تُعد رواية (بقايا اليوم) (1989) للكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو إيشيجورو، والتي ترجمها للعربية طلعت الشايب وصدرت عن مؤسسة هنداوي عام 2017، استكشافاً عميقاً للذاكرة والواجب وانقضاء الزمن. تُروَى القصة من خلال عدسة ستيفنز، كبير الخدم الإنجليزي، حيث تتناول موضوعات الاحترافية والتضحية الشخصية وثقل الفرص الضائعة. تدور أحداث الرواية في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تعكس تراجع الأرستقراطية والتغيرات الاجتماعية المتسارعة من خلال الرحلة الشخصية للبطل.
شخصية ستيفنز.. الواجب على حساب الإشباع الشخصي
يجسد ستيفنز صورة الخادم الإنجليزي التقليدي - المتحفظ، الموقر، والمكرس تماماً لمهنته. يطغى شعوره بالواجب تجاه اللورد دارلينجتون على رغباته الشخصية، مما يشكل هويته ونظرته للعالم. على مدار الرواية، يتأمل ستيفنز في ماضيه بتركيز شبه مهووس على سلوكه المهني، متجنباً غالباً فحص حياته العاطفية بشكل أعمق. يمنعه التزامه بالخدمة من بناء علاقات شخصية ذات معنى، خصوصاً مع الآنسة كينتون، مدبرة المنزل السابقة، التي تربطه بها علاقة غير معلنة.
ستيفنز ليس مجرد شخصية هادئة ومتقنة لعملها، بل هو روح سجنتها التقاليد في قفص منضبط ظاهرياً، تضيق جدرانه كلما اشتدت الحاجة إلى الانفلات.
تتخذ الرواية شكل رحلة قصيرة بالسيارة، لكنها تتوسع لتصبح تأملاً طويلاً في ممرات الماضي المعتمة. يتوارى تحت التفاصيل اليومية، التي يمضيها ستيفنز في رعاية قصر أرستقراطي، كم هائل من الحنين والأسى والفرص الضائعة. وفي كل ميل يقطعه بعيداً عن قصر دارلنجتون هول، تشتعل داخله الأسئلة: هل كانت تلك العناية المفرطة بالواجب تستحق كل هذا الفقد؟ وهل يمكن لبوح متأخر أن يعيد صياغة ما اندفن من مشاعر؟
الآنسة كينتون وموضوع الفرص الضائعة
تمثل الآنسة كينتون الطريق غير الممهد في حياة ستيفنز. تتسم تفاعلاتهما بمشاعر مكبوتة وعواطف غير معلنة، ومع ذلك، لم يسمح ستيفنز لنفسه أبداً بالتصرف بناءً على مشاعره. يمنعه التزامه الصارم بالمهنية من تبني حياة تتجاوز حدود الواجب. وعندما يلتقي بالآنسة كينتون بعد سنوات، يدرك متأخراً أنها مضت في حياتها، وأن قراراته التي فضلت الخدمة على السعادة الشخصية قد شكلت مجرى حياته. يعكس هذا الإدراك تأمل الرواية في ضياع الوقت واستحالة استعادة الماضي.
رمزية الرحلة
توازي الرحلة الجسدية التي يقوم بها ستيفنز عبر الريف الإنجليزي رحلته الداخلية لاكتشاف الذات. وخلال سفره للقاء الآنسة كينتون، يُجبر على مواجهة حقائق ماضيه والخيارات التي حددت وجوده. يعكس المشهد الريفي الإنجليزي، بجماله الهادئ وعظمته المتلاشية، تراجع الأرستقراطية وتلاشي أسلوب حياة ستيفنز. وبحلول نهاية الرواية، يصبح إدراكه لحدوده الشخصية وندمه واضحاً، وإن كان بطريقة خافتة.
(ستيفنس) في هذه الرواية، يعكس أفكار وتأملات (إيشيجورو) الخاصة، وعدم وضوح الرؤية لديه، والتمادي في السير في الاتجاه الخطأ. وشخصيته مرسومة بعناية فائقة، تُبرز مزايا وعيوب الطبيعة المتحفظة. فهو شخص رزين، محترف، يحاول أن يحافظ على النظام والانضباط ومستوى الخدمة الممتاز في قصر مخدومه. هذه الجهود كلها تفيض على حياته الشخصية، وتطغى عليها مُخلّفةً رجلاً غامضاً بقلب أجوف. والكاتب يقدم لنا في الرواية أيضاً رجل سياسة أمريكياً، وهو (مستر فراداي)، ويرسم شخصيته بمعالم واضحة لكي يظهر التناقض بين الثقافتين. هذا الدبلوماسي، المالك الجديد للقصر، يأتي بعد صاحبه الإنجليزي الذي لطخ وجه إنجلترا بالعار بتأييده للنازي. لكن (ستيفنس) مخلص للمالك الجديد أيضاً على الرغم من أنهما على طرفي نقيض.
