسي مباشر. فكان الاختلاف الأبرز أن (سارتر) كان ناشطاً سياسياً مؤثراً بقدر ما كان أديباً، وأثره في الفكر السياسي كان كبيراً لدرجة أن مواقفه لم تفصل بسهولة عن أدبه، ومع ذلك فقد بقيت أعماله مؤثرة وظلت فلسفته تدرس، مما يعني أن أدبه تجاوز محاكمته السياسية، لكنه لم ينجُ منها تماماً كما نجا الآخرون الذين لم يكن لهم دور سياسي مباشر مثله.
ولعل الحالة الأصعب منهما حالة مواطنهما (لويس فرديناند سيلين) الذي خان بلده فرنسا بتعاونه مع النازيين أثناء احتلالهم لها، ومع ذلك فإن رواياته مثل (رحلة إلى نهاية الليل) لا تزال تعتبر من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.
أيضاً الألماني (فريدريك نيتشه) الذي كان مفكراً ثورياً، لكن فلسفته أسيء تأويلها لاحقاً عندما ربطها النازيون بأيديولوجيتهم، ولم يلغِ ذلك تأثيره الفلسفي، ولم يحاسب أدبياً على التفسيرات التي أقحمت على كتاباته، بل ظل واحداً من أكثر الفلاسفة تأثيراً في العالم. ومثله الأميركي (إزرا باوند) الذي كان شاعراً حداثياً عظيماً، لكنه دعم الفاشية الإيطالية وبث خطابات مؤيدة (لموسوليني) خلال الحرب العالمية الثانية، ورغم أنه سجن بعد الحرب، لكن شعره لم يسجن معه ولا دفن بعده، وما زال يدرس بوصفه أحد أبرز رواد الحداثة الشعرية.
فالأدب لا يخضع للمحاسبة؛ لأنه ليس حكماً بل شهادة، وليس وثيقة سياسية مباشرة، بل انعكاساً للحظة تجسد حالة نفسية أو فكرية معينة. والأهم أن الأدباء الحقيقيين يتركون إرثاً يتجاوز الأسباب الملهمة له، ويخلدون بأعمالهم التي تحمل روح الإبداع والإنسانية، لا بالمواقف العابرة.
لذلك حمل الأدباء الحصانة، وظلوا فوق القوانين حتى بعد رحيلهم، وظل أدبهم خالداً، لم تحاكمه سوى أذواق الجمهور المتجدد عبر الأزمنة.
وإذا لم يحاكمه سابقاً السيف ولا قيدته البندقية، فهل سيبقى بمنأى عن إعادة التقييم في ظل المجتمعات الرقمية الحديثة وطريقة تعاطيها مع الأدباء، خصوصاً المعاصرين، وهل ما زالت (الحصانة الأدبية) قائمة أم بدأت التغيرات الثقافية تعيد النظر فيها؟
فبينما كان الأدب في الماضي محصناً بالتأويل والتقديس الثقافي، حيث الأديب شخص غامض ممثل بكتبه فحسب، بينما تنسى مواقفه المتناقضة مع الزمن، فإن (الإنترنت) أتاح للجمهور فرصة المساءلة المباشرة للأديب الذي أصبح حاضراً مباشراً من خلال التوثيق الفوري للمواقف والتصريحات، وسرعة النقد الجماهيري في وسائل التواصل الاجتماعي، مع إمكانية إبقائها شهادة حية عليه مما يمكن الأجيال القادمة من الحكم بأثر رجعي على سلوكه الشخصي، وليس فقط نصه الأدبي، كما رأينا مؤخراً من حملات التنديد والمقاطعة على (أدونيس) بسبب مواقف له قرنها جمهور عريض من السوريين بدلالات طائفية، قد لا ينجو (أدونيس) وغيره من معاصريه إلا كما نجا زملاؤهم السابقون في حال دخل أدبهم مزاج الأجيال الحالية والقادمة.
فالحصانة الأدبية حالياً لا يبدو أنها انتهت تماماً، والأدباء ما زالوا يحاسبون بالنصوص مادام الجمال فيها رسول شفاعة، لكنها أيضاً لم تعد مطلقة، بعد أن أصبح الجمهور جزءاً من المحاكمة، ولم تعد نتيجة حصرية للنقد الأدبي الذي يؤسس له نقاد قد يكونون منحازين مع أديب ما أو عليه.
سيستمر الأدب -لا شك- في رسالته الإنسانية ووظيفته الجمالية، وسيستمر الأدباء في رقصهم على حبال الزمن وتسللهم بين أصابع القانون. سلاحهم الفكرة ودرعهم المجاز وحجتهم الجمال، لكن هل سيبقون في المستقبل كما كانوا عبر العصور بمنأى عن المحاسبة، أم أن زمن المنصات الرقمية سيعيد ترسيم العلاقة بين الكاتب والجمهور، ويفرض معايير جديدة على نصوصه التي أخرجته إلى الضوء وستظل شاهدة عليه؟! أتراه سينكسر تحت هذا الضوء؟! لا، فالأدب نسيم لا يقيد، يعانق روح الإنسان ويغازل أحلامه، يعيد تشكيل جراح الكلام لتشفى تلقائياً في معاني جديدة، حتى وإن غيرت أيام الشاشات موازين محاكمته، سيظل قصيدة تتردد، وحكمة تجري في وجدان الأجيال، خالداً بجماله متمرداً على النسيان، شاهداً على أن الأدب هو الحياة حين تكتب بلا قيود.

ذو صلة