جماليات السرد في الرواية
(إيشيجورو) يكتب بأسلوب شديد الاقتصاد، لا يُقدّم إلا التفاصيل الضرورية، بل إنه كثيراً ما يقول شيئاً، وهو يعني شيئاً آخر. كتاباته خليط من الاستعارات المنفصلة والتلميحات والتشبيهات والتداخلات الغامضة بين الشخصيات. وهو كاتب مدهش في تقديم شخصيات ثانوية تحيط بأبطاله، فتبرزهم عن طريق العلاقة التي تربطهم معاً.
كما يتميز سرد (بقايا اليوم) بأسلوب متقن يجمع بين البساطة والعمق، حيث يعتمد إيشيجورو على تقنية السرد غير الموثوق به من خلال صوت ستيفنز الداخلي. تتجلى جمالية السرد في طريقة تقديم الذاكرة والتأملات الشخصية للبطل، حيث يقوم الراوي بإعادة تفسير ماضيه بطريقة تكشف عن التناقضات والإنكار. يتسم السرد بلغة هادئة ومنضبطة تعكس شخصية ستيفنز، مما يخلق تناقضاً بين الأسلوب والموضوعات العاطفية الكامنة، حيث يسترجع ماضيه بوجهة نظر متحيزة. يبرر ولاءه للورد دارلينجتون رغم تورطه مع النازيين، مما يكشف عن حاجته العميقة لإضفاء الشرعية على حياته المهنية. يبرز انتقائية ستيفنز في استرجاع الذكريات وخداعه لنفسه حدود الذاكرة وصعوبة مواجهة الحقائق غير المريحة. ومع تقدم الرواية، يبدأ القارئ في إدراك الثغرات في سرده، مدركاً الندم والمشاعر غير المعترف بها التي تختبئ تحت واجهته المتحفظة.
إيشيجورو كاتب يتقافز بأفكاره جيئة وذهاباً في الزمن، ويستخدم الذكريات وتداعياتها وردود الفعل ليصوّر الظروف التي تجسّد شخصياته. يخدعنا في كثير من الأحيان ويتركنا مرتبكين بسبب نقص في القص أو عدم الوضوح. ولكنه يعتبر ذلك إستراتيجية في كتاباته، فالمعلومات الشحيحة التي يريد بها لأن يجعلنا نشحذ الذهن والخيال في أمور البشر، تضعنا في عالم ضبابي وملتبس لكي نستخلص صفاتنا الخاصة من الحكاية. لا يصف لنا بدقة أو تحديد ذلك المشهد الذي نهمّ بتصوره، لذلك يُشبِّهه بعض النقاد بـ(كافكا) عندما يستخدم أساليب معقدة تشبه الحلم وهو يصف شخصياته. وهو تكنيك يجبر القارئ على المزيد من إعمال الخيال وشخصنة القصة والاشتراك في كتابتها إن جاز التعبير.
فلسفة الزمن في الرواية
يعد الزمن أحد الموضوعات الفلسفية الجوهرية في بقايا اليوم، حيث يتجلى في الطريقة التي يتعامل بها ستيفنز مع الماضي والحاضر والمستقبل. يهيمن الماضي على وعيه، ويعيد تشكيل ذكرياته باستمرار في محاولة لتبرير قراراته السابقة. ومع ذلك، كلما تقدم في رحلته، يبدأ في إدراك أن استرجاع الماضي لا يمكن أن يغير الحاضر، وأن الفرص التي ضاعت لا يمكن استعادتها. الزمن في الرواية ليس مجرد إطار للأحداث، بل هو قوة فاعلة تعكس تأثيرات الندم والعجز عن التغيير. يسائل إيشيجورو عبر الرواية كيف يشكل وعينا بالزمن فهمنا للذات، وكيف أن التعلق بالماضي قد يكون عقبة أمام التغيير والنمو الشخصي.
الخاتمة
(بقايا اليوم) هو تأمل مؤثر في الذاكرة والواجب وكلفة الكبت العاطفي، كما أنها مثال رائع على جمالية السرد المتقن. يتيح أسلوب إيشيجورو الدقيق والمحفوف بالطبقات للقارئ تجربة رحلة ستيفنز بتعاطف، حتى عندما يدرك عزلته التي فرضها على نفسه. تعمل الرواية كتذكير قوي بأهمية تحقيق التوازن بين الواجب والإشباع الشخصي، وضرورة احتضان الحياة قبل أن تنقضي الفرصة. من خلال تأملات ستيفنز، يصوغ إيشيجورو سرداً خالداً يتردد صداه مع التجربة الإنسانية العالمية من الشوق والندم.
(بقايا اليوم) مثل كل الأعمال الإبداعية الكبرى، عمل عضوي متماسك، متكامل الأجزاء، كل مشهد وكل شخصية تضيف إلى الصورة الكلية وتُبرزها، وأسلوب الكاتب المحكم يناسب موضوعه تماماً، كما هو مناسب لشخصية الراوي الذي يسافر بسهولة بين المراحل الزمنية المختلفة. وباستدعائه الساحر للفكاهة والسخرية، يبدو (إيشيجورو) سيداً في استخدام أدواته. تلك كلها عناصر تجمعت في الرواية لكي ترسم صورة نفسية وثقافية واضحة المعالم تُعبّر عن فكرة (إيشيجورو) الدائمة، الفن وخداع الذاكرة.